دور المرجعية الدينية الفاعلة في التطور السياسي والاجتماعي للمجتمع العراقي وبناء شخصية الفرد العراقي  :

السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قده) انموذجا

 

الباحث:الاستاذ الدكتور احسان عيدان عبد الكريم السيمري

كلّية الطب – جامعة البصرة

بسم الله الرحمن الرحيم

فَلَولا نَفَرَ مِن كلّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفةٌ لِيَتَفَقَّهوُا في الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إذا رَجَعوا إلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ الآية (122 )التوبة

مسوغات الدراسة

     بسبب الضبابية والغفلة التي تعيشها الأمة في هذه الأيام العصيبة وذلك بعد إثارة الشبهات والاستفهامات على المرجعية الدينية من قبل الوصوليين والعملاء والاستكبار العالمي ،وبسبب الشك والالتباس الذي يدور بخلد الكثير من الناس حول هذه المؤسسة الحقة ،لذلك رأينا أن نقوم بتكلّيفنا الشرعي للدفاع عن هذه المؤسسة العظيمة من خلال التعريف بالمرجعية الدينية وتوضيح المواقف والأدوار التي قامت وتقوم بها تجاه القضايا السياسية والاجتماعية والحياتية وغيرها من القضايا التي تهم الإسلام والمسلمين والتركيز على القضايا السياسية لانها محور البحث الحالي،فضلاً عن ذلك  تقديم عرض موجز لبعض المواقف العملية لعلمائنا العظام ضد الانحرافات الفكرية والسياسية السلبية منها أو الايجابية التي قام بها العملاء والاستكبار العالمي .

وبالاخص سنتناول بالبحث والتحليل دور المرجعية الدينية للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قده) في بناء المقومات السياسية والاجتماعية للمجتمع العراقي ودورة المؤثر والفعال في بناء شخصية الفرد العراقي

 

المقدمة

لقد كان للمرجعية الدينية الشريفة دور فاعل في أحداث العراق والمنطقة قبل سقوط النظام لا يمكن لأحد إن يتجاهله، إذ يعود تاريخ مشاركة علماء الدين العراقيين في صميم السياسة إلى سنوات الحرب العالمية الأولى، حيث دعا علماء الشيعة للجهاد مع العثمانيين ضد الإنجليز، واسهم بعضهم في القتال فعلا، ثم الانتفاضة الشعبانية عام 1991، إلا إنّ تنامي دورها الأساس والرئيس في الشؤون العامة ظهر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وبعد صعود التيارات السياسية الإسلامية والقومية والمدنية إلى السلطة في العراق اثر سقوط النظام البائد ، ظهرت بعض الأصوات الشعبية تطالب بإشراف ورعاية المرجعية الدينية في النجف الاشرف للعملية السياسية في العراق وعدم ترك الأمور بيد الاحتلال وتلك التيارات السياسية المختلفة، وفعلا دعت المرجعية الدينية الشريفة إلى اخذ رأي الشعب في كلّ الأمور التي تخص البلد ابتداء من الدعوة لتشكيل حكومة عراقية وإنهاء سلطة الاحتلال المؤقتة، ثم الدعوة لكتابة دستور دائم للبلاد من قبل العراقيين، والدعوة أيضا لإجراء انتخابات حرة ونزيهة لانتخابات أعضاء المجالس المختلفة.

 وانطلاقا من أهمية تظهير التجارب التي تجسد الأفكار الحية في الأمة ،سنقترب في هذه الدراسة من تجربة دينية وسياسية واجتماعية مختلفة في ظروفها واليات عملها ، ألا وهي تجربة الشهيد السيد محمد صادق الصدر رحمه الله تعالى (1943-1999م ) الذي استطاع في فترة زمنية وجيزة وفي ظل نظام الطاغوت في العراق من تطوير الحالة الدينية في المجتمع العراقي وتعزيزها وربطها بآفاق الإصلاح والتغيير ، بحيث تحول السيد الصدر وتياره ومدرسته إلى قوة فاعلة في المشهد العراقي .

ويتضح من ما ذكر أعلاه ، أن تجربة السيد محمد محمد صادق الصدر ، واجهت في العراق في آن واحد مشكلّتين أساسيتين وهما :

1- القوى الاجتماعية والثقافية والدينية التي تنتمي إلى الأفكار الميتة ، وتريد تأبيد الجمود والتخلف ، وإدامة المشكلّات الكبرى التي تواجه الشعب العراقي . فهي قوى لا تكتفي بتثبيط العاملين وتشويه سمعتهم ومسارهم ، وإنما تعمل على عرقله جهودهم ، ومنع انتشارهم وتوسعهم الاجتماعي .

2- قوى الاستبداد السياسي التي كانت تتمثل وتتجسد آنذاك في النظام السياسي الصدامي وامتداداته الأمنية والثقافية والاجتماعية ، وهي نموذج للأفكار القاتلة ، التي لا تحتمل الاختلاف . فإما أن تكون معها ، وخاضعا لأجندتها وخططها ، أو تتحول إلى موضوع لنبذها وممارسة أقسى أشكال الحيف والظلم تجاهها .

فالنظام السياسي الصدامي والذي يستند في إدارته وحكمه للعراق ، إلى بنية أمنية ، قمعية لا تعرف إلا لغة الاعتقال والاغتيال لذلك عانى السيد الصدر في ظل هذه القوى معاناة شديدة على أكثر من مستوى .

ولعل تميز الشهيد الصدر وعبقريته  تتجلى في قدرته على بناء قوة دينية ومجتمعية في ظل جمود ديني واجتماعي يحارب كلّ من يتحرك من أجل رفع الظلم والحيف عن مجتمعه . وفي ظل سلطة أمنية قمعية ، مارست كلّ أشكال الاستئثار والقمع لإدامة سلطتها .

في ظل هذه الأوضاع ومتوالياتها الأمنية والسياسية والدينية والاجتماعية ، اجترح السيد الشهيد لنفسه طريقة جديدة تمكنه من الاستمرار في عمله الديني والاجتماعي ، دون القضاء عليه من قبل هاتين القوتين ، والذي يجمعها تحالف موضوعي غير مباشر ، يفضي إلى استمرار الهيمنة الأمنية والسياسية ومن جهة أخرى استمرار حالة الخضوع الديني والاجتماعي .

ملامح التجربة :

ولعل من أبرز ملامح حركة السيد الشهيد الصدر هي النقاط التالية :

1- التواصل والتفاعل المباشر مع المجتمع بكلّ شرائحه وفئاته ، وعدم التعالي على قضاياه وهمومه. وذلك ضمن رؤية عميقة تبناها السيد الشهيد مفادها : أن عالم الدين وبالذات في المجتمعات الإسلامية - الشيعية هو ضمير الناس والناطق بقضاياهم وهمومهم وآمالهم . ولا يمكن أن يتحقق مفهوم ( ضمير الناس ) بدون التواصل مع الناس والإنصات إليهم والتفاعل معهم والدفاع عن قضاياهم  . وقد نجح السيد الشهيد على هذا الصعيد ، إذ توسعت قاعدته الاجتماعية على نحو هندسي ، وأضحى السيد الشهيد رمزهم الديني والاجتماعي  والناطق باسمهم والمدافع عن حقوقهم . وتحول هذا التواصل والتفاعل إلى حالة مؤسسية ودائمة من خلال شبكة الوكلّاء الشرعيين الذي عينهم السيد الشهيد في محافظات العراق المختلفة ، واسهموا بشكلّ مباشر في تطوير نظام العلاقة والتواصل بين شرائح المجتمع المختلفة وزعيمهم الديني - السياسي السيد الشهيد الصدر .

 لذلك وخلال فترة زمنية وجيزة نسبيا تحول السيد الشهيد إلى قوة دينية واجتماعية رئيسة في المشهد العراقي .

ولابد في هذا السياق من بيان حقيقة ألا وهي : أنه ثمة مزاج أو توجه في الحوزة العلمية خلال الحقب الماضية مفاده عدم الاعتناء المباشر بالناس وهمومهم والتعالي عن قضاياهم ، والانشغال بالتحصيل العلمي بعيدا عن الالتزامات الاجتماعية والسياسية. لذلك فإننا نرى في مشروع وجهد السيد الشهيد شجاعة في تجاوز الكثير من الأعراف الضمنية التي كانت تحول دون انشغال عالم الدين بالشأن السياسي والعام بشكلّ مباشر . في الوقت الذي يتطلع أبناء المجتمع إلى دور مركزي يقوم به عالم الدين في شؤونهم العامة ، كان المزاج العام (وهو بالمناسبة وليد عوامل ذاتية وموضوعية ) ضد ذلك ، إلا أن السيد الشهيد تجاوز كلّ هذه المقولات والاعتبارات وعمل على الاهتمام بقضايا الناس والتفاعل مع كلّ مسائلهم . ولعل أحد أهم العوامل التي اسهمت في توسع قاعدته الاجتماعية في فترة زمنية وجيزة ، هو هذا السلوك الاجتماعي الذي يملأ فراغا هائلا في مسيرة الشعب العراقي وبالذات في المدة التي انطلق فيها السيد الصدر في مشروعه الديني والسياسي .

2- العمل على بناء نخبة دينية جديدة ، تأخذ على عاتقها مهمة التواصل الفعال مع تعبيرات المجتمع المختلفة ، وتوسيع دائرة الوعي الديني في المجتمع . لأنه في أي تجربة إصلاحية ثمة حاجة ماسة إلى حامل بشري واجتماعي للأفكار الإصلاحية ، لأنه بدون الحامل البشري تبقى التطلعات مجردة وبعيدة عن التحقيق والانجاز .

أما إذا توفر الحامل البشري ، فإن هذا الحامل قادر على ترجمة أفكار المشروع وتطلعاته إلى الواقع العملي ، وأنه هو الذي يقود عملية الإصلاح الديني والاجتماعي ، ويكون هو جسر الارتباط بين الزعيم الديني وعموم الناس .

ولعل ما يلفت النظر أيضا في تجربة السيد الشهيد الصدر ، هو انخراطه المبكر في إعداد نخبة دينية واجتماعية وتهيئتها ، تؤمن بمشروع الإصلاح وقادرة نفسيا وعمليا على تحمل تبعاته .

ولقد تمكن السيد الصدر خلال مدة وجيزة من بناء نخبة دينية انتشرت في كلّ محافظات العراق ، وأخذت على عاتقها مشروع التبليغ الديني وزيادة وعي الناس ومعارفهم الدينية والحياتية ، وربطهم بمشروع الإصلاح والتغيير الذي يقوده السيد الصدر من أجل تحرير العراق من الاستبداد والاستئثار ، عبر بناء كتلة وطنية منتشرة في كلّ العراق ، تمتلك الوعي والمعرفة الدينية والسياسية ، التي تؤهلها للوقوف ضد مشروع استمرار الاستبداد في العراق .

وقد عمل السيد الصدر في هذا السياق على إحياء دور النجف العلمي والثقافي لأنه لا يمكن بناء نخبة دينية جديدة بدون حاضن علمي ، يطور من مستوى اهتمام الناس بالمسألة العلمية والثقافية  .

وحتى ينجح السيد الصدر في هذا المشروع ، عمل السيد على تحييد السلطة السياسية وأبعادها قدر المستطاع عن التدخل في الشأن الحوزوي ، ومنع أية إثارة أو مشكلّة تلفت نظر السلطة وتدفعها إلى معاودة إجهاض المشروع الديني والاجتماعي للسيد الصدر .  

3-الرهان على الناس لتغيير المعادلات السياسية والاجتماعية القائمة .. ففي ظل السيطرة المطلقة للنظام البعثي في العراق على مجريات الحياة ، وفي سياق هيمنة الأجهزة الأمنية وسطوتها ، ومنعها بقوة الحديد والنار لأي عمل ونشاط بعيد عن إرادة السلطة ومشروعاتها الأمنية والسياسية ، تمكن السيد الشهيد الصدر من تغيير بعض جوانب هذه المعادلة ، وذلك عبر الاهتمام بالناس وإحاطتهم الدينية والاجتماعية ، والحؤول دون انخراطهم في أنشطة وأجهزة السلطة هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لإخراجهم من حالة اليأس والإحباط التي كانت تسودهم وبالذات بعض إحباط انتفاضة 1991م ووصولها إلى مآلات لم تكن منسجمة ومجريات ويوميات هذه الانتفاضة المجيدة .

فالسيد الصدر ومن خلال رهانه على الناس ، والعمل المستديم لصقل مواهب وقدرات هؤلاء وصبها في مشروع الإصلاح والتغيير ، تمكن من إخراج شريحة اجتماعية واسعة من الشعب العراقي من تأثيرات السلطة السياسية والأمنية في العراق ، ونقلهم من مربع الفرجة والشعور العميق باليأس والإحباط ، إلى رحاب الفعالية والانخراط الفعلي في مشروع التغيير والإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي .

وتعلمنا تجربة السيد محمد صادق الصدر ، أن عنصر القوة الحقيقي لدى أي جماعة ، يتجسد في قاعدتها الاجتماعية ومدى التفاف الناس حولها . ولقد أجاد السيد الصدر عبر آليات عمله الاجتماعي والخدمي والميداني ، من توسيع قاعدته الاجتماعية والتفاف الناس حوله . وعبر الناس وبطاقاتهم وجهادهم وجهودهم  وتضحياتهم ، تمكن السيد الصدر من تغيير الكثير من المعادلات السياسية والاجتماعية القائمة آنذاك في العراق . فقوة المشروعات الدينية والاجتماعية والسياسية ، هو في مدى احتضان الناس إليها ، والناس بطبعهم يحتضنون المشروعات التي تعبر عن قضاياهم وآمالهم .فالقوة لا تستعار من أحد وإنما تبنى بناءً وهذا ما تمكن السيد الصدر من تحقيقه وإنجازه في ظل ظروف أمنية وسياسية صعبة .

وتجربة السيد الصدر على هذا الصعيد ، تؤكد حقيقة أن من أبجديات السياسة أنّ حقائق المجتمع المختلفة ، قادرة إذا أحسن الناس إدارتها وتوظيفها أن تتحول إلى حقيقة في الميدان السياسي .

وإن قضاء حوائج الناس سواء الخدمية أو التنموية أو في مجالات الحياة الأخرى ، هو أحد سبل التمكن في المجتمع . وحينما تتغير ثقافة الناس ، وتنتقل من ثقافة  اللا أبالية إلى ثقافة المسؤولية ، فإن هؤلاء الناس سيتحولون إلى قوة دافعة ومؤثرة في مشروع الإصلاح والتغيير .

ولقد كانت لدروس السيد الصدر وخطب الجمعة الذي خاطب فيها الجمهور بلغة بسيطة ، مباشرة ، الدور الأساسي في تغيير ثقافة الناس ، وتحويلها من ثقافة الخوف والإحباط إلى ثقافة تحمل المسؤولية وضرورة مواجهة كلّ أشكال الظلم والحيف الذي نتعرض إليه . وأي جماعة أو تيار أو حزب تتسع قاعدته الاجتماعية ، ويتمكن من محيطه الاجتماعي، فإن مساحة فعله وتأثيره ستتسع تبعا لقوته الاجتماعية وبمدى قبول الناس لرؤيته ومواقفه المختلفة .

العراق في فكر السيد الصدر :

انطلاقا من ملامح التجربة المذكورة آنفاً ، يمكن تلمس رؤية السيد الصدر حول العراق واكتشافها راهنا ومستقبلا . ولعل جذر الرؤية التي امتلكها السيد الصدر حول العراق ، نابعة من حاجة هذا البلد العريق إلى الإصلاح والتغيير . وإن هذا الإصلاح والتغيير ، هو الذي سيعيد للعراق وحدته الصلبة ، وتخلصه من براثن الاستبداد الشمولي الذي دمر عناصر القوة الحقيقية في الواقع العراقي .

فالمطلوب عراقيا في رؤية السيد ، ليس الانزواء والانكفاء والاشتغال بعيدا عن القضية المركزية ، وإنما بناء مشروع ديني - ثقافي - اجتماعي ، يأخذ على عاتقه تفكيك حوامل الاستبداد والاستقالة من المسؤولية والعطالة المجتمعية ..ولإنجاز هذه المسائل توسل السيد الصدر بالوسائل الأساسية التالية :

   1- بناء علاقة المرجعية الدينية وتطويرها بكلّ مؤسساتها وهياكلّها بالمجتمع ، وإنهاء حالة الجفاء أو التعالي التي ساهمت في تضييع الكثير من الفرص السياسية والمجتمعية .

وأنطلق السيد الصدر في عملية البناء والتطوير من حقيقة مركزية في تجربة الشعب العراقي في العصر الحديث ، وهي أنه حينما تتحرك المرجعية الدينية وتتحمل مسؤوليتها العامة بشكلّ مباشر ، فإن قوى الشعب العراقي المختلفة ستتحرك وتلاقي المرجعية في منتصف الطريق لحمايتها من المخاطر الداخلية والخارجية ودعم مشروعها العام وإسناده .

لذلك فإن لحظات العنفوان في تجربة الشعب العراقي ، هي تلك اللحظات الذي تلاحم فيها المشروع المرجعي مع مشروعات القوى السياسية والاجتماعية للشعب العراقي .

وإن حجر الأساس في مشروع الإصلاح والتغيير هو المرجعية الدينية وتفاعلها المؤسسي مع قضايا الشعب العراقي .. لذلك فإن من أولويات الأعمال والأنشطة التي قام بها السيد الصدر الثاني هو العمل المباشر على تطوير نظام العلاقة بين المرجعية الدينية وقوى الشعب المختلفة .

2- العمل عبر وسائط دينية وثقافية عديدة لزيادة وتيرة الوعي الديني والحقوقي والسياسي في المجتمع . وذلك ضمن قناعة أساسية وهي أنه كلّما أزداد وعي الناس ، توفرت فرص فعلية في مشاركة شرائح اجتماعية عديدة في الشأن العام . وإن قوى الاستبداد السياسي تراهن دائما لبقاء واستمرار هيمنتها على جهل الناس وهروبهم من تحمل المسؤولية .

لذلك فإن جوهر النشاط الديني والثقافي الذي قام به الصدر الثاني يستهدف تأسيس قيمة الوعي في الفضاء الاجتماعي وتعزيزها ، وذلك بوصفه هو جسر عبور قوى المجتمع للتعبير عن ذاتها في الشأن العام .

