نهضة التغيير والاصلاح في نظر المرجعية الدينية

(المرجع الشهيد محمد باقر الصدر انموذجا)

    بقلم الباحثين:

                                                 

 الدكتور عدنان عباس يوسف البطاط               الدكتور شاكر عطية ضويحي الساعدي

كلية الامام الكاظم (ع) للعلوم الاسلامية / ميسان           كلية الامام الكاظم (ع) للعلوم الاسلامية/ميسان

                                                            

 

المقدمة

لم تكن حركة السيد الصدر (قدس سره)  مجرد حركة اجتهادية في اكتشاف الحكم والحل الأمثل عند مواجهة معضلة من معضلات الدين والحياة، بل كانت حركة رسالية بما للكلمة من معنى، تحمل هموم أمة رسالية ـ في الماضي والحاضر والمستقبل ـ كتب لها أن تقود العالم من خلال نظريتها وأطروحتها العلمية في قبال جميع المناهج والأطاريح والرؤى المختلفة، ومن هنا كانت حركة السيد الصدر (قدس سره) حركة أمة في رجل، قد وظف نفسه ووقته وما يمتلكه من فكر تميز به آنذاك في سبيل تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية في الوقت الذي باتت الامة الاسلامية تواجه أشرس هجمة إلحادية بإطروحتها العصرية، فخرج من قيد الفردية الى سعة فضاء الاجتماعية في مختلف مجالات بجثه ودراسته وحركته العلمية.

فأخذ يطرق جميع أبواب المعرفة ـ  لكن لا كما يطرقها بقية العلماء، بحيث يستهدون بها، بل جعل من وسائلها تستهدي وتسجدي من أفكاره وانظراته الجميلة، فصار فكره طريقها ونهجه نهجا لها. وبالتحوّل من الفقه إلى الاجتماع نجد قضيّة العلاقة بين المثقَّف والفقيه ماثلةً، فالمثقَّف وعيُه تجريبيٌّ مادي حسي، والفقيه وعيُه نصّيّ شرعي إلهي. والمثقَّف متحرِّرٌ، والفقيه ملتزمٌ. والمثقَّف ناقدٌ، والفقيه مدافعٌ.

الأمر الذي يخلق مشكلةً في العلاقة، وهي علاقة مأزومة تاريخيّاً، تتجلّى في التجربة المعتزليّة تارةً؛ وتجربة الفلاسفة أخرى. وقد ازدادت اليوم تعقيداً بعد تنامي العلوم الإنسانيّة، وانتقال المثقَّف في تموضعه من الخارج ـ ديني (ماركسي و…) إلى الداخل ـ ديني إسلامي. وقد اهتمّ الصدر أكثر بالمثقَّف الخارج ـ ديني.

والخلاف بين المثقَّف والفقيه يرجع إلى إشكاليّة المنهج (حقيّة نصّيّة أم واقعيّة تجربيّة/ المرجعيّة الماضويّة وسلطان العقل)، وإشكاليّة السلطة، وإشكاليّة الاعتراف المتبادَل.

نبذة عن السيرة الذاتية للسيد المرجع آية الله العظمى محمد باقر الصدر

ولد السيد الشهيد في مدينه الكاظمية المقدسة وكانت ولادته في 25 ذي القعدة سنه 1353 هـ  ([1])، المصادف 28 شباط 1935م، لكن سرعان ما عاجله القدر و(توفى والده آيه الله السيد حيدر الصدر في 27ـ جمادي الثانية سنه 1356هـ, ولم يزل عمره (سنتين وسبعه أشهر) ([2])، فتفاقم الوضع بالنسبة للأسرة حتى >جاء في أحدى السير إن أفراد العائلة ظلوا لأكثر من شهر بعد وفاته غير قادرين على تأمين الرغيف وحائرين في لقمة العيش< ([3])، وهكذا نرى أنّ السيد الصدر فتح عيونه في ظل اليتم والهموم والفقر والفاقة، فعاش تحت رعاية والدته الثكلى والمثقلة بأعباء الأسرة؛ لذا عاش في كنف تلك الوالدة الحنون وأخيه إسماعيل الصدر الذي كان عمره 17 سنة تقريباً([4]).