ولقد [ شكلّت صلاة الجمعة المحور التعبوي الأبرز في حركة الصدر الثاني أزاء المجتمع ، ونجاحها حرض السلطة لوضع حد لها من خلال اغتياله . ورغم أنها مثلت آلية تعبوية بشكلّ دوري ، فإنه - أي الصدر الثاني - لم يكتف بها في سياسة التحشيد الاجتماعي التي عمل بها . بل أنه حاول من خلال هذه السياسة أن يجعل من المناسبة الدينية محورا من محاور اهتمامه لما تحققه هذه المناسبة الدينية من حضور جمعي . ولذلك فهو تعامل مع مسيرة الأربعين إلى كربلاء بشكلّ يعكس اهتمامه بأي إجراء يحقق حالة تعبئة عامة في وسط الأمة . ومن ثم استثمر هذه المناسبات في مشروعه التغييري الكلّي ، وحث عليها ، إنّه حاول أن يؤسس لمناسبات جديدة ، بغية إيجاد أكبر عدد من آليات الاتصال بالناس ، ومحاولة تدريبهم على تأدية تأثير معين وفق ضوابط ، وإرشادات القيادة الدينية وبالتالي ربطهم بها ]

3- بناء كتلة مجتمعية متجانسة ومتعاونة وتعمل على تعميق حالة الوعي الديني والسياسي في المجتمع .

وبفعل ما أبدعه السيد الصدر الثاني من وسائل للتواصل مع الناس ، وتوظيف المناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة لزيادة وتيرة التعبئة والتحشيد الاجتماعي  ، تمكن (قدس سره) من بناء هذه الكتلة التي تضم آلاف المقلدين والملتزمين بمشروع الصدر الثاني في العراق ورؤيته..

ومع سقوط الطاغية صدام في عام 2003م ، برزت هذه الكتلة الاجتماعية الواسعة التي عمل السيد الصدر في زمن الطاغية على بنائها وتأهيلها دينيا ومعرفيا .

والعراق بالنسبة إلى السيد الصدر الثاني يعني :

1- البلد العربي - الإسلامي الذي يجب أن يعود إلى عروبته الصافية وإسلامه الأصيل . وإن الأنظمة السياسية التي نزت على العراق وعملت على تفريغ شعبه من جوهره الإيماني هي من ألد أعداء العراق ، وهي بحاجة إلى مواجهة ومجابهة . وبالتالي فإن مشروع السيد الصدر الديني والاجتماعي يتجسد في إعادة العراق إلى حضنه العربي والإسلامي الأصيل .

2- إن الاستبداد السياسي الشمولي واستئثار فئة قليلة من أهل الحكم بمقدرات البلد وثرواته ، هو الذي ساهم في إبعاد العراق عن حضنه الإسلامي الأصيل . ولا عودة للعراق إلى إسلامه وقيمه الأصيلة إلا بتحرير العراق من طغمة الاستبداد السياسي .

لذلك فإن الساحة العراقية في منظور السيد الصدر الثاني ، هي ساحة للصراع والمجابهة بين خيارين : خيار الاستبداد والاستئثار والتغريب الذي تقوده طغمة البعث الحاكمة في العراق . وخيار الإيمان والحرية والكرامة الذي يقوده الصدر الثاني .

وكلّ الجهود والتضحيات المبذولة من السيد الصدر الثاني وتياره وجمهوره العام ، هو من أجل تثبيت مشروع الحرية والكرامة للعراق والعراقيين .

3- إن القوة الحقيقية لأنظمة الحكم الاستبدادي في العراق نابعة من غياب وتغييب الناس عن الشأن العام . لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تحرير العراق من نزعات الاستئثار والاستبداد هو في استحضار الجمهور إلى الميدان العام . ولا حضور إلى هذا الجمهور إلى ميدان المواجهة والتصدي إلا بتغيير منظومته الثقافية ونظرته إلى ذاته وفضائه العام . وهذا ما عمل من أجله السيد الصدر الثاني . فعمل بإرادة صلبة وعمل مستديم على بناء ثقافة جديدة للشعب العراقي ، تكنس ثقافة الفرجة والتخلف والخوف من مواجهة المستبد ، إلى ثقافة الحرية والمسؤولية والقدرة على التغيير والإصلاح . لأن الاستبداد ليس قدرا مقدرا علينا ، وإنما هو نتاج تخلفنا وتغيبنا عن الميادين العامة وصمتنا عن مواجهة الأخطاء والانحرافات .

ففي ( ظل تحولات خطيرة وكبيرة عاشها العراق وأدخلته في ظروف الحصار والجوع والقمع الداخلي المتزايد ، تصدى الشهيد السيد محمد صادق الصدر للمرجعية ، ولم يحسب أحد في حينه أن هذه المرجعية ستخلق ظاهرة تحول كبيرة وستقود جهدا تغييرا للواقع العراقي ، وستهز هذا الواقع من جذوره ، ومن ثم توجد أنماط جديدة من علاقة المرجع بالسياسة ، وعلاقته بالسلطة ، وعلاقته بالأمة وإصلاحا حوزويا واجتماعيا بالشكلّ الذي حصل ، وبالإضافة إلى ذلك تكتشف آليات إصلاح وآليات تواصل ومنظومة مفاهيمية لم تكن سائدة ومتعارفة ، وتشكلّ إبداعا ذاتيا وخصوصيات لتجربة مرجعيته أضافت إلى تجارب الفقيه الشيعي عبر التاريخ الثوري إضافات معرفية وفقهية واضحة ، معززة بسلوكية ثورية ، وخيار فقهي استشهادي له خصوصيته ووضوحه )

ومن المؤكد أن النهج والطريق الذي سار عليه السيد الصدر الثاني ، لم يكن معبدا أو سهلا ، لأنه عمل في ظل أوضاع العراق الأمنية والقمعية ومن خلال هذه الظروف الصعبة تم اكتشاف ممكنات العمل ، وتوسيع دائرة المتاح ..

وهذا لا يتأتى في بداية العمل إلا ببذل الجهود والمواقف التي تستهدف تحييد السلطة والحؤول دون إجهاضها للعمل والتجربة في مهدها .

ولقد تحمل الصدر الثاني في هذا الطريق الكثير من الاتهامات والظنون السيئة ، التي تشك في مسيرته وتتهمه في خياراته . إلا أن صبره وتحمله الأذى في سبيل الله ، هو الذي أوصل المشروع إلى مآلاته ، التي جعلت السلطة تستهدفه وتحاربه حتى وصل مشروع السلطة إلى اغتياله مع ولديه بتاريخ [ 19/2/1999 م ] ..

فالأوضاع السياسية الداخلية في العراق ، لا تتحمل آنذاك مشروعات دينية وسياسية قائمة على المعادلات الصفرية . لذلك نجد أن الساحة الإسلامية العراقية انقسمت آنذاك على قسمين : من لديه الاستعداد للعمل والحركة إما أصبح داخل السجون والمعتقلات وبالتالي الإعدام ، أو هاجر خارج العراق للانطلاق في العمل السياسي بعيدا عن ضغوطات السلطة المباشرة . ومن بقي في العراق حاول أن يحافظ على نفسه بالابتعاد عن الأنشطة الحركية والسياسية . وهذا أفضى إلى حالة من الجمود والانزواء.

ولعل القيمة الأساسية لتجربة الصدر الثاني هو أنه لم يختر الهجرة مع العلم أنه تعرض للاعتقال والتعذيب ثلاث مرات ، وإنّه لم يقبل لنفسه الانزواء والجمود والهروب من ساحة العمل الديني والاجتماعي . فاجترح لنفسه طريقة في العمل شائكة ومليئة بالتحديات سواء من قبل السلطة الغاشمة أو قوى المجتمع التي كانت تعيش الجمود ومتوالياته .

ولو تأملنا في مآلات هذه التجربة وطبيعة التيار الذي أسسه الصدر الثاني في العراق ، فإنه يدفعنا إلى الاعتقاد الجازم أن ما قام به الصدر الثاني في العراق ، يعد ثورة دينية ، إصلاحية بدون ضوضاء ، وإنما بالعمل النوعي الذي أنتج هذا التيار الواسع في كلّ محافظات العراق .

المبحث الاول:  قائد شعبي في الزمن الصعب

لقد كان هذا الرجل الشهيد ( الصدر الثاني ) قائدا شعبياً وتلميذاً نجيباً من تلامذة أهل البيت عليهم السلام،  وكان علماً بارزاً قل نظيره في ذلك الزمن الصعب زمن الشح والتصحر الذي ظهر فيه الفساد.

 بناء خط جديد للمرجعيه الشعبية

بدأ منذ اوائل ايامه بالتمهيد لبناء شخصية مرجعية جماهيرية شعبية وخط جديد في الحوزة العلمية يعمل في صفوف المجتمع.

 مرجعية الثورة والحركة ضد قوى الدكتاتورية والإستبداد

لقد كانت إمامة الشهيد في مسجد الكوفة الكبير للناس تعبيراً عن إنعطاف في تأريخ العراق الحديث ومسيرته النضالية،  ومولداً لمرجعية الثورة والحركة ضد الاستبداد والدكتاتورية، وخرقا للخطوط الحمراء التي طبعها النظام الدكتاتوري مع الجماهير.. وكانت شهادته رضوان الله عليه عام 1999 هزة حقيقية للنظام الدكتاتوري الذي أرعبته الحركة الجماهيرية للشهيد ولم يكن ذلك النظام قادراً على الإفصاح بكرهه لها ولدوره العظيم.

إقامتة لصلاة الجمعة في مسجد الكوفة

أقام السيد الصدر الثاني صلاة الجمعة في مسجد الكوفة وآثار الموضوع الكثير من اللغط بين مؤيد معارض ومتخوف من الموضوع والتزمت الدولة صفة الصمت فعزمت لعديد من المرجعيات على اثارة الشبهات حول الشهيد الصدر كون الوضع كان مستحيل الحدوث في نظر الكثير وبالفعل استمرت صلاة الجمعة الى العشرة الاولى او ما بعدها بقليل حتى ابتدأت السلطة بمضايقة الشهيد الصدر من خلال التهديد والتحذير من الاستمرار باقامتها من خلال العديد من الحجج الواهية اولها التهديد للامن الاجتماعي واحتمال مهاجتمها من خلال عملية ارهابية في الوقت الذي لم يشهد العراق فيه وجود اي نوع من النشاط الارهابي انذاك.

 خطبة الجمعة وحاجة الناس الى قيادة جريئة

لقد تَتَلمَذَتْ الطبقة المثقفة والمحرومة على يد هذا الرجل الإصلاحي عند كلّ جمعة يخطب فيها متفاعلاً مع الجماهير ومتحركاً عبر رسائله العملية التي أبدع فيها.. ولقد شكلّت مؤلفاته في الفقه وفي شؤون الحياة المختلفة وفي المستجدات عصراً جديداً من المحاولات الفكرية الجادة لفهم موضوعي متحضر للإسلام ومنطلقاته المبدئية ظهر ذلك من خلال كتبه الموسومة كفقه الفضاء وفقه الطب وغيرها والتي شاعت قرائتها، وليجيب على أهم التساؤلات في وقت عسير كان الناس فيه أشد حاجة لسماع فتاواه الجريئة.

 منبر الجمعة بداية الثورة البيضاء

لقد وقف السيد محمد محمد صادق الصدر شامخاً على منبر الجمعة يتكلّم بقوة ومعه الملايين من عشاق الحرية.. وأكتظ مسجد الكوفة  بأهل المبادئ من مختلف أطياف شعبنا العراقي المظلوم الذي شهد بداية ثورة بيضاء بعد ماشهد الانقلاب الشعبي ضد أعتى الدكتاتوريات التي حكمت المنطقة العربية والشرق اوسطية.

 الصدر الثاني وجه المرجعية في مواجهة الطغاة

لقد أثبت هذا الرجل الفذ من خلال مواقفه الشجاعة أنّ المرجعية قادرة على أن تنجب رجلاً ومرجعاً شجاعاً مثله يتحدى جبابرة عصره ومعه فئة من تلاميذه النجباء دون أن يجرح مشاعر الآخرين فهو حسيني الهوى ناب عن جميع من كان حوله من العلماء الصالحين.

انتقاده للحكومة والدولة

انتقد السيد الصدر الثاني وعن طريق سلسلة من الخطابات الحكومة وموظفيها وأساليب الرشوة والفساد الاداري المستشري آنذاك.

 قبول فكرة مبدأ الشهادة في مواجهة المنع من إقامة صلاة الجمعة

احرج الشهيد الصدر السلطة من خلال اعلانه من على منبر الجمعة انه وجميع المصلين مستعدون للشهادة في حالة تعرضهم لعمل ارهابي وسط تأييد من قبل المصلين لموقفه فأحرج لذلك السلطة التي اعياها التعامل من الصدر كونه يستطيع التخلص من محاولاتها الرامية الى انهاء ما اصبحت تسمى بظاهرة صلاة الجمعة.

رفض السيد قبول الإقامة الجبرية

وبعد إبلاغ السيد الصدر الثاني بضرورة التزامه المنزل حسب ما اوردت مصادر مطلعة على الامر جابه السيد هذ الامر بالرفض.

  هيأ السيد محمد الصدر طلابه للإستمرار على أداء صلاة الجمعة في حالة الإستشهاد

علم السيد محمد الصدر وبشكلّ مؤكد أنه  سيتم تصفيته، وكان ذلك واضحا من خلال خطب الجمعة ومحاضراته التي كان يلقيها لطلابة وكان يلمح مرة ويصرح اخرى بضرورة استمرارهم على النهج في حالة موته او استشهادة ولم يكن يتطرق الى الاعتزال مطلقا متحدياً بشكلّ واضح اوامر السلطة بالتقليل من نشاطه السياسي.

  برامج السيد محمد الصدر قبل الرحيل

سعى المرجع الصدر إلى الحفاظ على الحوزة العلمية في النجف الأشرف، فرمم وبنى ما فقدته وجاهد على تربية طلابها، وقام بخطوات جبارة وكبيرة في هذا المجال على وفق ما  تتطلبه الساحة الفكرية والحياة العصرية في تلك المرحلة، منها ارسال العلماء إلى أنحاء العراق كافة لممارسة مهامهم التبليغية وتلبية حاجات المجتمع، وبادر إلى إقامة المحاكم الشرعية الجعفرية وتعيين العلماء المتخصصين للقضاء وتسيير شؤون أبناء المجتمع.

ولعل أبرز ما اشتهر به هو اقامته صلاة الجمعة وتصديه بنفسه لإمامتها في مسجد الكوفة، وتعميم اقامتها بمختلف مدن العراق وهو لم يشهده تاريخ العراق السياسي منذ حقبة طويلة، وعبر هذه الحركة الفريدة والنوعية حركته إلى منبر إعلامي لتوعية أبناء الأمة.

وهذا ما وجد فيه النظام الحاكم في العراق خطراً مباشراً على مستقبله، فسارع إلى تدبير عملية اغتياله مع ولديه مساء الجمعة من الرابع ذي القعدة والمصادف في التاسع من شباط عام 1999 من الميلاد عند عودته من مسجد الكوفة إلى بيته في مدينة النجف الأشرف.

ففي خارج العراق كان هنالك خطاب الامام الخميني الذي يختلف في اتجاهاته العامة وطابعه الثوري، ومع هذا الاختلاف، فإنّه ـ أي خطاب الامام الخميني ـ شكلّ مجالاً اولياً للاستفادة منه لتأسيس خطابه الخاص، وبعبارة أدق فإنّ تجربة الإمام الخميني شكلّت مجالاً أو نموذجاً يمكن الاستفادة منه بصورة إجمالية، أمّا في الدائرة العراقية التي قلنا انّ تاريخها لم يختزن سوابق خطابية تأسيسية ازاء الواقع الاجتماعي على الصعيد المرجعي، سيكون من الممكن ايضاً الاستفادة من نموذج الخطاب الصدري الأول الذي كان محدداً بظرف سياسي استثنائي وبعدد محدود من الوقائع منها خطابه إزاء ما عُرف باسم «وفود البيعة»، ومنها بياناته الثلاثة التي كانت بيانات مواجهة سياسية موجهة إلى المجتمع، ومنها خطاب نظري موجه إلى الوسط الطلابي الديني، إلاّ أنّه يحضر موضوع الأمّة والمجتمع، بوصفه موضوعاً خطيراً وملحاً في المشروع الديني بشكلّ عام، وهو ما عرف بـ (خطاب المحنة).

ويمكن القول انّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر التقط الكثير من الاشارات حول أهمية اهمال المجال المجتمعي وخطورته ، والتقط اشارات اخرى ربما ضخمة فيما يمكن أن يؤديه المرجع الديني في هذا المجال، إلاّ أنّ هذه الاشارات والدلالات والمضامين تدخل في حيز التحفيز الذي يتحول إلى قناعة بضرورة التحرك على الأمّة، أما منهج هذا التحرك وآلياته وأساليبه وما يحتاج اليه من اضافات في المادة الفقهية، ومن خطط اجمالية، ومن اكتشاف لمداخله... فهو عمل ضخم قام به الشهيد محمد محمد صادق الصدر، بمدة زمنية قياسية، ولقد ساعدته ظروف العراق السياسية والفراغ القيادي المرجعي على ذلك. ولكن قبل الخوض في هذه التفاصيل، لابد من عودة إلى الوراء لمعرفة حجم الخلل التاريخي في هذا الاطار... ومن ثم حجم الصعوبة فيما تم انجازه على يد الشهيد محمد محمد صادق الصدر.

 

المبحث الثاني : علاقة المرجع بالأمّة... إشكالية تاريخية

ففي السياق التاريخي العراقي المعاصر يمكن القول إنّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر هو المرجع الوحيد الذي استطاع أن يخلق ظاهرة احضار الأمّة بالشكلّ الذي حصل منذ ثورة العشرين وتأسيس دولة العراق الحديثة، ولا يحتاج إلى تبيان بأنّ هذا القول، لا يصادر عمل الحركة الاسلامية في العراق بشقيها المنظم والمرجعي، ففي هذا المعنى يعدّ الشهيد الصدر الثاني ظاهرة تتويج طبيعي لجهود هذه الحركة وتاريخها... وهو انما استطاع ان يوظف نتائج هذا التاريخ من العمل توظيفاً سليماً... ومن ثم يضيف ابداعاته الخاصة ورؤاه الذاتية ليؤسس نمطاً جديداً من العمل، ومشروعاً جديداً، يعبأ فيه كلّ التاريخ الحركي وغير الحركي والممكنات الضائعة والمضيعة... لينطلق في تأسيس العمق الاجتماعي لهذا المشروع.. هذا العمق الذي خضع إلى اهمال تدريجي من المؤسسة الدينية، ومن ثم إلى اسقاط أو حذف خطير من برامجها وحركتها العامة.

وابتدأ هذا الاهمال من فترة ما بعد عودة المرجعية «المشروطة» بالابتعاد عن السياسة من المنفى «ايران»... إذ كان يفترض لهذه «الشروط» أن تكون مرحلية في العقل المرجعي... وهذه المرحلية تقتضي التواصل مع العمق الاجتماعي الذي كان أداةً للمواجهة بيد المرجعية في ثورة العشرين وما قبلها وما بعدها.