أمّا خاله محمد رضا آل ياسين المرجع فقد >شمله بما لم يشمل غيره من العناية والإحاطة والود< ([5])، واستمرت هذه الرعاية إلى ما بعد انتقاله إلى النجف >التحق السيد الصدر بمدرسة منتدى النشر سنة 1943 الّتي أسسها السيد مرتضى العسكري وأحمد أمين, سنة 1362 هـ كفرع للمدرسة الّتي أسست في النجف الأشرف وانتسب إليها بعد أن بلغ عمره تسع سنوات< ([6])، لكنه قبل ذلك كان قد درس بعض الدروس عند الملا.

وقد نجح السيد الشهيد في استقطاب اهتمام معلميه وزملائه إلى درجة أنّ بعض الطلاب كان يقلد مشيته ونطقه وأسلوب جلوسه في الصف, لكن مثل هذه الأوصاف الّتي تطلق بعد الوفاة قد تكون غالباً مغاليةً في المديح مما يستوجب الاحتراز والتحفظ([7])، >أما عند بلوغه الثالثة عشره فقد صار يحضر دروس الحوزة<([8]) ، >يقول الحائري إنّه قرأ المنطق وهو في الحادية عشرة وقرأ معالم الأصول في الثانية عشرة وهو ما ذكره الشهيد الصدر ذاته وبخط يده في الجواب على الأسئلة الّتي وجهت إليه بهذا الخصوص< ([9]) .

لكن السيد كان يدرس على يد أخيه بعض الدروس الحوزوية منذ سن العاشرة وكانت له كتابات قبل الدخول في الدراسة الحوزوية بصورة رسمية ([10])  وقد أنهى دراسته الابتدائية بزمن قياسي ([11]) رغم أنّه كان كثير التغيّب عن المدرسة, لكّنه كان يكتفي بحضور الامتحانات الّتي صار ينجح فيها نجاحاً باهراً, إذ إنّ السيد الصدر كان ينتمي إلى أسرة عرفت بالعبقرية وحدة الذكاء فجدُّ الأسرة السيد صدر الدين الذي ولد في قرية معركة من قرى جبل عامل ([12])>عرف بالذكاء المفرط والنبوغ المبكر حيث كتب في السابعة من عمره حاشية على( قطر الندى), وقد إعترف له أكابر العلماء بملكة الإجتهاد مع أنّه كان قبل بلوغه الحلم يرتّب على نفسه أثر الإجتهاد وأجازه صاحب الرياض سنه 1210)هـ وكان عمره17 سنة< ([13])، >ولعل السيد الشهيد كان يشبه أجداده حيث كتب كتاباً عقائدياً بعنوان العقيدة الإلهيه في عام 1946< ([14]) >وفي الثامنة من عمره ألّف كتاباً حول أهل البيت # يقع في مئه صفحة وهو مفقود< ([15]) >وكتب رسالة في المنطق يعترض فيها بإعتراضات على بعض الكتب المنطقية وهي مفقودة< ([16]).

وتشير المصادر إلى أنّه عندما كان يدرس في المدرسة الإبتدائية >لفت انتباه الهيئة التدريسية لما يتمتع به من نبوغ وذكاء استثنائيين<([17])، ولذا فإنّ مدير المدرسة أولاه عناية خاصة, الأمر الذي لفت نظر الأساتذة الذين أدلى أحدهم بما شاهده في تلك الفترة قائلاً: >شاءت الصدف أن أنفرد بالسيد المدير فأستوضح منه عمّا كان يشغل تفكيري بشأن هذا الطفل, فأجابني :أرجو أن ترعاه كما يرعاه زملاؤك من الهيئة التدريسية، فقد سبق وأن أوصيتهم به خيراً لأنّني أتوسم فيه أن يكون له مستقبل كبير باعث على التفاخر والإعتزاز بما يقوم به وبالدرجة الّتي أتوقع أن سيصلها ويبلغها< ([18]) .