فلو كان هذا التخطيط «المرحلي» قائماً... لما حصل التدهور في نسق علاقة المؤسسة الدينية مع النسيج المجتمعي العراقي، والذي حصل بالضبط، هو تراكم اهمال هذا النسيج بسبب انعدام الحاجة اليه بعدما تم التخلي عن الدور السياسي.

إنّ هذا الواقع انتهى بالمرجعية إلى الانكفاء والتعاطي مع أضيق دائرة من دوائر الأمّة وإنّ طبيعة هذا التعاطي انحسرت في الامور العبادية، واكتفت بآليات ارتباط روتينية فارغة من الهدفية التي تفرض نوايا التحشيد والتعبئة وشد الأمّة إلى قضايا معينة، فعندما تكون هذه القضايا غير موجودة أساساً في العقل المؤسسي الديني، فالتفكير سينصب على الدائرة الأضيق للدين.

بينما كانت معظم «المواقع الاجتماعية للقوى التي انضوت تحت راية الحركة الاسلامية وشكلّت قاعدتها متباينة، ففضلاً عن سكان المدن، والقاعدة الواسعة التي يشكلّها افراد العشائر، ضمت الحركة وجهاء المدن وزعماء العشائر والتجار الذين شكلّوا غالباً القادة الاجتماعيين المباشرين لسكان المدن والعشائر، وحيث كان أفراد العشائر وسكان المدن اكثر ارتباطاً بالقيادة الدينية وأكثر انصياعاً لأوامرها من منطلقات عقائدية ايمانية فإنّ مواقف زعاماتهم الاجتماعية والسياسية تجاه العلماء والحركة الاسلامية كان يحددها في الغالب مصالحهم ومواقفهم الاجتماعية».([1]) إنّ هذه العلاقة ذات الطابع الشمولي مع كلّ فئات المجتمع وشرائحه (سكان المدن، العشائر، التجار) انتابها تبدل جوهري خطير لمجرد تعيين الملك فيصل حاكماً للعراق، وبعد ذلك انحسار الدور السياسي لعلماء الدين، أو بالاحرى تخلّيهم عنه، فعندما نقول إنّ هذا التبدل أوصل العلاقات بين الأمّة والقيادة الدينية إلى «اضيق دائرة»، فإنّ هذه الدائرة هي دائرة «التجار» و«الزعامات الاجتماعية» التي يصف النص المتقدم موقفهم ازاء الحركة الإسلامية بأنّه محكوم إلى «مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية».

فيما إنّ الدائرتين الاُخريين «سكان المدن» و«سكان العشيرة» الذين هم «اكثر ارتباطاً بالقيادة الدينية والأكثر انصياعاً لأوامرها من منطلقات عقائدية ـ ايمانية»، هما اللذان تصدعت العلاقة بينهما وبين القيادة الاسلامية.

وفيما أنّ علاقة المرجع بالتاجر بقيت في ايران ـ مثلاً ـ متميزة ايضاً، إلاّ أنها كانت تختلف اختلافاً جذرياً عما هي في العراق، فالتاجر في ايران بقي يؤدي دوراً سياسياً مهماً طوال فترة القرن المنصرم، وانه سجل عبر «البازار» الايراني قوة فاعلة في المعادلة السياسية في البلاد إلى جانب الحوزة، ومثل هذخ الاهميةللتاجر العراقي كان ويزال مفقوداً في الواقع السياسي العراقي، لظروف مختلفة ـ باستثناءات ضيقة طبعاً ـ إذ لم يؤدِ التاجر العراقي لأسباب عديدة دوراً سياسياً ملحوظاً في تركيبة البلاد السياسية، وإنه لم يشكلّ ثقلاً أو تكتلاً فاعلاً في هذ التركيبة، وربما ان احد اسباب غياب هذا التاجر عن المسرح السياسي يعود إلى انكفاء العمل المرجعي عن الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق. فالتاجر الذي كان على علاقة «جيدة» مع المرجع، كان يشعر ربما بالاطمئنان لغياب هذا الدور السياسي من خلال رضا المرجع حول «دوره» المحدود في اعطاء الحقوق الشرعية.

ومن جهة اخرى، فان شيخ العشيرة الذي ضعفت علاقته بالمرجع وجد أنّ المجال المتاح أمامه هو أن يؤسس علاقاته مع السلطة بالشكلّ الذي يلحظ مصلحته، حتى في ظل الحكم الطائفي، وإبعاد الشيعة من مؤسسات الدولة.

«ومما لاشك فيه أنّ تفتت الشيعة زاد من صعوبة إشراكهم بصورة مناسبة في مؤسسات الدولة مثل البرلمان والحكومة والجيش والادارة، وبالرغم من أنّ الشيعة في المدن مثل بغداد والكاظمية تجمعهم العقيدة الشيعية بكلّ من شيوخ القبائل ورجال الدين في الأماكن المقدسة مثل كربلاء والنجف والكاظمية، إلاّ أنّ الطائفية الدينية لا يمكن مضاهاتها بالطائفية السياسية، حيث أنّ الطائفية الدينية للشيعة كانت تقوم على أسس دينية تختلف عن تلك التي يؤمن بها السنة، في مقابل ذلك استخدمت الطائفية السياسية الانتماء العنصري العرقي كأداة ووسيلة للسياسة، وكان أساس النشأة المختلفة للطائفية السياسية لدى الشيعة، هو أنّ شيوخ القبائل كانوا يستطيعون تحقيق أطماعهم ومصالحهم في اطار النظام السياسي القائم».([2]) 

لقد أدى هذا الواقع بالنهاية «الى تكريس المشاعر الطائفية والولاءات العشائرية في المجال السياسي العراقي بقوة في ربع القرن الأخير، وأدت في نهاية المطاف إلى هيمنة زمرة تستند إلى عوائل معينة من المدن «الريفية» للشمال الغربي العراقي على حزب البعث والحكومة العراقية.. هيمنة أساسها السياسة التآمرية والعصبية لتصفية المنافسين، وبدل أن تتطور الدولة لتتوسع في دائرة المحاصصة لجماعات وقطاعات أوسع، تحولت من تحالف جماعات إلى جماعة واحدة».([3]) 

إنّ هذا التفكك في العلاقة وطبيعته تواصل على ذات الوتيرة مع مرور الزمن، حيث بقيت علاقة المرجعية مقتصرة على دائرة «الوجهاء الاجتماعيين والتجار» فيما هي تراجعت وسارت على وتائر مغايرة مع الأوساط المجتمعية الاخرى.

فهي مع الوسط العشائري اتخذت وتيرة الاهمال التام واكتفت بحالات الارتباط «الروتيني» المقتصر على مناسبات عاشوراء أو إرسال بعض المبلغين الذين لا يهمهم أي وعي ديني أو سياسي بقدر ما تحركهم دوافع «معيشية» مصلحية في الأعم الاغلب.. وأمّا مع الأوساط الاخرى فإنّ الامر لا يقل سوءاً عن وسط العشيرة، حيث تركت هذه الأمّة مرتعاً للتيارات الفكرية اللادينية، ولعلّ من نتائجها البارزة طغيان المد الشيوعي الذي «استفز» فيما بعد مرجعية السيد محسن الحكيم ودخل في مواجهة «فتوائية» معه.

ومثلما إنّ العامل السياسي «لعب دوراً كبيراً في خلخلة وتفكك القاعدة الاجتماعية للحركة الاسلامية».([4])  فإنّ العامل السياسي، أو العنوان السياسي هو الذي مثل المدخل الطبيعي للعودة في بناء هذه القاعدة الاجتماعية، وذلك بعد الشعور المتفاقم بالخطر الكبير الذي سيطر على نخبة من العلماء والمفكرين في عام 1957م وهو العام الذي أُسس فيه «حزب الدعوة الإسلامية».

وإنّ هذ «الفرز العلاقاتي» بين المرجع والمجتمع، «التجار والوجهاء الاجتماعيين» من جهة والمرجع من جهة اخرى، أوحى بطابع «مصلحي»، أو اعطى العلاقة بينهما تفسير «المنفعة المتبادلة» حيث ان «التجار» هم مصدر التمويل الأساسي الذي تحتاجه المؤسسة الدينية في تسيير أمورها الذاتية.

على أية حال: في ظل هذا التفكك لبنى العلاقات بين المجتمع والمرجع، والتي لم يكن المجتمع مسؤولاً عنها... بل انه بخلاف ذلك قدم نموذجاً رائعاً في التضحية والبسالة في ثورة العشرين استجابة لواجبه الديني، ونداء القيادة الاسلامية، فإنّ مناهج الفهم النظري لواقعه اللاحق بعدما تم التخلي عنه اختلفت اختلافاً كبيراً بين مرجع وآخر، أو بعبارة أدق فإنّ منهج الفهم السلبي للمجتمع بعدما انخرط أبناؤه الباحثون عن دور سياسي لهم يعبرون فيه عن إرادتهم وانتمائهم في تيارات فكرية اخرى كان منهجاً مشككاً بالمجتمع، وسلبياً في النظرة إليه، وتصويره بأنه مجتمع لا يمكن الوثوق به من أجل تبني قضاياه.

وإنّ الناس بعيدون عن الدين فهم «لا يطيعوننا لو تحركنا بعنف، الناس يكذبون... انهم عبيد الشهوات... ولا يفتحون صدورهم للدين»([5]) ، على حد قول أحد المراجع.

وفي مقابل هذه النظرة السلبية للمجتمع كان المرجع الشهيد محمد باقر الصدر يذهب بهذه النظرة ازاءه إلى ذروة نقيضها أي ذروة الايجابية فهو من وجهة نظره، المجتمع ضحية، واذا كان ابتعاده عن الدين يمثل جريمة فهي «جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم»([6])  على حد قوله.

وفي وسط تعدد مناهج الفهم النظري للمجتمع من قبل المرجع، لم يكن من السهل اطلاقاً تصور فهم نظري بإمكانه أن يزيل تصدع العلاقة واعادتها مع أوسع دائرة من الأمّة، وأنّ المهمة الأصعب تكمن في تحويل هذا الفهم النظري إلى واقع عملي ـ تطبيقي على الأرض.

وخلاصة ما يمكن قوله هنا أنّ إشكالية علاقة المرجع بالمجتمع تبلورت عبر عدة أنماط:

1ـ علاقة المرجع بالتاجر بقيت علاقة جيدة، لكنها فارغة من البعد السياسي.

2ـ علاقة المرجع برئيس العشيرة بقيت «مقبولة» إلاّ أنها جردت هي الاخرى من بعدها السياسي، الأمر الذي اضطر رئيس العشيرة أن يبحث عن خيارات اخرى لتحقيق دوره.

3ـ علاقة المرجع بـ «الوجيه الاجتماعي» اندرجت ايضاً ضمن نطاق «المقبولية».. وأيضاً بعيداً عن مجال التنسيق السياسي.

4ـ أمّا النمط الاخير من العلاقة، فتمثل بعلاقة المرجع مع سكان المدن وأفراد العشيرة، فهذا النمط هو الذي انتابه النكوص الخطير والذي أبرز الشكلّ الاخطر لتجلي الإشكالية التاريخية بين المرجع والأمّة.

نقول لقد وعى الشهيد محمد الصدر خطورة هذه الاشكالية في العلاقة بين الفقيه والمجتمع، وإنّ بعض نصوصه يمكن أن تعكس بشكلّ واقعي هذا الوعي فهو يقول في هذا الاطار:

ـ «إنّ أجيال المرجعية كانت تتناساهم وتتغافل عن أمورهم «أي العشائر»، ويكفينا في ذلك أنّ المشهور هو الحكم القائل: لا يجب على الفقيه أن يذهب إلى المكلّف ويبلغه حكمه بل يجب على المكلّف نفسه أن يأتي إلى الفقيه ويسأله.. نعم تصح هذه المقولة اذا توجه السؤال للفقيه وجب عليه حينئذ الجواب، أما أنّه يجب على الفقيه طرق باب المكلّف بدون سؤال وأن يعطيه حكماً فهذا لا، وهذا مشهور، إذن فقد كان هنالك نحو من المقاطعة والانفصال النفسي والاجتماعي بين الحوزة والمرجعية من ناحية، وبين العشائر من ناحية اخرى».([7]) 

ـ «إنّ الذي كان يذهب اليهم «العشائر» يتصف بإحدى صفتين ناقصتين تحول دون حل المشاكلّ العشائرية:

1ـ إمّا أن يكون قليل التفقّه وإمّا هو مجرّد خطيب حسيني «روزه خون».

2ـ وإمّا أن يكون ممن يحمل همّ دنياه على دينه فيكون ذهابه لأجل الحصول على مبلغ من المال قبل التفقه والهداية، وأمّا من كان متفقهاً ومخلصاً فقليل جداً في العهود السابقة من ذهب اليهم «أقصد العشائر»... وهذا ما أوجد سوء الظن عند العشائر بالحوزة الشريفة وبمن تُرسلهم اليهم، وللحقيقة إنّ الحوزة لا ترسل أحداً، وانما يذهب بعض الاشخاص لقضاء مصالحهم الخاصة وليس أكثر من ذلك فيسيئون أكثر مما يحسنون». ([8])

ـ إننا قد اعتدنا من تلك السياسة «المرجعية أن نحافظ على أربعة أشياء تقليدية لا غير: صلاة الجمعة، الاستخارة، الفتوى، الدرس».([9])

إنّ هذه النصوص الثلاثة للشهيد محمد محمد صادق الصدر توضح ـ كما أشرناـ أبنية وعيه لهذه الإشكالية الخطيرة.. فهذا الوعي يحيط:

أولاً: بأساس الإشكالية «الفقهية»، وكذلك مقولاتها «الفقهية».

ثانياً: وأنّه يحيط بما أسميناه سلفاً إيحاء «المنفعة» الذي حكم وتيرة علاقة المرجع أو المبلغين بالمجتمع.

ثالثاً: إنّه يحيط بواقع الخلل في جهاز اتصال المرجع، فهذا الجهاز غير موجود أصلاً واذا ما وجد فهو جهاز غير فعال ومحكوم في معظمه إلى الاساس المصلحي، أو أساس عدم امتلاك الوعي الإسلامي المطلوب.

المبحث الثالث :إشكالية العلاقة والأثر السياسي الداخلي

إنّ الإشكال التاريخي في اطار علاقة المرجع بالمجتمع بالاضافة إلى دوره في تغييب الاسلام عن مسرح الحركة السياسية التاريخية خلال أكثر من ثلاثين عاماً «1923 ـ 1957»، ومن ثم مدة اعادة اصلاح الواقع عبر العمل الحزبي السري التي استغرقت اكثر من عشرين عاماً اخرى، وهذا كان مسؤولاً ايضاً عن بطء حركة الوعي الديني في أوساط المجتمع... أو بالاحرى إنه أدى إلى حالة شبيهة بحالة انعدام هذا الوعي، فلقد تحولت فترة ثورة العشرين إلى تاريخ بالنسبة للاجيال اللاحقة... تاريخ لا يجد آليات تفريغه في الواقع واسقاطه فيه، أو مواصلته، الأمر الذي ادى إلى وقوع العراق، كلّ العراق في معادلة سياسية خطيرة، صحيح انّ الفراغ الذي نجم من انسحاب القيادة الإسلامية ملأته تيارات سياسية علمانية اخرى، وان الجزء المسيس من المجتمع انخرط في هذه التيارات.. إلاّ أنّ كلّ هذه التيارات لم تنجح في نقل المجتمع إلى حالة تعبير مشتركة وشمولية عن ارادته السياسية الحقيقية، فالحزب الشيوعي حقق نفوذاً اجتماعياً محدداً عبأه واستدعاه في ممارسته الساسية، إلاّ أنّ هذه الممارسة حكمها منهج سياسي خاص وظروف سياسية خاصة... وهي بالتالي تعبر عن ارادته كحزب له نفوذ محدد، يمكن عدّهُ «الذروة» فيما يمكن أن يصل إليه في بلد مثل العراق يبقى حتى في حال انعدام الوعي الديني له عمقه الخاص في الواقع...

ولذا فان هذا الحزب لم يستطع ان ينجز منعطفاً يختصر فيه ارادة غالبية الشارع العراقي، انما هو عكس ارادة اعضائه والمنتسبين اليه.. وهو بالتالي لم يمسك بالسلطة... ولم يعبر عن ارادة الأمّة في مسار الصراع وباختصار انه لم يقد ثورة ضد السلطات الحاكمة.

وكذلك الحال بالنسبة للتيار القومي عندما كان في موقع المعارضة، أمّا عندما أصبح في موقع السلطة فإنّه لجأ إلى آليات الإكراه في التعبئة.

لقد بقي التاريخ السياسي العراقي المعاصر مأزوماً بواقع اللاتكافؤ في توازن الصراع الداخلي ومسرحاً لحركة من الانقلابات العسكرية والمؤامرات السرية... وبقيت الأمّة تعبر عن ارادتها «لاسيما الجمهور الشيعي» عبر الانخراط الطوعي أو الجبري بالسلطة، أو بالاحزاب الاخرى، وكلّ ذلك حال دون فعل جمعي مشترك للمجتمع، ينسجم مع نظام سياسي يمثل فعلاً خيار هذا المجتمع بشكلّ متوازن، لاسيما وان انسحاب المرجعية عن الفعل السياسي واهمالها للمجتمع جسد من واقع «النظام الطائفي» وتركاته النفسية في الحس العام، ومن هنا قد لا تكون من المصادفة أنّ القرن الماضي شهد ثلاثة أحداث وثورات، هي ثورة العشرين، وانتفاضة عام 1991م، وظاهرة الصدر الثاني... وهذه الأحداث والثورات الثلاث هي على علاقة مباشرة بدور المرجع وعلاقته بالمجتمع، وما عدا هذه الأحداث والثورات الثلاث لم يشهد القرن الماضي، ثورة أو حدثاً بمستواها ما عدا أحداث 1979 ـ 1980، وهي أحداث ذات علاقة بالمرجعية والحركة الاسلامية، فلم تفلح القوى العلمانية في العراق في انجاز حدث ثوري يمثل ارادة الأمّة أو الجزء الاعظم من ارادتها، فدور هذه القوىـ باستثناء الحالة الشيوعية التي ناقشناها سلفاً ـ كان عبارة عن انقلابات عسكرية تمارس انماط علاقاتها مع المجتمع بشكلّ اكراهي، وصل ذروته بعد وصول صدام حسين إلى السلطة.

إلى ماذا تشير هذه «المفارقات» في تاريخ العراق السياسي المعاصر؟ وما هو مضمون علاقتها بالصراع السياسي غير المتوازن الذي شهده هذا التاريخ؟

إنّ الاجابة على هذه التساؤلات ترتبط جوهرياً باشكالية العلاقة بين المرجع والأمّة، فعندما كانت هذه العلاقة طبيعية انتجت ثورة العشرين، وعندما عاد الاحساس بضرورتها وتم التأسيس لها من جديد وتوجت فيما بعد بـ «وفود البيعة» للمرجع الشهيد آية الله الصدر الأوّل... اثمرت تراكمات هذا المقطع من المواجهة ولو بعد حين، انتفاضة 1991م، وعندما تصدى المرجع الشهيد آية الله محمد محمد صادق الصدر حصلت ظاهرة الالتفاف المليونية حوله.

ومن هنا يمكن اعتبار «التاريخ الثوري» للعراق في القرن الماضي هو نتاج اندكاك المرجعية بواقع الأمّة... وان المأزق السياسي الخطير له وغياب حالة التوازن في الصراع الداخلي بما يغيب ارادة الأمّة نابع في اساسه من تلك الاشكالية التاريخية بين المرجعية والمجتمع والتي برزت ما بعد قيام دولة العراق الحديث وابتعاد المرجعية عن الواقع السياسي، ومن ثم الواقع الاجتماعي.

ولذا فإنّ اصرار الشهيد محمد محمد صادق الصدر على معالجة هذه الاشكالية بشكلّ لم يسبق إليه أحد ربما قام في أحد جوانبه على اختزان هذا المعنى السياسي الخطير في الواقع العراقي الداخلي... انه ادرك أنّ الفكر غير الاسلامي في العراق لم يفلح أن يقود المجتمع إلى حالة ثورية واحدة خلال قرن كامل، بحيث تقود هذه الحالة إلى ممارسة سياسية داخلية سليمة والى تنافس سياسي ايجابي ونظام سياسي عام نابع فعلاً من تنوع هذا المجتمع الطوائفي والقومي ومحقق لارادته.

فيما إنّ الفقيه والحركة الاسلامية استطاعا أن يقودا هذا المجتمع إلى ثورات أو تحشيد مجتمعي كبير، ولو انّ هذا النجاح لم يستطع بالنهاية الحسم وايجاد مثل هذا النظام السياسي، إلا انه على أقل تقدير عبر عن ارادة المجتمع وطموحه نحو هذا الهدف السياسي، وهذا ما دعا أحد الكتاب إلى القول «من أين جاء السيد محمد محمد صادق الصدر بتلك الرهافة الحسية والوعي بالضرورة، وبهذا القدر من الشجاعة الخارقة حين قرر بعد الانتفاضة مباشرة الخروج إلى منعطف الالغاء المتبادل ومن طرف واحد؟»، ويضيف: «فإنّ ما أقدم عليه وما كرّسه محمد الصدر هو سلوك جديد ومبدع يستحق أن يسجل كعلامة فاصلة وكبداية لعهد تاريخي جديد».([10])

إنّ ظروف تجربة الشهيد محمد محمد صادق الصدر ما كانت تسمح له أن يعبر عن هذا الفهم المختزن حول آليات الصراع السياسي الداخلي وتفصيلاته، لأنّ مدخله إلى التغيير افترض سياسة خاصة «غير صِدامية» مع السلطة الحاكمة في البداية، وما كان متاحاً له هو أن يتحدث بنظام الاشارة السياسية، أو أنّ خطابه السياسي كان يركز على محاور خارجية للحركة السياسية ازاء العراق، إلاّ إنّ السياق العام لمشروعه التغييري، وثقل هذا المضمون الاجتماعي، ووعيه لخطورة انعزال الفقيه عن الأمّة وعن السياسة وتعاطيه السياسي في مجالات اخرى.. كلّ ذلك ينم عن قراءة مركزة لواقع الخلل في معادلة الصراع ـ السياسي الداخلي، ومعادلة السلطة من جهة والأمّة من جهة اخرى، وغياب توازن الارادة القائم في هذه المعادلة، وبعبارة اخرى إنّ الخطوط العامة، والفرضيات الأساسية لمشروع الشهيد محمد محمد صادق الصدر تعبر عن معنى الاستيعاب الكامل لهذا الخلل المتمثل بتغييب ارادة الأمّة، والسعي إلى ايجاد نظام سياسي داخلي متوازن يحقق هذه الارادة، وذلك لا يكون إلاّ عبر الاسلام، وفق وقائع تاريخ قرن كامل من عمر العراق. فوفق هذه الخطوط والفرضيات التي احضرها الصدر الثاني بنصوصه وحركته، تتجلى حالة من الوعي الكامل بآليات الصراع السياسي الداخلي، سواء احضرها بنصوص خطابه ام لم يحضرها إذ أنّ هذه الآليات هي بالنهاية بنى تحتية ـ تفصيلية ـ فرعية للفرضيات الأساسية للمشروع على الباحث أن ينقب عنها في سياق محاولة استيعابه لهذا المشروع ونتائجه وآثاره.

 

المبحث الرابع : التطرف العلماني ضد الدين في العراق

وقبل أن ننتقل إلى فقرة ثانية، لابدّ من الاشارة هنا إلى مفارقة انتجها واقع العراق خلال القرن المنصرم فيما يخص الواقع السياسي الداخلي، إذ انّ ما عقّد هذا الواقع أكثر، ومثّل فيما بعد سبباً من أسباب العودة الواسعة إلى الاجواء الدينية من قبل الأمّة ليس فقط انسحاب المرجعية الاسلامية عن العمل السياسي، بل انّ الفراغ الذي ملأته تيارات فكرية وسياسية اخرى عقّد صورة الصراع السياسي الداخلي حيث انّ هذه التيارات اتخذت سياسية متطرفة ازاء الدين، بشكلّ ربما يغاير ما حصل في معظم الدول العربية والإسلامية بصيرورتها الداخلية السياسية عبر القرن المنصرم، فالحزب الشيوعي العراقي مارس خصومة وعداءً غير «مبرر» إزاء الدين، والفكر الديني، وربما إنّ شعارات الحزب في الخمسينات تعكس مضمون هذا العداء وهذا «الإصرار» الذي أعتقد أنّه كان خطأ استراتيجياً «قاتلاً» وقع فيه الحزب الشيوعي العراقي.

ويقول أحد الشيوعيين العراقيين إنّ «الماركسية لا تصادر حرية العقائد سواء كانت دينية أو علمانية، ولا حرية العبادة ولكنها متحزبة لفكر الطبقة العاملة ضد الفكر البرجوازي الاقطاعي والأفكار الغربية ـ دون ان تنغلق على نفسها ـ إذ انها تقيم كلّ ما هو ايجابي في المدارس الفكرية الاخرى وتتبناه، وتناضل ضد كلّ ما هو سلبي وترفضه، وقد تبنى ماركس وانجلز كلّ ما هو ايجابي وسليم من افكار الاشتراكيين الطوباويين والمثاليين مثل هيغل وانتقدا بصرامة علمية كلّ ما هو سلبي وزائف، ووفقاً لذلك لم يلجآ إلى صراع مع الأديان والمتدينين، فلم يهدم الشيوعيون دور العبادة ولم يقتلوا أو يعدموا شيوخ الاسلام، ولكن إلى جانب ذلك لابدّ لي من ذكر ما قاله لينين «أنّه لا أحد يستطيع الاساءة إلى الشيوعية أكثر من الشيوعيين أنفسهم»، وقد أساء الشيوعيون العراقيون وبالأخص الاوائل منهم في مسألة فهمهم للأمور وعدم مراعاتهم لدور العامل الديني في التطور الاجتماعي، مما سبب ذلك إلى افساح المجال لأعدائهم إلى التركيز على هذه المسألة وعدّها نقطة ضعف ممكن استغلالها من أجل المكاسب السياسية، والى جانب ذلك لم يجر توظيف عقول مفكري الحزب الشيوعي العراقي من اجل بلورة رؤية تأخذ بالحسبان هذا الجانب الحساس من مسألة النضال السياسي والاجتماعي مما أدى إلى اتهامهم بالكفر والالحاد، وكذلك لم تمارس قيادة الحزب الشيوعي أي توجيه لأعضاء الحزب في هذا الجانب مما يحد من تصرفات العديد منهم وخصوصاً الأوائل ممن شخصهم فهد مؤسس الحزب الشيوعي ووصفهم «بشيوعيي المقاهي»، فالشيوعيون لا ينفون التراث الديني نفياً عدمياً مطلقاً بل يمحّصونه ويميزون بين رسالته الأصلية التي جاءت لمصلحة الفقراء والمستضعفين في الأرض وبين ما علق به من تفسيرات وتأويلات لحاجة الطبقات المالكة في مختلف العصور لأنها تبعث الخنوع والاستسلام لدى الجماهير وتذلها([11])». 

إنّ كلّ ذلك قد حدّ من نفوذ الحزب الشيوعي العراقي الاجتماعي، وأدى بالحزب إلى صراعات سياسية داخلية هو في غنى عنها، ومقارنة بالاحزاب الشيوعية في العالم العربي والاسلامي فان تلك الاحزاب كانت أقل «صِدامية» مع الدين عبر حياتها السياسية... وهذه «الخصومة» مع الدين من قبل الحزب الشيوعي العراقي كمّلتها «خصومة» أو عداء آخر للدين وأفكاره ومظاهره الاجتماعية من قبل «التيار القومي» الذي تولد مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة، والذي مثّله ساطع الحصري بأفكاره المعروفة وياسين الهاشمي حتى صدام حسين، فهذا الشقّ في التيار القومي كان هو الآخر مارس عداءً وتطرفاً غير «مبرر» مع الحالة الدينية، الأمر الذي أدى ايضاً إلى انفصاله تدريجياً عن الأمّة، وتوجه هذه الأمّة نحو الاسلام. وهذه السياسة غايرت ايضاً توجهات وسياسات التيار القومي في العديد من البلدان العربية.

إذ أنّ «التمييز بين ظروف نشأة الفكر والسلوك القومي العراقي عن الحركة القومية الشامية والمصرية والمغربية وفي شبه الجزيرة هو أمر ممكن ويستحق الصبر والدراسة المتأنية أكثر مما نقوم به الآن، خصوصاً وأنّ سلوك رواد التيار منذ بداية القرن قد انعكس على الأجيال القادمة وحمل معه أخطاراً وعصبيات مفرّقة لازلنا حتى اللحظة نعاني من نتائجها المدمرة، لقد ارتبطت الحركة القومية في البلاد العربية الاخرى بالكفاح ضد الاستعمار ومواجهة مظاهر الفرقة المحلية بين مسلم ومسيحي ومذاهب وشيع والنضال من أجل الازدهار والوحدة العربية وفي خلق مواطنة متساوية يتمتع بها الجميع. فكانت اصول الصيغة القومية المصرية متشبعة بروح إسلامية، وفي شبه الجزيرة والسودان وأقطار المغرب كانت العروبة متماهية بل ذائبة في الإسلام، وفي بلاد الشام لم تكن متصادمة مع الاسلام. في حين جاءت أصولها في العراق من تحالف الفائزين باللقب القومي مع الضباط الذين تحول ولاؤهم من تركيا إلى بريطانيا وعدم اخلاصهم لما يرفعونه من شعارات قومية قد جعلهم يتعاملون مع الفكرة القومية الجديدة كلّعبة تعاونهم في تحقيق مصالح ومنافع ضيقة، ولم يكن سهلاً عليهم رغم التحالفات المذكورة، حكم العراق فاستجابوا من أجل الفوز بالسلطة والثروة لحاجات المستعمر من دون ان يحصلوا منه على أي وعد يخدم القضية العربية مستقبلاً، وبدلاً من ذلك نفذوا رغبته في جعل حكومة اقلية فاستبعدوا التجمعات السكانية الأساسية في وجنوب العراق وسطه من الاسهام  في ادارة شؤون بلدهم، وبسبب قلة المتعاونين تم تعريب عائلات معدودة، جاء بعضها إلى العراق مع الجيوش الاجنبية الغازية، لمساعدتها في ادارة الدولة، واستعملت  الشعارات القومية للتضييق على قومها مما اضعف شعبية الفكرة القومية التي عوضتها بتقوية اجهزة الشرطة والامن لحماية نفسها ومصالحها من الشعب المتربص!! ومما يؤكد ما نذهب اليه إنّ العراق بغالبيته الساحقة يهب ضد ادارته مع أول فرصة تتخلخل فيها اجهزة الدولة الأمنية وقد حصل ذلك دائماً، ولا ننسى هنا انتقائيتهم في الاستفادة من الآلية الثورية الديكتاتورية للماركسية دون الاقتراب من محتواها الاجتماعي». ([12])

إنّ هذا التوحد في العداء الشيوعي ـ القومي للتيار الديني بأفكاره ومظاهره الاجتماعية، بمنطلقاته المختلفة، وصوره المتغايرة وأهدافه المتعددة، أخلّ خللاً هائلاً وكبيراً في شكلّ الصراع السياسي الداخلي وتوازنه الذي يفترض به أن يشرك المجتمع شراكة حقيقية في تسيير دفة الأمور السياسية ويجرده من حالات القمع السلطوي بغية نفيه عن هذه الشراكة، فهذا النفي لم يكن نتيجة من نتائج السوق الرأسمالية، كما تحاول الأدبيات الشيوعية أن تقول، وكما يصور ذلك احد الكتاب بالقول: «لا تتحكم الدولة بالمجتمع المدني فقط، بل وتعمل على نفيه لأنّها لا تطيقه، وتحاول تولي كلّ وظائفه، ففي عراقنا كان اغتراب الدولة عن المجتمع وظلمها المتزايد نتاجاً حديثاً من صنع السوق الرأسمالية([13])». 

إنّ هذا التوحد «العدائي» شكلّ في أحد أبعاده نتيجة من نتائج تخلي المرجع الديني عن السياسة، وبالتالي عن المجتمع، وأنّه في بعد آخر مثل سبباً في عودة هذا المجتمع إلى الاسلام كخيار، بعد أن عاد المرجع عودة «جزئية» إليه، وعاد الشهيد محمد محمد صادق الصدر عودة «كلّية» إليه، ربما لا تخلو من الاحتجاج (غير المعلن) و(التطرف) المقصود في اطلاق سياسته الاجتماعية إلى مداها الأقصى، فلم تكن نداءاته إلى الغجر بلا معنى «احتجاجي» إن اُريد فهمها فهماً عميقاً. فما بين الغجر كشريحة اجتماعية، وما بين التاجر كشريحة اخرى بقيت علاقة المرجع بها طيبة، هنالك شرائح واسعة من سكان المدن وسكان العشائر وشريحة الموظفين، لم تشبع طموح الصدر الثاني في عمله الاجتماعي، انه تجاوزها إلى حيث الذروة «المهملة» في المجتمع، ليعكس «بشكلّ مقصود» وعن وعي مسبق بعمق اشكالية المرجع والمجتمع احتجاجاً ضد هذه الاشكالية، ويقترح حلاً لها، إذ لا اصلاح اجتماعي متكامل، ولا تغيير سياسي يُشاد على أساس هذا الإصلاح بما يحقق حضور هذا المجتمع، ما لم يصل الطموح إلى الذروة.. إلى شريحة لم يُفكر حزب أو مرجع في يوم ما أن يخاطبها.

 

المبحث الخامس :قراءة القيم والتقاليد الاجتماعية

أشرنا فيما سبق إلى الإشكالية التاريخية في العلاقة بين الفقيه والمجتمع والى آثارها التي حكمت البلاد خلال ثمانين عاماً، ووعي الشهيد الصدر لهذه الإشكالية وهذا الأثر.. ولقد بدا من خلال نصوصه إنّ الشهيد الصدر مارس قرارة ثالثة للواقع الاجتماعي... قراءة تتعلق بوعيه الديني ووعيه السياسي من جهة... وتتعلق بواقعه السلوكي والقيمي، والظواهر المعبرة عنه والتي راكمتها في جزء منها القطيعة التاريخية مع خطاب الفقيه المباشر للأمّة من جهة اخرى... إذ بدون هذه القراءات لايمكن الانطلاق نحو التغيير الاجتماعي والسياسي. ولاشك إنّ مجالات هذه القراءة واسعة ومتعددة وما نهدف إليه في هذه السطور، هو إيراد بعض النماذج من نصوص الصدر الثاني التي تعطي صورة اجمالية عن محاور التفكير لديه حول المجتمع، وبما يشكلّ مؤشرات اولية لخطة التحرك ازاءه، فهو ازاء الظواهر الدينية الخاطئة يقول:

ـ «في خصوص مرجعهم الصحيح في توليهم أمر السدنة وتقبل النصائح فإنّي أرجع إلى المثل الشائع أو الحكم (لا أمر لمن لا يطاع) لأنّي ذكرت لهم وحذرتهم وخوفتهم، جملة من الساكتين جاؤوا وتابوا وكتبوا البراءة».([14]) 

ـ «إنّ السادن إنّما هو مرجع دين لكن مرجعيته تختص بالصحن والحضرة وليست عامة لكلّ المجتمع، وهذا يعني التحلي بالكثير من الصفات التي يفقدها السدنة ومن أهمها التفقه في الدين، وبالفضل وبالفهم، أما من العوام ومن الجهلة من الذين لا يشعرون بأهمية طاعة الله سبحانه وتعالى فمن الطبيعي أن لا يشعر بأهمية موقعه». ([15])

ـ «والشيء الآخر، وهو الاختلاط بين الجنسين في المراقد والأضرحة المقدسة وهو غير جائز، فالحمد لله أنتم مؤمنون فلماذا تمارسون هذا الفعل». ([16])

ـ «ومن بين الذي يطرح بالشارع والواجب معالجته من قبل الحوزة... الواجب هو الأخذ بمشاكلّ المجتمع، هنالك جملة من الجهلة جعلوا من حرم الحسين «ع» كعبة ومن الساحة بين الحرمين الشريفين في كربلاء ساحة للتلبي، حيث رأيتهم بأم عيني يلبون حول حرم الحسين «ع» ويطوفون حول المرقد وهذا حرام». ([17])

هذه مجموعة من النصوص التي ترتبط بجانب الوعي الديني ـ الاجتماعي، والممارسة الدينية الاجتماعية، كان الشهيد الصدر يخضعها للطرح والنقد والتصحيح، بناءً على مبدأ ضرورة تأسيس هذا الوعي على أرضية مفاهيم مغايرة، وتجسيده من خلال الخطاب المباشر والمنطلق أساساً من تشخيص مسبق للواقع الاجتماعي، وتجسيد لهذا التشخيص في سياق مشروعه التغييري.

وبالامكان جرد الكثير من العينات من نصوصه التي تدل على ملاحقة صارمة للسلوك الاجتماعي والقيم الاجتماعية.

فهو في جوانب اخرى في هذا الإطار يقول:

ـ «ما يتخذه الناس من أساليب الخلاعة والازعاج في مناسبات الأعراس، وحتى المحجبات يسفرن في هذه المناسبة والسير في الشوارع وقطع طرق المسلمين، ومن قطع طريقهم فليس بمسلم، اضافة إلى احياء الحفلات الغنائية ودعوة الفسقة اليها وتوزيع الخمر فيها وكلّ تلك الأمور محرمة». ([18])

ـ «فهنا نحن ندق باب الغجر، ونمد إليهم يد الهداية والصفاء لعلهم يهتدون، لعلهم يتذكرون، وبالتأكيد إنّ تعصبهم لعاداتهم كأنما لاعطاء عذر بأننا لم ندق بابهم، وهم متعصّبون لا ان تعصبهم شديد ليس بهذه الدرجة التي نتصور». ([19])

ـ وحول الرياضة يقول «وأفضل طريقة في الغرب هي الهاؤهم عن الخوض في مشكلّات مجتمعاتهم».([20]) هذه النصوص ومئات النصوص الاخرى، انها بقدر ما تكشف عن رصد المنظومة القيمية والسلوكية الخاطئة فهي تراكم في توضيحات الرؤية الاجمالية للمجتمع والنهوض بواقعه، فالعمل الاجتماعي للشهيد الصدر كان شمولياً ومتعدد الأبعاد وبقدر ما تضمن الكثير من المفاهيم الاجتماعية التصحيحية والجديدة فهو في نفس الوقت تأسس على تجديد فقهي في هذا المجال، وآليات تواصل وخطوات اجرائية تضمن إحضار الجمهور وربطه بالقيادة الدينية.

المبحث السادس :التجديد الفقهي في المجال الاجتماعي

إنّ الصدر الثاني الذي مارس القراءات الثلاث السالفة، قراءة الإشكالية التاريخية للعلاقة بين المرجع والمجتمع، وقراءة آثار هذه الإشكالية السياسية داخل العراق، وقراءة وملاحقة البنية السلوكية والقيمية للمجتمع وظواهرها السلبية، تحرك في مشروعه من خلال اطارين، هما اطار التجديد الفقهي، واطار اكتشاف آليات الاتصال والارتباط بين المرجع والمجتمع...

ففي الاطار الاول كان هم التجديد الفقهي، هماً طاغياً ومسيطراً على تفكير الشهيد محمد محمد صادق الصدر، ولقد تحرك هذا الهم باتجاهين اتجاه الشؤون والمسائل الاجتماعية التي بقيت تشكلّ حالة فراغ واضحة في المعالجات الفقهية بالنسبة للواقع العراقي، واتجاه الشؤون المستحدثة أو المتوقعة الحدوث، فلقد بقيت المعالجات في الاتجاه الاول مرتهنة إلى سياقها القديم... وهي اذا ما شهدت خارج العراق تطوراً يماشي الحاجات المستحدثة للامة، وتفرعت ضمن شبكة شاملة مع تفرع هذه الحاجات، فإنّ الظروف الخاصة للعراق، والقطيعة القائمة بين المرجع والمجتمع أبقاها تتحرك ضمن نمطها التقليدي وربما باستثناءات لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشأن العراقي المجتمعي الخاص، انما هي ترتبط بمستجدات اخرى عامة... حتى تصدى الشهيد محمد محمد صادق الصدر للمرجعية وتصدى للشأن الاجتماعي وبرز هذا التصدي من خلال همّه في التجديد الفقهي الذي يسد الفراغات القائمة، وكمثال بارز في هذا الاطار يبرز «فقه العشائر» كفقه جديد لم يحصل أن عولج وأعطي باباً خاصاً من أبواب الفقه، على الرغم من أنّ طبيعة الوضع العشائري وتقاليده وقيمه وما يترتب عليها من جزاءات لا تتوافق مع أحكام الاسلام كانت مشكلّة حقيقية قائمة، إلاّ أنّ أحداً من السابقين، لم يفكر في الاقتراب منها فقهياً، حتى جاء الشهيد الصدر الثاني ووضع فقهاً خاصاً لها كبديل لـ «السانية» العشائرية، واذا كان هنالك من محفز لهذا السبق الفقهي فهو محفز ينبع من طبيعة تفكير الصدر الثاني بالأمّة.. كلّ الأمّة.. ولا يتجمد عند حدود المتعارف التقليدي، وعند دائرة الموروث، أو دائرة الأمور المسؤول عنها.

فالشهيد الصدر يرى إنّ من واجب الفقه أن يبادر باتجاه المجتمع خطاباً وفقهاً وفكراً، لا أن ينتظر فقط المبادرة من الآخرين.

إنّ (السنينة العشائرية الدينية طبقاً لأحكام الحوزة العلمية الشريفة) جاء بها ما يقارب الـ «26» بنداً من البنود التي تعالج تعقيدات الواقع العشائري من «صلح بين الخصوم، ودية قتل الخطأ، ودية السارق والزاني واللائط، وتنفيذ القصاص، ودية المرأة وشهادة الزور، وشهادة مجهول الحال والفاسق، والنهوة، والقتل دفاعاً عن النفس، ونقض الصلح بعد القبول والتراضي، وزواج الگصة بگصة» ([21])، وقضايا اخرى غيرها، وانّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر لم يكتف بملء الفراغ الفقهي بهذا الإطار ـ النموذج ـ إنّما بادر باتجاه العشائر بالزيارة والخطاب العام، خصص واحدة من خطب صلاة الجمعة إلى المسألة العشائرية يقول فيها: «فنحن من هنا ننصح العشائر العراقية وشيوخ العشائر خاصة أن يتجنبوا غضب الله ونار جهنّم ويكونوا على مستوى المسؤولية بل يقبلوا أن يأتوا إلى خط الشريعة المقدسة وهذا أصلح لهم في الدنيا والآخرة، خاصة وإن قانونهم فيه ظلم وظلامات لحقوق الآخرين، وهي تهدر شرعاً بدون سبب مشروع، وكذلك حصول (زيجات) باطلة تجري وهي كثيرة، وهم يحاولون ردع الفاسد بالأفسد ونحن نريد لهم ردع الفاسد بالحق، وردع الظلم بالحقّ». ([22])

إنّ (فقه العشائر) هو أنموذج أبرز من النماذج التي ملأت فراغات فقهية في الواقع الاجتماعي، وإنّ طريقة الشهيد محمد الصدر في الإجابة على شتى أنواع الاسئلة الاجتماعية توضح إلى حد بعيد هدفه في هذا الجانب وهو هدف سد أكبر قدر من الفراغات ومعالجة اكبر قدر من الابتلاءات «المهملة». لا بل انه عالج علاجاً جذرياً التراكم الكبير الذي أوجد إشكالية نظرة الفقيه للمجتمع، وانحسار الفقه الاجتماعي العام لصالح الفقه الفردي، أي الفقه الذي يستغرق في معالجة قضايا الفرد.

إنّ أسباب ضمور أو تراجع «فقه المجتمع» التاريخية ناقشها الشهيد السيد محمد باقر الصدر باسهاب وقال: «أظنّ أنّنا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة.. ولكي ندرك أبعاد الهدف بوضوح يجب أن نميز بين مجالين:

أحدهما: تطبيق النظرية في المجال الفردي، وبالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد والآخر.

ثانيهما: تطبيق النظرية في المجال الاجتماعي، واقامة حياة الجماعة على أساسها بما يتطلبه ذلك من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية.

وحركة الاجتهاد من حيث المبدأ، ومن الناحية النظرية، وإن كانت تستهدف كلّا مجالي التطبيق لأنهما سواء في حساب العقيدة، ولكنها في خطها التاريخي الذي عاشته على الصعيد الشيعي كانت تتجه في هدفها على الأكثر نحو المجال الأول فحسب. فالمجتهد خلال عملية الاستنباط يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يريد أن يطبق النظرية الإسلامية للحياة على سلوكه، ولا يتمثل صورة المجتمع الذي يحاول أن ينشئ حياته وعلاقاته على أساس الإسلام، وهذا التخصيص والانكماش في الهدف له ظروفه الموضوعية وملابساته التاريخية، فإنّ حركة الاجتهاد عند الشيعة قاست منذ ولدت تقريباً عزلاً سياسياً عن المجالات الاجتماعية للفقه الاسلامي، نتيجة لارتباط الحكم في العصور الاسلامية المختلفة وفي اكثر البقاع بحركة الاجتهاد عند السنّة.

وهذا العزل السياسي أدى تدريجياً إلى تقليص نطاق الهدف الذي تعمل حركة الاجتهاد عند الشيعة لحسابه، وتعمق على مرّ الزمن شعورها بأنّ مجالها الوحيد الذي يمكن أن تنعكس عليه في واقع الحياة وتستهدفه هو مجال التطبيق الفردي. وهكذا ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه لا بصورة المجتمع المسلم.

إنّ الانكماش وأخذ المجال الفردي للتطبيق بعين الاعتبار فقط نجم عنه انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، فقد أخذ الاجتهاد يركز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي وأهملت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي، نتيجة لانكماش هدفه وانكماش ذهن الفقيه عن الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً عن الجماعة المسلمة وحاجاتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعية». ([23])

إنّ هذا الواقع الذي يتحدث عنه الشهيد محمد باقر الصدر هو الذي ولّد إشكالية «الفقه الاجتماعي» وانحساره في الحركة الفقهية الشيعية، ولقد نقل الشهيد محمد محمد صادق الصدر هذا التشخيص إلى واقع معالجة ميداني، فانتج فقهاً اجتماعياً هو الأول من نوعه في الساحة العراقية، وهذا هو الاتجاه الاول فيما اسميناه التجديد الفقهي لدى الصدر الثاني.

أمّا الاتجاه الثاني، في فقهه، فهو اتجاه مواكبة حركة العصر، حاجاته وما يتطلبه من تغطية فقهية ذات علاقة بحاجات المجتمع أو ذات تصور نظري استشراقي لابتلاءات البشرية، وهو يقول في هذا الجانب «إنّ الفقهاء حينما تعرضوا إلى ما اسموه بالمسائل المستحدثة والتي تشمل اموراً اجتماعية واقتصادية عديدة، لم يزيدوا على عدة صفحات قد لا تزيد على العشرين صفحة في مجموع كلّامهم ذاك أو ضمن مطبوع صغير لا يتجاوز ذلك ايضاً، في حين يمكن لهذا الكتاب (فقه القضاء) أن يبرهن على أنّ كلّ حقل من حقول المسائل المستحدثة يحتاج في ذكر تفريعاته ومسائله إلى كتاب مستقل وليس إلى صفحات بسيطة، فكيف الأمر بكلّ أنواع وحقول المسائل المستحدثة، ولا يخفى ان ما في «فقه المعارف» أو «التلقيح الصناعي» أو غيرهما من الموضوعات الحديثة من فروع وتطبيقات، لم يتعرض لها الفقهاء إلاّ باختصار شديد». ([24])

إنّ الشهيد محمد محمد صادق الصدر يقول في مقدمة كتابه «فقه الطب» انّه «يحتوي على خدمة جلى للفكر الاسلامي ودحض للفكر المعادي على كلّ المستويات بما فيها الفكر التقليدي الذي يرى ضرورة بقاء ما كان على ما كان». ([25])

وهذه النصوص توضح إلى حد كبير انشغاله بتهيئة قاعدة فكرية ـ فقهية لحركته الاجتماعية وتصوره العام عما تتطلبه هذه الحركة من اقتحام مجالات فقهية تتجاوز المألوف، وتلامس الواقع الراهن بالحاح شديد.

المبحث السابع :آليات التحشيد الاجتماعي

ولكي تتبلور كامل جوانب الرؤية للشهيد محمد الصدر، وتنضج الصورة الاجمالية لمشروعه التغييري. لابدّ من رصد الآليات التعبوية ـ الميدانية التي عمل بها ومن ثم أساسها النظري... فهو بالإضافة إلى القاعدة الفكرية ـ الفقهية التي بلورها، والقراءات «الثلاث» التي أشرنا لها، فإنّه بذل جهداً جباراً لاكتشاف الاجرائيات التي تعطي مشروعه جانبه العملي ـ التطبيقي، والتي تحقق الجانب الميداني من المشروع الذي أخذ خصوصيته منه، ويلخص هذا الجانب الآلية الكبرى التي مثلتها صلاة الجمعة، فلقد اشتغل الشهيد محمد الصدر أولاً على اثبات وجوبية قيام هذه الصلاة تحت كلّ الظروف والمنعطفات، وانه لا يجوز تعطيلها في ظل اي سبب من الاسباب وناقش هذا الجانب تاريخياً وفقهياً، وحتى في الأسباب الاخرى التي أدّت إلى تعطيل هذه الصلاة لدى الشيعة، ولقد بذل جهدا نظرياً كبيراً في معالجة الإشكالات التي أدت إلى هذا التعطيل، وهو بهذا الجهد يسجل كفقيه خروجاً واضحاً على المألوف، وفي ظرف سياسي غير عادي، يقول الشهيد محمد الصدر، في اطار الأساس النظري لصلاة الجمعة ما يلي:

«إنّ صلاة الجمعة وإن كانت واجباً تخييرياً، إلاّ إنّه بوجود القائد للأمّة تكون واجبة، ولقد كانت هذه النقطة محل خلاف بين الفقهاء». ([26])

وفي البعد التاريخي لها يقول «إنّها ـ أي صلاة الجمعة ـ خلاف السياسة المرجعية جيلاً بعد جيل ومنذ حوالي ثلاثمائة سنة تقريباً، أو اكثر من ذلك([27])». 

وحول أهداف صلاة الجمعة يقول: «من فوائد صلاة الجمعة هو الاتصال بين المجتمع والحوزة العلمية». ([28])و«إنّ من فوائد صلاة الجمعة هو الوعي الديني الذي حصل في الحوزة والمجتمع، ومنها عرف الناس إنّ عدداً كثيراً من الحوزويين غير ما كانوا يتصورون». ([29])

إنّ هذه النصوص الموجزة حول «صلاة الجمعة» بإمكانها أن تكثّف وتكشف عن أهداف الشهيد محمد الصدر من وراء هذه الصلاة فهي:

1ـ تحقق الاتصال بين المرجع والمجتمع، وهذا الهدف يكشف عن استيعابه للإشكالية التاريخية بين الطرفين اللذين تحدثنا عنهما.

2ـ تحقق رفع مستوى وعي الأمّة، لا بالاتجاه العام فقط، إنما باتجاه الحوزة، أي انها تسعى إلى فتح وعي الأمّة بهذا الاتجاه، ومن ثم تصحيح تصوراتها الخاطئة إن وجدت عن الحوزويين.

3ـ إنّ نجاح (صلاة الجمعة) يكشف من وجهة نظر الشهيد محمد الصدر، فشل السياسة المرجعية التاريخية ازاءها.

لقد شكلّت صلاة الجمعة المحور التعبوي الابرز في حركة الصدر الثاني ازاء المجتمع، ونجاحها حرض السلطة لوضع حد لها من خلال اغتياله. ورغم انّها مثّلت آلية تعبوية بشكلّ دوري، فإنّه ـ أي الصدر الثاني ـ لم يكتف بها في سياسة التحشيد الاجتماعي التي عمل بها... بل انّه حاول من خلال هذه السياسة أن يجعل من المناسبة الدينية محوراً من محاور اهتمامه بما تحققه هذه المناسبة من حضور جمعي... ولذلك فهو تعامل مع مسيرة الأربعين إلى كربلاء بشكلّ يعكس اهتمامه بأي اجراء يحقق حالة تعبئة عامة في وسط الأمّة... ومن ثم استثمر هذه المناسبات في مشروعه التغييري الكلّي، وحث عليها، كما انّه حاول أن يؤسس لمناسبات جديدة، بغية ايجاد أكبر عدد من آليات الاتصال بالناس، ومحاولة تدريبهم على تأديه اثر ما على وفق ضوابط وارشادات القيادة الدينية وبالتالي ربطهم بها «فإذا قالت لكم الحوزة قوموا تقومون وإذا قالت لكم اقعدوا تقعدون([30])». 

المبحث الثامن :مقدمات المشروع السياسي للصدر الثاني

 

تعرضت المرجعية الدينية في العراق خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين الى ضربات قوية من قبل النظام الحاكم، ففي المدة ما بين عام 1968 (وصول حزب البعث العراقي الى السلطة) وحتى عام 1970 (حيث توفي السيد الحكيم) تعرضت مرجعية السيد محسن الحكيم الى اساءات عديدة وصلت الى اتهام ولده السيد مهدي الحكيم بالتجسس لقوى اجنبية. وفي عام 1980 أُعدم المفكر الإسلامي المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر بتهمة تشكيل حزب إسلامي سري معارض (حزب الدعوة الإسلامية) وتأييد الثورة الاسلامية في ايران. وفي عام 1991 تعرض السيد ابو القاسم الخوئي الى ضغوط كبيرة بسبب دعمه للانتفاضة الشعبانية في آذار 1991. تعرض للسجن والتعذيب العديد من المراجع الكبار (السيد السيستاني، السيد السبزواري، السيد محمد سعيد الحكيم، السيد محمد الصدر) وعشرات الفضلاء ومن اساتذة وطلاب الحوزة العلمية، واستشهد آخرون في اثناء وبعد الانتفاضة. واغتيل عدد من المراجع الكبار امثال الشيخ علي الغروي والشيخ البروجردي، اضافة الى محاولة اغتيال السيد السيستاني.

 

ورث الصدر الثاني ارثاً ثقيلاً، ظروفاً صعبة، بلداً محاصراً اقتصادياً وسياسياً، سلطة تمارس سياسة البطش والقمع في اقسى صورها، شعباً محاصراً أمنياً واقتصادياً، تفشى فيه الفقر والجوع والمرض والانحلال الاخلاقي، وجماهير مازالت تلملم جراحها بعدما قدمته من تضحيات جسيمة في اثناء الانتفاضة العظيمة وبعدها عام 1991. كلّ هذه المفردات تمثل مثبطات لمجرد التفكير في اي مشروع نهضوي سياسي ـ اجتماعي. كما أنّ ضعف الامكانات الذاتية تشكلّ بحد ذاتها تحدياً كبيراً امام اي حركة تغييرية ممكنة. هذا الإرث الثقيل بعناصره المتشابكة مثل التحدي الأكبر امام الصدر الثاني لبناء مشروعه التأسيسي. لقد كان عليه أن يفكك عناصر الصراع ويعالج كلّ واحد على حدة ليخلق منه لبنة قادرة على الانسجام والتكيف مع اللبنات الاخرى كي يرتفع البناء على أسس قوية متراصة. كان عليه أن يتجاوز القيود التي تقيد حركته داخل المرجعية الدينية نفسها أولاً، هذه القيود ليست سوى اشكاليات تطورت عبر السنين لتصبح واقعاً وعرفاً يجب التقيد به رغم هشاشة متبنياته. هذه الإشكاليات هي:

أولاً: إشكالية العلاقة مع السلطة

 

كان على الصدر الثاني أن يحدد موقفه من (اشكالية الاعتزال والمواجهة) التي حكمت مسار العلاقة بين الحوزة والسلطة. فمن العلماء من آمن بالمواجهة ومنهم من آثر السكوت، وكلّ له قناعاته ومبرراته الشرعية. فانتهج الصدر الثاني طريقه الخاص به في تحييد السلطة ريثما تكتمل ملامح مشروعه وتنضج خبرته استعداداً للمواجهة التي لابد منها في يوم ما. فكان عليه ان يتفادى استفزاز السلطة ويمنعها من التفكير في الاجهاز عليه وعلى مشروعه. ومع أن لذلك الموقف استحقاقاته، لكن الصدر لم يمنح السلطة ما تأمله منه، إذ لم ينقل عنه أي مديح للسلطة أو تأييدها سياسياً أو فكرياً [16]، بل على العكس كان ينتقد السلطة في لقاءاته أو صلاة الجمعة تارة تلميحاً وتارة تصريحاً. وكان يدرك أنّ السلطة تريد اغتياله حوزوياً وجماهيرياً عندما كانت تمتدحه في إعلامها. [17]

 

لقد كان الصدر يعي بأنّ السلطة تريد تحكيمه والسيطرة على مرجعيته، ففي لقاء صحفي مسجل صرح بأنه من وجهة نظر الدولة (ينبغي السيطرة على هذه الجهة (مرجعية الصدر) وتحجيمها. وأحسن طريقة للتحجيم هي أن يُمدح ويُنفَع لأجل ان يخمد ويأفل نجمه، وهذا ما حصل. تصرفوا (عناصر السلطة) تصرفاً حكيماً من وجهة نظرهم متسماً بالحقيقة، وأنا أعمل على أعصابي، ولا استطيع أن أقول مجبراً أو مكرهاً. بأي يد اصفق وبأي لسان أنطق؟ فالناس في داخل وخارج العراق يأخذون المطلب كأنه ناجز. كأنني أنا لي رغبة في ذلك).

 

وخلال تلك المرحلة واجه الصدر الثاني حملات عدائية وهجمات واتهامات في الخارج والداخل، في حين لا يمكنه الإفصاح عن مشروعه، كما في تصريحه المذكور انفاً، لأنه سيُجهض في وقت مبكر. لقد استطاع الصدر أن يوطد صلته بالجماهير العراقية ويكسب ثقتها وخاصة مجاهدي الداخل الذين كانوا يدركون عمق الإشكالية التي وضع الصدر الثاني فيها من خلال اتهامه بالعمالة للسلطة، وأنه لا يستطيع أن يكشف مشروعه قبل أوانه، وأنهم يؤمنون بأن (السيد محمد الصدر هو الأصلح وهو يخطط لأمر مستقبلي يقوي به التيار الديني بشكلّ عجز عنه الآخرون. وهو يريد تغيير النفوس قبل تغيير النظام. وأنّ ما تردد عنه من مسائل قد تكون غير مقبولة عند البعض هو من شائعات أعداء الإسلام. وأنّ النظام بثّ عيونه هذه حتى في مكتبه في النجف الاشرف. وأنه يسعى لإحياء الدين ومعالمه التي بدأت بالاندثار. وأنّه ثوري يخطط للحظة المناسبة، ويريد أن يستثمر الظرف الراهن الذي ضعف به النظام. وأنّ الكثير من أبناء الشعب لم يكونوا يعرفون أمور دينهم قبل تصدي السيد الصدر للمرجعية). [18] لقد كانت (الأمّة في الداخل) أكثر فهماً والتصاقاً بمرجعية الصدر من (الأمّة في الخارج) التي تأثرت بحملات بعض الأطراف ضده.

 

لقد انطلق الصدر الثاني في علاقته بالسلطة من خلال قاعدة (جواز العمل مع حكام الجور) حيث تعامل الصدر مع السلطة دون ان يعطيها المشروعية. وأنّ علاقته بالسلطة لم تكن علاقة تعاون بل علاقة تعامل مشروط لا تختلف عن بعض حالات التعامل التي شهدها التاريخ الفقهي الشيعي من قبل بعض الفقهاء الشيعة تماشياً مع مصلحة الإسلام العليا التي يقدرها الفقيه على ضوء الواقع والظرف الاجتماعي الذي يحكم مرحلته. [19] وقد صنف في هذه المسألة الكثير من فقهاء الشيعة على مر التاريخ كالشيخ الصدوق (381 هـ / 991م) [20]، والشيخ المفيد (ت 413 هـ / 1039م) [21]، وشيخ الطائفة الطوسي (ت 460 هـ / 1067م) [22]، والشريف المرتضى (ت 436 هـ / 1044م) [23]. ومن المتأخرين الإمام الخميني (ت 1989) [24] والشيخ محمد مهدي شمس الدين [25].

وبعد أن يناقش الروايات المانعة والروايات المجوّزة، يستنتج الشيخ شمس الدين ما يلي:

 

(إنّ المستفاد من مجموع الروايات، ونسبة بعضها الى بعض أمران:

 

الأوّل: إنّ هذه الروايات لا تتضمن حكماً أولياً أصلياً من صرف العمل مع (ولاة الجور) سواء في ذلك العمل الحكومي، أو الاعمال الحرة، بل هي دالة على أنّ العمل مشروع ومباح في الجملة اذا لم يتضمن أو يلازم الاعتراف بالشرعية، ولم يؤد الى الظلم والمعاونة عليه، فليس في البين حكم تعبدي غيبي.

 

الثاني: إنّ مصبّ المنع في الروايات الدالة على التحريم، هو الاعتراف بشرعية هؤلاء الحكام، وحكمهم، وما يلزم العمل معهم من ظلم الناس. وأما اذا كان العمل معهم لا يتضمن اعترافاً بالشرعية ولا يلزم ذلك، ولا يؤدي الى ارتكاب الظلم، والمعاونة عليه، فإنّ الروايات دالة على مشروعية العمل وإباحته). [26]

 

ويشرح السيد محمد الصدر علاقته بالسلطة بشكلّ واضح حيث يقول (السلطة تؤيد المظاهر الدينية الشيعية وترعاها، وهي تعطف علينا ما دام أننا لا نتدخل في السياسة. وهي تكف شرّها عنّا ما دمنا نكف شرنا عنها، بمعنى أنها تلتزم ازاءنا سياسة المعاملة بالمثل) [27]. ومع ما يتضمنه التصريح من تقية لكنه يتضمن تأكيداً على (سياسة المعاملة بالمثل) التي اراد بها منطلقاً يحدد طبيعة تعامله مع السلطة. وكانت الحوزة تتعامل بنفس المنطق مع السلطات السابقة واللاحقة لكن أسلوب التعامل تغير عند الصدر الثاني بسبب الظروف التي حكمت مرحلته. لقد رفض الشهيد الصدر الثاني ووكلّاؤه طلب السلطة المتكرر (بالدعاء للسيد الرئيس صدام حسين). ورفض ايضاً طلب مبعوث صدام (محمد حمزة الزبيدي)، قبل يومين من اغتياله، اصدار فتوى (تحرير الكعبة) موجهة ضد الحكومة السعودية، وفتوى اخرى لتأييد دعوة صدام الشعوب العربية للاطاحة بحكامها. كما رفض طلباً للنظام يقضي بأن يدرج ضمن خطبه تأكيدات تؤيد سعي السلطات لاعتقال المسؤولين عن اغتيال المرجعين البروجردي والغروي. [28]

ثانياً: إشكالية العلاقة بين الفقيه والمكلّف

 

أراد الصدر تجاوز (جدلية الفقيه والمكلّف: مَنْ يذهب الى مَنْ) التي ترى أنه لا يجب على الفقيه أن يذهب الى المكلّف ويبلغه حكمه، بل يجب على المكلّف نفسه أن يأتي الى الفقيه ويسأله. فينتقد الصدر هذه الظاهرة بقوله (نعم تصح هذه المقولة اذا توجه السؤال للفقيه، وجب حينئذ الجواب. أمّا أنّه يجب على الفقيه طرق باب المكلّف بدون سؤال، وأن يعطيه حكمه فهذا لا، وهذا مشهور). ثم يقرر أنّ نتائج هذه الظاهرة انها ترسخ (المقاطعة والانفصال النفسي والاجتماعي بين الحوزة والمرجعية من ناحية وبين العشائر من ناحية اخرى) [29]. ويوجه نقده للحوزة التي تتقاعس عن الاهتمام بالأمّة ونشر الأحكام الإسلامية والفقه بين أبنائها، كما ينتقد الذرائع المتداولة بين بعض أوساط الحوزة التي تقول (لا يجب التبليغ الشرعي إلاّ عند السؤال، هكذا قال المشهور. أمّا بدون سؤال فإنّه غير واجب بل مستحب ولا يجب القيام بما ليس بواجب. ولا يجب حسب العبارة المتعارفة دق أبواب الآخرين لا أفراداً ولا جماعات ولا طوائف لهدايتهم. لا توجد هكذا ضرورة ـ هذا المسلك التقليدي وليس أنا أقول بذلك ـ ومن هنا اتخذت الحوزة العلمية فلسفتها الاجتماعية عن هذا الطريق). ويوضح الصدر الثاني موقفه تجاه هذه الإشكالية فيقول (إلاّ أنّ الحوزة الناطقة المجاهدة (أي حوزته) لا ينبغي أن تكف عن النشاط في مختلف الاتجاهات ومختلف الأساليب). [30]

 

لقد أعاقت هذه الأعراف والمقولات عملية التواصل بين المرجعية والأمّة بشكلّ عزز عزلة المرجعية عن الجماهير، فكان لابدّ للسيد الصدر الثاني من تجاوزها بهدف بناء علاقات وطيدة مع الأمّة. لقد شعر بخطورة العزلة عن الامة، اذ كيف سيرتفع مستوى الامة عقائدياً وفقهياً؟ هذا اذا لم نتطرق للجانب السياسي والاخلاقي. هذا الانفصال بين المرجعية والامة بحاجة الى جهود كبيرة للقضاء عليه وردم تلك الهوة بين المرجع والجماهير.

 

يقول السيد عبدالله الغريفي (إذا غابت المرجعية عن واقع الامة وعن قضاياها وهمومها وتطلعاتها، فمن الطبيعي جداً ان تغيب عن وعي الأمّة ووجدانها. فحتى يكون للمرجعية حضور في وعي الامة ووجدانها يجب أن يكون لها حضور في واقع الامة وحركتها وتطلعاتها وامتداداتها ومعاناتها. فمثلما نريد للمرجعية ان تكون حاضرة في وعي الامة ووجدانها، نريد للأمّة أن تكون حاضرة في وعي المرجعية ووجدانها. فكيف تكون الامة حاضرة في وعي المرجعية ومتى تكون كذلك؟ إنّها تكون كذلك حينما تكون الأمّة الهم الكبير للمرجعية. وحينما تكون المرجعية حاضرة في قضايا الأمّة: الفكرية والاجتماعية والسياسية. مما يؤسف له أن الأمّة أصبحت حالة مهمشة في الوعي المرجعي، فبمقدار ما يكون الرصيد في الامة من حيث التقليد، وبمقدار ما يكون عطاء الامة من الحقوق والأخماس، يكون الحضور. أما ان تكون الامة حاضرة بهمومها كلّها في ذهن المرجعية فمسألة تحتاج الى تأمل ونظر! من هنا فإنّ هناك علاقة جدلية بين المرجعية والامة، فبمقدار ما يعطي المرجع من حضور، تعطيه الامة من حبها وثقتها والتفافها، وبمقدار ما يعيش المرجع غياباً عن واقع الامة الفكري والثقافي والروحي والسياسي بمقدار ما تبتعد الامة عن حضورها في الواقع المرجعي. فإذا أعطت المرجعية الامة فكرها وجهدها وثقتها، فإنّ الامة ستعطيها الكثير من ولائها وحبها. واذا مارست المرجعية ابوّتها للأمة، فستعطي الامة بنوّة صادقة للمرجعية. ولذلك ليس من الصحيح ابداً ان نتهم الأمّة دائماً بالعقوق. يجب علينا اعادة صياغة المشروع المرجعي على وفق منظور جديد يضع الامة في حسابه). ([31])

 

ثالثاً: إشكالية العلاقة مع المرجعيات الأخرى

 

عبر التاريخ تطورت المرجعية الدينية عموماً في المسار الفردي، لذلك لم تشهد عملاً جماعياً (بين المراجع أنفسهم) إلاّ في الحالات النادرة، مثل مواجهة عدو خارجي كالاحتلال البريطاني للعراق عام 1914، أو الوقوف ضد تولي حاكم انجليزي ادارة العراق، حين اصر المراجع على انتخاب حاكم مسلم عام 1919، أو في وقوفهم مع مطالب الحركة الدستورية عام 1905. ولذلك شهدت تلك المرحلة التاريخية صدور فتاوى مشتركة تضم امضاءات العديد من المراجع والفضلاء.([32])

ولم يكن صعود مرجعية السيد الصدر الثاني بالامر السهل خاصة اذا لاحظنا الظروف التي برزت فيها وما رافقها من تشكيك واتهام بوجود علاقة مع السلطة. ولما بدأت تتألق وتحتل الشارع العراقي بدا وكأن ذلك استفزاز للمرجعيات الاخرى، فتصاعدت وتيرة الانتقادات له، مما حدا بالسيد الصدر الثاني الى توجيه انتقادات شديدة وعلنية للمراجع الآخرين. وهذه الحالة ليست شاذة في مرجعية الصدر الثاني، فقسم من هذه الانتقادات المتبادلة تعود الى التنافس التاريخي بين المرجعيات. فالإمام الخميني انتقد كثيراً بعض الاوساط الحوزوية والمرجعيات المعاصرة له والمختلفة معه في الرأي. وتعرضت مرجعية السيد محمد باقر الصدر الى العداء والتشكيك والمحاربة. ([33])ووصلت الأمور الى حد اتهام السيد الصدر الأول بالعمالة لأميركا وهو يعاني في الحجز في منزله. ([34])واستعداء النظام العراقي ضده والمطالبة بإعدامه. ([35])ومن المراجع الأحياء الذين تعرضوا لهجمات قاسية هو المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله، حيث صدرت فتاوى وكتب ومنشورات تشكك بمرجعيته، وتعدّه  منحرفاً عن الدين.

 

وكان الشهيد الصدر الثاني يبذل الجهود لظهور المرجعية بمظهر الصف الواحد، وأعلن في عدة مناسبات عن سياسة (اليد الممدودة للمصافحة) ([36])، وهذا ينسجم مع ما يطرحه بأنه قائد للأمة، والحوزة جزء من الأمة. وأنّ الحوزة ليست على علاقة وفاق مع السلطة، وكلّها مهددة بالاستئصال كما حدث للمراجع والعلماء الذين استشهدوا على يد السلطة أمثال (السيد محمد باقر الصدر، عائلة الحكيم، الشيخ البروجردي والشيخ الغروي) 

وقد كانت لسياسته استجابة واضحة في الوسط الحوزوي حيث تقلصت الانتقادات التي كان يواجهها الى حدّ كبير في أيامه الاخيرة. ففي تصريح له قال (الحقّ إنّي لم أسمع نقداً جارحاً لا من المراجع ولا من المرشحين للمرجعية، وأنّهم سكتوا وهدأوا، ربما تصدر أو صدرت بعض كلّمات من ممثليهم ووكلّائهم). ([37])يبدو أنّ انتقادات الصدر الثاني للمرجعيات المعاصرة له لم تستمر على منوال واحد في الحدة والمستوى كما ظهرت في خطب الجمعة ولقاءاته المسجلة المتداولة، بل خفت كثيراً فيما بعد بسبب تغير مواقف بعض المرجعيات تجاهه سواء داخل العراق أو خارجه. ففي آخر حديث له قبل شهادته ظهر أنّ موقفه قد لان كثيراً حين امتدح بعض المراجع لأنّهم ايدوا منهجه وأيدوا اقامة صلاة الجمعة لما لها من نتائج ايجابية، فالقضية معتمدة على الفعل ورد الفعل اكثر مما هي قضية اساسية. يقول الصدر الثاني:

إنّ انفتاح فقهاء العالم الإسلامي موجود ومبشّر بالخير كثيراً في خارج العراق. والأخبار عن ذلك متضافرة ومتواترة إلاّ من نسبة قليلة. وأما في داخل العراق فالأمر يكاد ان يكون مختلفاً لان جملة ممن كان متخذ الاتجاه الآخر. لا أريد أن اسميه، لكنهم مقتنعون بأعمالهم وأقوالهم. ولا أشك أنّ الشيء الذي حصل في الحوزة الثانية أو الحوزة الصامتة (المعارضة له) وأتباعها ووكلّائها ينقسم على مستويين:

المستوى الأول: أنّه في الإمكان التأكيد على أنّ تلك الحوزة نسبة السكوت والاعتراض فيها، على الاتجاه الذي سرنا فيه، كانت أكثر ولكنها بحمد الله وبفضل الله قلّت حينما ازدادت مظاهر المصالح الاجتماعية والإسلامية في المجتمع، وتحمس الناس الى قبول جملة من الأمور من الفتاوى وأشكال طاعة الله سبحانه وتعالى، فقد قلّ الاعتراض جداً الى حد يكاد أن يكون منعدماً إلاّ من نسبة قليلة جداً.

المستوى الثاني: حصل عندهم (جزاهم الله خيراً) اكثر من ذلك. أستطيع انّ أقول أنّهم تقدّموا الى الأمام خطوة معتداً بها ولعل أهم من اتجه هذا الاتجاه هو جناب السيد حسين بحر العلوم (أدام الله عزّه)، في اقواله وفي فتواه، في استفتاء واحد أو اكثر من واحد، ينصر (صلاة) الجمعة وينصر السيد محمداً الصدر. أنا اعتبره عملاً شجاعاً أولاً، وشكوراً ثانياً. ويدل على شعوره بالمصلحة العامة، وشعوره أنّ هذه المصلحة العامة ليست قائمة بفرد، وليست قائمة بمنطقة، وإنّما هي ضد العدو المشترك في العالم الذي يكيد لنا أنواع الكيد. في الحقيقـة التسالم والأخوّة والتراضي بيننا في داخل الحوزة من أهم الأساليب والأوضاع التي يمكننا ان نواجه بها هذا الزخم الضخم الذي يأتي ضدنا من العالم الغربي وأذنابه. ([38])

 

المبحث التاسع : مقومات العلاقة مع الجماهير في المشروع الصدري

 

بعد أن ا ستكمل الصدر متطلبات مشروعه التأسيسي عبر ترتيب وضعه الحوزوي والمرجعي، وبعد أن رسم طبيعة العلاقة مع السلطة على وفق المسار الذي حدده هو، بدأ بالعمل في خلق آلية للعلاقة بينه وبين جماهير الامة لأنّها هي المعنية أولاً بالخطاب المرجعي، وهي مادة المشروع ولبناته الأساسية. فبدون الامة لن يكون هناك مشروع تغييري أو يحدث اي تغيير حقيقي مبرمج. وهذه العلاقة تستلزم تحشيد الامكانات المتوفرة والكامنة في الجماهير، وتهيئة الظروف الموضوعية اللازمة لانجاح المشروع. وقد تمثلت معالم هذه العلاقة بما يلي:

1ـ وكلّاء من الشباب الجامعي

 

اهتم الصدر الثاني كثيراً ببناء جهاز مرجعي متطور قادر على مواكبة افكاره ونشاطاته. وركز على تربية طلابه واختيار وكلّائه بين الشباب الجامعي المثقف حيث أنّ الكثير من وكلّائه من خريجي الجامعات في أقسام اللغات والهندسة والعلوم الإنسانية. إنّ الخلفية الأكاديمية تجعل الوكيل اكثر فهماً لواقع المجتمع وتحدياته ومشاكلّه. وركز الشهيد الصدر الثاني على أن يكون وكلّاؤه على درجة معقولة من الثقافة الاجتماعية والإنسانية العامة. وكان اغلبهم من فئة الشباب الذين يشكلّون جزءاً حيوياً من شروط التفاعل مع أجيال الامة الجديدة لصناعة المستقبل. ([39])وكان يحرص أن يكون الوكيل من ابناء المنطقة نفسها، يخاطب كلّ منهم قومه ومدينته باللغة التي يعرفونها، ولتكون دائرة التأثير أمضى وأوسع. ([40])

 

إنّ وكلّاء المرجع هم أذرعه التي يتحرك بها داخل المجتمع، وهم مجساته لنقل ما يدور في المجتمع من مشاكلّ وتحديات، وهم قنواته الأمينة في الاتصال بأبناء الامة في كلّ مدينة وأقصى قرية عراقية. لذلك حرص على تربيتهم ونزاهتهم، كي يكونوا جنوداً أمناء للقائد، وليسوا موظفين ينتظرون الحقوق والرواتب والامتيازات. فكان يحرص أن لا يعطي وكالة لشخص لديه وكالة من مرجع آخر. وكان يحدد الوكالات بفترات معينة كي يراقب عمل الوكيل، ثم يقرر تمديدها أو سحبها. وأكد عى الخطباء وأئمة الجمعة الاهتمام، في خطبهم، بقضايا المجتمع المخاطب ومشاكلّه فضلاً عن مشاكلّ المسلمين في العالم. ([41])

 

وكان يعدهم للمواجهة الحاسمة في يوم ما حين قال يوماً: أعدوا اكفانكم، في إشارة للتحول الدراماتيكي الذي سيواجهه مشروعه. وقد قدم أولئك الوكلّاء تضحيات جسيمة حيث استشهد بعضهم قبل استشهاده وبعده. وكان تأثيرهم واضحاً في تلك الجموع الحاشدة التي استطاعوا ان يجعلوها تتبنى الإسلام وتنفيذ شعائره والالتزام بتوصيات وتوجيهات المرجع في جو يسوده الخوف والقمع. وقد استمر بعضهم في اداء صلاة الجمعة حتى بعد استشهاد السيد محمد الصدر.

2ـ الفراغ القيادي في العراق

 

أدرك السيد الصدر أنّ الشعب العراقي يعاني من فراغ قيادي واضح، والشعب العراقي بحاجة الى رمز سياسي يقود تحركه، يثق به، فإذا ترشحت قيادة علمائية واضحة ومرجعية متحركة فهذا افضل، مرجعية حاضرة في الأمة، تراها وتسمعها، تخاطبها وتسألها، تبثها همومها وتتلقى توصياتها. وهذا غير متوفر في الوضع المرجعي التقليدي. لقد كان الصدر يهدف الى بناء (مرجعية منفتحة تحمل هموم المسلمين وتحمل أعباء ومشاكلّ المسلمين وتخاطب الشارع مباشرة). ([42])فركز على بناء علاقة وطيدة بالأمة إذ بدون هذه العلاقة الوثيقة بين المرجعية والامة يبقى الخلل قائماً في الجانبين. فإما تتحول المرجعية الى مؤسسة فتوائية وتفقد صفة القيادية، أو ان يتحول المجتمع الى مجرد افراد مشتتين.

 

لقد اختزن الصدر تجربة علمين من أعلام المرجعية الدينية: الأول: السيد محمد باقر الصدر في مدرسته الأصولية وتجديده في الفقه عبر مؤلفات عديدة، ودعوته لإنشاء المرجعية الرشيدة التي أراد بها أن تصبح المرجعية مؤسسة قيادية منظمة تقود الامة وتشرف على رعايتها فكرياً وسياسياً واجتماعياً. لقد كان من طلابه المقربين فاستوعب مشروعه التغييري وتجاربه ونظرياته فجاءت بعض بحوثه وكتاباته بما يسمى بالفقه العملي والفقه الاجتماعي. والثاني هو الإمام الخميني، وهو استاذه ايضاً، في مدرسته الجماهيرية الثورية حيث اعتمد في تحركه على جماهير الامة، منفتحاً عليها، سواء في مرحلة المواجهة مع النظام الطاغوتي أو بعد انتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الاسلامية. وكلّا المرجعين احتلا مكانتهما في نفوس اتباعهما وانصارهما وجماهير الامة في العراق وايران.

 

انّ القيادة تؤدي الاثر الرئيس في اقناع الجماهير بالأفكار والأهداف التي تصبو اليها. ومن خلال علاقتها بها تستطيع مقاومة كلّ الصعوبات والعراقيل التي توضع امامها. وبفضل مؤازرة الامة للمرجعية تتمكن الاخيرة من الاستمرار في جهادها ومواقفها وصلابتها، حتى تقودها الى النصر والنجاة. وقد تمكن الصدر الثاني من بناء قيادة مرجعية ـ جماهيرية سرعان ما انضوى تحتها ملايين العراقيين الذين لبوا نداءاتها سواء في اداء صلاة الجمعة أو تنفيداً لفتواها بصدد قضايا معينة. لقد استطاع أن يحرك في الامة كلّ مواطن القوة والصمود، ليحول الشارع العراقي الى شارع تنبض حركته بالإسلام والمفاهيم الإسلامية. وكان يلمح بأنّه هو نفسه الإمام القائد للأمة طالما باستطاعته إقامة صلاة الجمعة.([43]) 

 

ومن خلال تربية فريدة للجماهير، عبر الفتاوى والتوصيات، تارة بالحركة وتارة بالتوقف، استطاع الصدر الثاني ان يمسك بقياد الامة ويحركها بالوجهة التي يريدها. وهذا أمر غير متعارف عليه في المسار التاريخي للشعب العراقي المعروف بكثرة جدله وتبرّمه، ولكن الصدر الثاني تمكن وخلال فترة قياسية ان يركز مفاهيم الانقياد والطاعة في نفوس الجماهير. وهذا أمر حيوي طالما أنّه مقبل على حركة تغييرية كبيرة، ومواجهة حاسمة ومصيرية مع السلطة الحاكمة. وقد صرّح الصدر الثاني بهذه الحقيقة في إحدى خطبه معلقاً على حادثة إلغاء الزيارة الشعبانية الى كربلاء من قبل الدولة، حيث قال:

هذه بادرة حسنة كونكم أثبتم بالتجربة أن الحوزة اذا قالت لكم تكلّموا تتكلّمون، واذا قالت لكم اسكتوا تسكتون. وأنتم بعون الله أثبتم أنكم على مستوى المسؤولية والطاعة. وبفضل الله وحسن توفيقه انه بالرغم من ان السير الى كربلاء لم يتم بالشكلّ الموسع الذي تمنيناه له، إلاّ أنه اثمر ثمرته الطيبة وأنتج نتائجه الحسنة في سبيل الله سبحانه ونصرة دينه من حيث أنه اظهر تكاتف الشعب العراقي كلّه وخاصة في الوسط والجنوب على العمل في سبيل الله والتضحية في سبيل الدين. ([44])

 

وكانت احاديث الصدر وخطبه تسجل على أشرطة كاسيت (صوت وفيديو) ويجري تكثيرها وتوزيعها لتصل أكبر عدد من الجماهير العراقية. ومن المعلوم ان شريط الكاسيت يسهل تداوله ونشره، اضافة الى أنّه يجعل السامع اكثر قرباً والتصاقاً بالقائد. كما أنّ الخطاب الصوتي عملي أكثر من الكتب خاصة للذين لا يستطيعون القراءة أو ذوي المستوى التعليمي المنخفض. وهذا اسلوب لم تعتده الجماهير ولم يمارسه المراجع من قبل حيث اقتصر على خطباء المجالس الحسينية، في حين أنها تستمع اليوم الى مرجع يخاطبها مباشرة، فتشعر بالانتماء إليه والى فكره ومنهجه.

صلاة الجمعة: مدرسة مفتوحة للوعي

 

أدرك السيد الصدر انّ الخطاب الجماهيري والحضور المرجعي والعلمائي بحاجة الى آلية مستمرة، وأرضية تستمد مقومات قوتها من العقيدة الإسلامية قادرة على جذب الناس، ولا تستفز السلطات، فلم يجد أفضل من بعث الحياة في شعيرة إسلامية متوقفة في الوسط الشيعي العراقي، وهي صلاة الجمعة. ([45]) فاجتماع الناس يصبح امراً عادياً لا تستطيع السلطة منعه لأنهم يريدون اقامة صلاة الجمعة، وهو أمر عادي يقام في جميع المدن التي يقطنها أهل السنة في العراق. كما تقام في جميع انحاء العالم الإسلامي، وتقام ايضاً في البلدان ذات الكثافة الشيعية كلّبنان وايران، أو اقليات شيعية كبيرة كما في الهند وباكستان ..

 

إنّ اقامة صلاة الجمعة ليست بالأمر السهل في الشارع العراقي، إنّ التجمع الجماهيري بحد ذاته رفض للنظام واستفزاز لسلطته. لقد استطاع الصدر أن يخلق قاعدة كبيرة من الأمّة تمكن من استدعائها الى الشارع لتؤكد الحضور الإسلامي المستمر في الشارع العراقي. وتعدّ صلاة الجمعة استنفاراً اسبوعياً للشارع العراقي لم يعتده من قبل، واجتماعاً جماهيرياً يختزن التماسك الاجتماعي وشعور الفرد بأنّه منتم الى شعب عريق وقوي، يعبر عن مشاعره ويعزز ثقته بنفسه من خلال عملية تواصل وبناء فكري وتثقيف سياسي. لقد أراد الصدر أن تمثل الجمعة جسراً تواصلياً بين المرجع والأمّة من خلال لقاء دوري شمولي عام، وليس لقاءً خاصاً شخصياً مع المرجع. فقد لا يتسنى للكثير من الناس الذين لم تتح لهم الظروف الالتقاء بالمرجع، أو انهم لا يعرفون آليات الوصول إليه، وبالتالي فهم يتواصلون عبر ادبياته وفتاواه فقط دون ان يعيشوا تصوراته وجهاً لوجه، ودون ان يعيش تصوراتهم بصورة مباشرة. ([46])

 

وقد قام الشهيد الصدر الثاني بتأصيل فقهي لصلاة الجمعة في خطبه حيث ذكر (أنّ صلاة الجمعة وإن كانت واجباً تخييرياً إلاّ أنه وبوجود الامام القائد للامة تكون واجبة، ولقد كانت هذه النقطة محط خلاف بين الفقهاء. كان الرسول يصلي صلاة الجمعة ويحث الناس على إقامتها. فلماذا لا يقيم بعض الناس هذه الشعيرة). ويتساءل: لماذا لا يقيم العلماء صلاة الجمعة؟ فيجيب بنقد لاذع على هذا السؤال موجهاً نقده للمراجع الآخرين قائلاً:

 

1ـ لا يمكن أن نقول انها لم تقم اصلاً وبتاتاً في تاريخ الإسلام والتشيع.

 

2ـ فإن قلنا أنها لم تكن مقامة من قبل علمائنا، فإننا يمكن ان نحملهم على محمل الصحة لأنّها واجب تخييري، فيقيمون صلاة الظهر كون صلاة الجمعة تتطلب تحضيراً (ويصلّون الظهر ويديرون ظهورهم.

3ـ لا يقيمونها حتى لا تحصل مفسدة!! وهي أنّ أحد العلماء اذا اقامها ولا يقيمها علماء آخرون أو لا يحضرون فيها، فإن هذا خلاف بين العلماء. علماً أنّ هذا الخلاف موجود بين العلماء منذ الأزل.

4ـ إنّ صلاة الجمعة والعيدين فيهما خطبة. وهذا ما لا يطيقه العلماء في الحوزة. وليست عادة لديهم، أي غير معتادين على ذلك. وقليل من يستطيع ان يخطب أو يعطي الخطبة حقها. ومن تعود منهم على الخطبة فإنّه تعوّد الخطابة الحسينية. وهذا لا يعوّل عليه في إلقاء خطبة الجمعة التي يجب ان تكون موجهة الى الشارع والعامة، في حين أنّ الخطيب الحسيني لا يمتلك ذلك ـ نعم جزاهم الله خير جزاء المحسنين ـ ولكن هذا اتجاه وذلك اتجاه.

5ـ اختلاف مستوى المجتهد أو المرجع عن مستوى الناس فهو لا يجد سبيلاً لإفهامهم، فهو معتاد على لغة المكاسب والفقه فلا يستطيع ان يتنازل ليتكلّم بلغة الشارع مع الناس، اذا افترضنا أنّ هؤلاء قد قبلوا بالنزول الى العامة والناس. وإنّه لمن العرف والمشهور هو أنّ الذي يقيم صلاة الركعتين (الجمعة) يجب أن يقوم للناس خطيباً، فهذا غير جائز لأنّ نص هذا القائم (خطبة المجتهد) غير مفهوم للناس بمعنى من المعاني. ([47])

 

امتازت خطب الجمع بالبساطة مع عدم الاخلال بعمق المفاهيم التي يطرحها، كان يستخدم لغة الشارع المبسطة بعيداً عن لغة اساتذة الحوزة ومصطلحاتها. إنّ معظم المراجع يجد صعوبة في مخاطبة الجماهير بأسلوب وخطاب تفهمه لأنهم اعتادوا على التعامل مع طلابهم ودروسهم الفقهية العميقة. والمتابع لخطب الجمعة للشهيد الصدر الثاني يلاحظ أنّه كان يعاني صعوبة بالغة في اتقان هذا الفن، فالمرجع غير الخطيب. وبمقارنة عاجلة بين الحوارات التي اجريت معه والخطب التي ألقاها وبين دروسه ومحاضراته امام طلبته يمكن اكتشاف المسافة الشاسعة في الأساليب، أي اساليب الطرح والوصول الى المطالب. ويمكن عدّ خطب السيد بأنّها من السهل الممتنع، فهو يستعمل اللغة العربية القريبة من فهم الناس، ولو بجهد بالغ ومكتوب غالباً، إذ يحاول إدخال المصطلحات الشعبية الخفيفة واللغة السهلة المفهومة وأحياناً الدارجة ولو بعد إعدادها وتنقيحها. وكان الصدر الثاني يفتتح خطبه عادة بدعاء مأثور من أدعية الصحيفة السجادية أو مفاتيح الجنان أو غيرهما من كتب الادعية المعروفة، ثم يعرج بأسلوب سلس يفهمه عموم المستمعين من طبقات الأمة كافة ، ويدخل في صلب الموضوع الذي يريد طرحه، بلا مقدمات أو ديباجات. 

وقد استخدم الشهيد الصدر الثاني عدة أساليب ومفردات تسهم في تعبئة الجماهير من خلال الإيماءات والشعارات التي يطلب من الجمهور ترديدها معه مما يعزز حالة الانتماء الجماهيري للمرجع وتمسكاً به، لأنّهم يتفاعلون معه عبر المشهد البصري والاستجابة السمعية لخطبه. وكانت هتافات جديدة لم يسمع بها الشارع العراقي مثل «نعم نعم للإسلام» و« نعم نعم للمذهب» و«نعم نعم للجمعة» مقابل شعارات «لاشيعة بعد اليوم» الذي رفعته السلطة بعد الانتفاضة، وشعار آخر جاء فيه «كلّا.. كلّا.. للباطل، كلّا.. كلّا.. لأمريكا، كلّا.. كلّا.. لإسرائيل، كلّا.. كلّا.. للاستعمار. كلّا.. كلّا.. للاستكبار. كلّا.. كلّا.. يا شيطان». وهي محاولة ذكية ومقصودة مقابل شعارات النظام السيئة الصيت التي كانت ترفع للاستهلاك المحلي أو البيعة المزيفة مثل «نعم نعم للقائد صدام حسين» و«بالروح بالدم نفديك يا صدام» و«صدام اسمك هزّ امريكا».

ولتركيز موقع الحوزة في أذهان الجماهير كان يردد بعض الشعارات مثل «هذه.. هذه حوزتنا، هذه.. هذه عزتنا، هي.. هي قائدنا، هي.. أملنا»، وقوله في شعار آخر «نعم، نعم للحوزة». كما ابتكر مناداة جديدة للصلاة على محمد وآل محمد حيث يطلب من الجماهير في صلاة الجمعة ذلك بقوله «على حب الحوزة.. صلوا على محمد وآل محمد». وكان يلقي أبياتاً من الشعر ومدائح للمعصومين «ع». وطالب في آخر خطبة له (بإطلاق سراح جميع المعتقلين من فضلاء الحوزة والمؤمنين فوراً) ويطلب من المصلين ترديد المطالبة بقولهم (نريد، فوراً، يا الله) ثلاث مرات

وكان كثيراً ما يوجه انتقاداته للسلطة ويستعمل أساليب غير مباشرة احياناً بشكلّ يفهمها السامع، فتارة يوجه نقده للسلطة معبراً عنها بـ «اسرائيل» حيث يصرح في إحدى خطبه (لو اجتمعت الحوزة مع الأمّة لهزمنا اسرائيل، ناهيك عن غيرها، اللهم إنّي قد بلّغت). وفي خطبة اخرى يقول (لكان في إمكان الحوزة والمذهب، بغض النظر عن السلاح طبعاً (ونحن عزّل عن السلاح والحمد لله)، لكان في إمكاننا مجابهة اسرائيل بنفسها بما يحصل فينا من تكاتف وتضامن وعزّة بالله) ، ومعروف ما يقصده الصدر بإسرائيل اي النظام العراقي، اذ أنّ الحوزة والشعب العراقي ليسا في صراع مباشر مع اسرائيل بل مع نظام صدام. ويكاد يفشي باسم النظام حين يتحدث عن موقف النظام بمنع صلاة الجمعة في شوارع الكوفة، يعبر عن النظام بإسرائيل التي قتلت الحسين «ع» حيث يقول (لماذا الصلاة في الشارع في البصرة والعمارة مسموحة وفي الكوفة ممنوعة؟ نحن لا نقبل بذلك فللحسين قتلة كثيرون، في كلّ جيل وفي الأجيال القادمة، لقد قتل الحسين «ع» الاستعمار المسيحي الغربي ايضاً والجلاوزة الموجودون في اسرائيل ايضاً قتلوا الحسين «ع» (وما أگدر احچي)). وواضح انّ اسرائيل لم تكن موجودة في كربلاء بل يريد السيد أنّ يزيد الذي قتل الحسين «ع» ما زال يقتل أبناءه اليوم متمثلاً بصدام وجلاوزته، والعبارة الأخيرة (ما أگدر احچي) رسالة للجماهير الى قراءة ما بين السطور في عباراته المذكورة آنفاً .

 

كما ان اختياره لموقع إقامة صلاة الجمعة أي في مسجد الكوفة له دلالات مكانية وتاريخية، حيث المحراب الذي سقط فيه أمير المؤمنين

الخـــــــــاتمة

إنّ مجموع الجهود التي بذلها الشهيد محمد الصدر «رض» أحدثت بالفعل هزة عنيفة في إطار المجتمع العراقي ... ولو أنّ الرؤى والتقديرات قد تغايرت بعد مرور سنة على استشهاده ازاء تجربته ، إلاّ إنّ هذه السنة شكلّت بحدّ ذاتها ـ لا سيما في شهورها الأولى - دالة اخرى على عمق الأثر الذي خلفه اجتماعياً، فبغض النظر عن ردود الفعل الآنية التي خلفها خبر الاستشهاد، فإن شهور ما بعد هذا الخبر عكست بشكلّ جلي صورة اخرى لارتباط المجتمع العراقي بالصدر الثاني وتجربته التي لم يعش هذا المجتمع مثيلاً لها، والبعد الأول الذي عرضته هذه الصورة يتمثل بانتماء جماهيري واسع لتجربته بعد استشهاده من الاوساط «المترددة والمتحفظة» التي كانت في حياته لا تستطيع ان تهضم النمط الجديد الذي جاء به في العمل الاجتماعي في طريق وصوله إلى العمل السياسي المباشر والتي تأثّرت بالشائعات والاتهامات التي وجهت للصدر الثاني في حياته... تلك الشائعات والاتهامات التي دارت حول علاقته بالسلطة والنابعة من حالة «القصدية» التي حركتها صراعات ومنافسات غير مشروعة وحالة التخلف والتمسك بما كان سائداً وعدّه إرثاً «مقدساً» يجب التوقف عنده...

إنّ اوساطاً شعبية وفي ظل نفوذ هاتين الحالتين تحفظت على الانخراط في حركة الصدر الثاني التغييرية في حياته إلاّ أنّ هذه الاوساط التحقت بشكلّ واضح في سياق مشروعه ولو إنّه كان التحاقاً «متأخراً» عبر عن نفسه بابداء العواطف والولاء والندم القاسي وتخلف فيه عن دوره المفترض في لحظة حياته وبما يمكن أن يتيحه له ذلك من مجال جديد لادارة الصراع مع السلطة... ومع هذا الانضواء المتأخر لهذه الكتلة الجماهيرية، إلاّ إنّ التقييم الاجمالي للمشروع يتطلب رصدها بوصفها  أثرمن آثار التغيير المستقبلي لوعي الأمّة كان الصدر الثاني يحرص على زرع بذوره.

إنّ هذا البعد أو المظهر عبرت عنه حالة اجماع لآلاف العراقيين في داخل العراق الذين عاشوا لحظة ما بعد صدمة استشهاده... اما البعد الآخر الذي بعبر عن الأثر العميق لما أسسه الصدر الثاني في الوسط الاجتماعي فانه تمثل بظاهرة «قبره» الذي تحول إلى مزار يومي لا تكاد تفارقه الناس وتقصده يومياً عشرات الآلاف من العراقيين القادمين من كلّ المحافظات العراقية... فلقد شكلّت هذه الظاهرة التي هي الأولى من نوعها في تاريخ العراق مصدراً للارهاق والاستنزاف الامني للسلطة لاسيما مع ما يرافقهما من شعور بالتحدي غير المعلن من الطرفين الناس من ناحية والسلطة من ناحية اخرى... ولولا هذا التحدي غير المعلن ما كان للسلطة أن تتأثر بالشكلّ الذي حصل، ولو أنّ اصل التجمع بهذا الشكلّ يمثل من حيث المبدأ أمراً غير مرغوب من الناحية الأمنية، اما أن يضاف إلى ذلك تحد سبقته مواجهات دامية كرد فعل على استشهاد الصدر الثاني في الثورة والبصرة ومناطق اخرى فذلك أمر دفع السلطة بالنهاية إلى تغيير سياستها بشكلّ صلف، فهي حتى ما بعد استشهاد الصدر كانت قد ساقت مجموعة من الاتهامات لاطراف اخرى تتهمها باغتياله وتحملها مسؤولية هذا الاغتيال.. وانها اضطرت إلى اكراه مجموعة من طلاب العلوم الدينية على مسرحية مكشوفة من «الاعترافات» نفذت بعدها حكم الاعدام بهم ثم «عوضت عوائلهم بعد ذلك لأنّها اكتشفت أنهم أبرياء»!!..

ثم بعد هذا الضغط الجماهيري الهادر على أمنها القلق دفعت الاوضاع بها في نهاية المطاف إلى التعميم على أعضائها وكوادرها بأن «الشهيد الصدر كان عميلاً لجهات خارجية»، وبما يشير إلى انها هي التي نفذت اغتياله، هذا التحول والارتباك في موقف السلطة يعبر عن عمق الأثر الذي عكسته ظاهرة الانتماء الجماهيري الجديد لتجربة الصدر الثاني ما بعد استشهاده.. فهذه الظاهرة بقدر ما كانت تعبر عن احساس أمّة بالمرارة والخسارة فإنّها تعبر ايضاً عن صحوة داخلية تدفعها إلى البحث عن قائد آخر يقودها من خلال ابداء مشاعرها ازاء فقدان قائد قد رحل... قبل أن يطول زمن الفراغ الذي خلفه.. إلاّ أنّ هذا الفراغ تحول إلى اشكالية كبرى في الصراع الداخلي بين الأمّة والسلطة التي استطاعت بعد ذلك ان تواصل اجراءاتها لملاحقة طلاب مدرسة الشهيد محمد الصدر ووكلّائه وتصفيتهم اعداماً أو تشريداً وتقدم على انتقامات «جنونية» جديدة ضد الشعب العراقي.

ولكن السؤال هو ماذا بعد هذا الفراغ؟ فلقد ترك الشهيد محمد باقر الصدر فراغاً قيادياً خطيراً في مرحلته وما كان لأحد أن يتصور بأن دماءه ستتحول إلى حزن مكبوت... والى صيرورة وعي متصاعد ستنفجر لا محال وتكشف عن انضواء أكبر للأمّة تحت العنوان الإسلامي فكانت انتفاضة شعبان ـ آذار 1991 وكانت ظاهرة الصدر الثاني بعدها.

إنّ انتصارات السلطة على الظاهرة الدينية مهما اتخذت من اشكال، فإنّها بالنهاية انتصارات وقتية وهزائم مؤجلة وفق قوانين الصراع المادية والغيبية.. والأهم في ما فعله المرجع الشهيد محمد محمد صادق الصدر ازاء السلطة في حياته وبعد استشهاده هو اجماع الأمّة من خلال صيرورة وعي بذل جهوداً جبارة بغية تأسيسها من خلال قراءته التأريخية وقراءته للواقع الاجتماعي.. وعي الأمّة بما ينبغي أن يكون عليه دور القائد والمرجع، فهو دور يتجاوز كثيراً ما اعتادت الناس عليه في السابق وهو دور يعبّر عن آلامها وطموحاتها ومصالحها لا أن ينكفئ إلى حيث ما يطابق الواقع والظرف دون التفكير بتغيرهما.

المصادر والمراجع المستخدمة

[1] عبدالحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية العراقية، الجذور الفكرية والواقع التاريخي، 1900 ـ 1924، ص 288.

[2] د. فرهاد ابراهيم، الطائفية والسياسة في العالم العربي.. نموذج الشيعة في العراق، رؤية في موضوع الدين والسياسة في المجتمع العربي المعاصر، ص 114، مكتبة مدبولي، ط1، 1996.

[3] سلام ابراهيم كبة، المجتمع المدني في كردستان العراق، ص 59، مجلة (النهج)، العدد 56 ـ خريف 1999.

[4] عبدالحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الاسلامية العراقية، مصدر سابق، ص 286.

[5] من كلّام لآية الله السيد محسن الحكيم رداً على اسئلة وجهها له الإمام الخميني «قده» في لقاء خاص بينهما، جاء في «نهضت امام خميني» لحميد روحاني، ج2، ص 151 ـ 152.

[6] الشهيد آية الله محمد باقر الصدر.. خطاب المحنة، المجموعة الكاملة لمؤلفاته، دار التعارف ـ بيروت، الطبعة الأولى.

[7] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 21.

[8] المصدر نفسه.

[9] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 3.

[10] عبدالأمير الركابي، السلطة العراقية والمعارضة والمجتمع.. دلالات في ضوء مقتل الإمام الصدر، صحيفة (الحياة) 15/4/1999.

[11] أكرم سليم، دراسة نقدية لتجربة الحركة الشيوعية في العراق، دراسات عراقية، العدد (7ـ8) أيلول 1998.

[12] د. علي كريم سعيد عبدالله، رؤية تكاملية بين الإسلام الحقيقي والقومية الحقيقية، دراسات عراقية، العدد (12 ـ 13) شباط 2000م.

[13] سلام ابراهيم كبة، النهج، مصدر سابق.

[14] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، لقاء صحفي مسجل.

[15] المصدر نفسه.

[16] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 13.

[17] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 6.

[18] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 22.

[19] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 

[20] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 13.

[21] راجع نص «السنينة» العشائرية في كتابنا «محمد محمد صادق الصدر (مرجعية الميدان) مشروعه التغييري ووقائع الاغتيال / الملاحق».

[22] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 21.

[23] عن كتاب «الاجتهاد والتجديد» في الفقه الإسلامي، لآية الله محمد مهدي شمس الدين، ص 73 ـ 74، المؤسسة الدولية، ط1، 1419 هـ ـ 1999م.

[24] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، فقه القضاء، ط1، 1419 هـ ـ 1999م، دار الأضواء.

[25] المصدر السابق.

[26] الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 3.

[27] المصدر نفسه.

[28] عادل رؤوف، مرجعية الميدان، مصدر سابق، ص 147.

[29] المصدر نفسه، ص 145.

[30] صحيفة (الموقف)، العدد 192 ـ 18 آذار 1999.

[31] حسين بركة الشامي، المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة، ص 299، مؤسسة دار الاسلام، ط1، 1419 ـ

32- علي المؤمن (سنوات الجمر)، دار المسيرة، لندن: 1993.

 

33ـ علي أحمد البهادلي (الحوزة العلمية في النجف)، دار الزهراء، بيروت: 1993.

 

34ـ نبيل عبدالهادي (الصدر وصدام، الإنسانية في مواجهة الهمجية) في (نخبة من الباحثين (محمد باقر الصدر: دراسات في حياته وفكره))، دار الإسلام، لندن: 1996، الصفحات 587 ـ 680.

 

35ـ محمد حسين فضل الله (فقه الشريعة)، دار الملاك، بيروت: 1999.

 

36ـ محمد الصدر (الصراط القويم)، دار الأضواء، بيروت: 1998.

 

37ـ محمد محمد صادق الصدر، خطب الجمعة ولقاءات مسجلة.

 

38ـ محمد سعيد الحكيم (الاحكام الفقهية)، الطبعة الثانية، 1997.

 

39ـ محمد مهدي شمس الدين (في الاجتماع السياسي الإسلامي)، دار الثقافة للطباعة والنشر، قم: 1994.

 

40ـ محمد باقر الناصري (الإمام الشهيد محمد باقر الصدر رائد التغيير والإصلاح) في الفكر الجديد، العدد 9 الصادر في آب 1994، الصفحات 72 ـ 99.

 

41ـ مرتضى الرضوي (في سبيل الوحدة الإسلامية)، مطبوعات النجاح، القاهرة: 1980.

 

42ـ محمد الحسيني (محمد باقر الصدر، دراسة في سيرته ومنهجه)، دار الفرات، بيروت: 1989.

 

43ـ محمد رضا النعماني (الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار)، اسماعيليان، قم: 1997.

 

44ـ محمد تقي الحكيم (قصة التقريب بين المذاهب)، مكتبة النجاح، طهران: 1982.

 

45ـ محمد تقي الحكيم (التشيع في ندوات القاهرة)، مؤسسة الامام علي (ع)، بيروت: 1999.

 

46ـ محمد فريد المحامي (تاريخ الدولة العلية العثمانية)، دار النفائس، بيروت: 1993.

 

47ـ مختار الأسدي (الصدر الثاني: الشاهد والشهيد)، مؤسسة الأعراف، قم: 1999. هـ، 1999م

 

[1] . عبدالحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية العراقية، الجذور الفكرية والواقع التاريخي، 1900 ـ 1924، ص 288.

 

[2] . د. فرهاد ابراهيم، الطائفية والسياسة في العالم العربي.. أنموذج الشيعة في العراق، رؤية في موضوع الدين والسياسة في المجتمع العربي المعاصر، ص 114، مكتبة مدبولي، ط1، 1996.

 

[3] . سلام ابراهيم كبة، المجتمع المدني في كردستان العراق، ص 59، مجلة (النهج)، العدد 56 ـ خريف 1999.

 

[4] . عبدالحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الاسلامية العراقية، مصدر سابق، ص 286.

 

[5] . من كلّام لآية الله السيد محسن الحكيم رداً على اسئلة وجهها له الإمام الخميني «قده» في لقاء خاص بينهما، جاء في «نهضت امام خميني» لحميد روحاني، ج2، ص 151 ـ 152.

 

[6] . الشهيد آية الله محمد باقر الصدر.. خطاب المحنة، المجموعة الكاملة لمؤلفاته، دار التعارف ـ بيروت، الطبعة الأولى.

 

[7] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 21.

 

[8] . المصدر نفسه.

 

[9] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 3.

 

[10] . عبدالأمير الركابي، السلطة العراقية والمعارضة والمجتمع.. دلالات في ضوء مقتل الإمام الصدر، صحيفة (الحياة) 15/4/1999.

 

[11] . أكرم سليم، دراسة نقدية لتجربة الحركة الشيوعية في العراق، دراسات عراقية، العدد (7ـ8) أيلول 1998.

 

[12] . د. علي كريم سعيد عبدالله، رؤية تكاملية بين الإسلام الحقيقي والقومية الحقيقية، دراسات عراقية، العدد (12 ـ 13) شباط 2000م.

 

[13] . سلام ابراهيم كبة، النهج، مصدر سابق.

 

[14] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، لقاء صحفي مسجل.

 

[15] . المصدر نفسه.

 

[16] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 13.

 

[17] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 6.

 

[18] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 22.

 

[19] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم

 

[20] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 13.

 

[21] . راجع نص «السنينة» العشائرية في كتابنا «محمد محمد صادق الصدر (مرجعية الميدان) مشروعه التغييري ووقائع الاغتيال / الملاحق».

 

[22] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 21.

 

[23] . عن كتاب «الاجتهاد والتجديد» في الفقه الإسلامي، لآية الله محمد مهدي شمس الدين، ص 73 ـ 74، المؤسسة الدولية، ط1، 1419 هـ ـ 1999م.

 

[24] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، فقه القضاء، ط1، 1419 هـ ـ 1999م، دار الأضواء.

 

[25] . المصدر السابق.

 

[26] . الشهيد محمد محمد صادق الصدر، خطبة الجمعة رقم 3.

 

[27] . المصدر نفسه.

 

[28] . عادل رؤوف، مرجعية الميدان، مصدر سابق، ص 147.

 

[29] . المصدر نفسه، ص 145.

 

[30] . صحيفة (الموقف)، العدد 192 ـ 18 آذار 1999.

 

[31] . حسين بركة الشامي، المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة، ص 299، مؤسسة دار الاسلام، ط1، 1419 ـ

 

[32] . علي المؤمن (سنوات الجمر)، دار المسيرة، لندن: 1993.

 

[33] . علي أحمد البهادلي (الحوزة العلمية في النجف)، دار الزهراء، بيروت: 1993.

 

[34] . نبيل عبدالهادي (الصدر وصدام، الإنسانية في مواجهة الهمجية) في (نخبة من الباحثين (محمد باقر الصدر: دراسات في حياته وفكره))، دار الإسلام، لندن: 1996، الصفحات 587 ـ 680.

 

[35] . محمد حسين فضل الله (فقه الشريعة)، دار الملاك، بيروت: 1999.

 

[36] . محمد الصدر (الصراط القويم)، دار الأضواء، بيروت: 1998.

 

[37] . محمد محمد صادق الصدر، خطب الجمعة ولقاءات مسجلة.

 

[38] . محمد سعيد الحكيم (الاحكام الفقهية)، الطبعة الثانية، 1997.

 

[39] . محمد مهدي شمس الدين (في الاجتماع السياسي الإسلامي)، دار الثقافة للطباعة والنشر، قم: 1994.

 

[40] . محمد باقر الناصري (الإمام الشهيد محمد باقر الصدر رائد التغيير والإصلاح) في الفكر الجديد، العدد 9 الصادر في آب 1994، الصفحات 72 ـ 99.

 

[41] . مرتضى الرضوي (في سبيل الوحدة الإسلامية)، مطبوعات النجاح، القاهرة: 1980.

 

[42] . محمد الحسيني (محمد باقر الصدر، دراسة في سيرته ومنهجه)، دار الفرات، بيروت: 1989.

 

[43] . محمد رضا النعماني (الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار)، اسماعيليان، قم: 1997.

 

[44] . محمد تقي الحكيم (قصة التقريب بين المذاهب)، مكتبة النجاح، طهران: 1982.

 

[45] . محمد تقي الحكيم (التشيع في ندوات القاهرة)، مؤسسة الامام علي (ع)، بيروت: 1999.

 

[46] . محمد فريد المحامي (تاريخ الدولة العلية العثمانية)، دار النفائس، بيروت: 1993.

 

[47] . مختار الأسدي (الصدر الثاني: الشاهد والشهيد)، مؤسسة الأعراف، قم: 1999. هـ، 1999م