والأمر الذي صار أكثر إلفاتاً لنظر الأساتذة هو اهتمامه الشديد بالمطالعة الخارجيّة, وقد نقل أحد الأساتذة قائلاً :>لقد جاءني يوماً مبدياً رغبته في أن يقرأ بعض الكتب الماركسية ونظرياتها ليطلع على مكونات هذه النظرية، ترددت في بادئ الأمر عن إرشاده إلى ذلك لأنّه طفل وخشيت أن تتشبع أفكاره بالماركسية ونظرياتها وبعد إلحاح منه شديد ولما كنت لا أحب ردّ طلبه أرشدته إلى بعض المجلات والكتب المبسطة في كتابتها عن الماركسية وفي عرضها لها، وقد أخذت على عاتقي تهيئه ما تيسر لي من هذه المجلات والكتب ... ثم أعادها إليَّ بعد أن قراها مكرراً طلبه... أحببت أن أعرف ما الذي استفاد هذا الطفل من قراءته لهذه الكتب, وإذا به يدخل في شرح الماركسية طولاً وعرضاً وأخذت عن شرحه لها كل ما غمض عليَّ معناه لها فعجبت لهذا الطفل المعجزة وهو لمّا يزل في المرحلة الثالثة الابتدائية<([19])، وفي منتصف عام 1946م هاجر مع أسرته إلى النجف الأشرف مع عائلته ([20]) قلب العلم ومركزه ليدخل طوراً هاماً من حياته وهو طور تحصيل العلوم الدينية >وصار يستثمر من كل يوم ست عشرة ساعة<([21])، ومع ذلك فقد ظل الفقر علامة فارقهً مستمرةً تتميز بها حياة السيد الصدر لكن ذلك لم يكن يثنيه أو يؤثر في عزيمته([22]) .

يقول السيد الخوئي إنّ السيد الشهيد>إجتهد في الرابعة عشرة من عمره وكان قبل بلوغه مجتهداً مُسَلَّم الاجتهاد<([23])، وهكذا بدا إنتاج السيد الشهيد العلمي في الظهور تباعاً, لكن المؤسف أنّ الكثير من مؤلفاته قد ضاعت حتى أنّ أحد المؤرخين يأتي على ذكر المؤلف ثم يعلق عليه بكلمه: ضاع أو مفقود >ومهما يكن من أمر فقد كانت علاقته العلمية بالسيد الخوئي مميزه، وقد إكتشف السيد الخوئي قدرات ( التلميذ )مبكراً وتحدث إلى خاله الشيخ مرتضى آل ياسين منوهاً بقدراته الخلاقة <([24])، >وكثيراً ما كان يطرق باب أستاذه على المناقشة مكتوبة على نفس الورقة، وقد يتابعان المناقشة بينهما لفترة طويلة دونما انقطاع إلى أن يحين وقت الدرس<([25])، >وبذلك يفسر إختصاص السيد الصدر بأستاذه السيد الخوئي<([26]).

 قد يبدو ملفتاً للنظر رفض السيد الصدر للفرص الّتي قد يتوق إليها أترابه ومن هم في سنّه وبإصرار>فقد كان السيد محمد الصدرـ نجل السيد حسن الصدر ورئيس مجلس الأعيان آنذاك ـ يرغبه في مستقبل يضمن فيه سعادة دنياه والعيش في رفاه ودعة بعيداً عن حياة الحوزة وما يكتنفها من فقر وفاقة، وقد عرض عليه السفر إلى الخارج من أجل إكمال الدراسة الأكاديمية وذلك على حسابه الخاص<([27])، >كما أن بعض أفراد العائلة عرضوا عليه الاستمرار بالدراسة حتى الحصول على شهادة أكاديمية أو العمل في السوق< ([28])، لكنه رفض كل ذلك بصورة متواصلة وأصرّ على السير في طريق طلب العلم والدراسة في الحوزة رغم ما في الأمر من معاناة ومكابدة والقبول بحياة الفقر ولفترة زمنية ليست قصيرة. الأمر الذي يدعو إلى التساؤل, فما الذي كان يدفع السيد الشهيد إلى اتخاذ هذا الموقف المخالف للمتوقع ؟ فمن المتوقع أن تؤدي الظروف القاسية إلى إشعال الرغبة في نفسه إلى الخلاص من حياة الفقر القاسية المفعمة بالكثير من الحرمان بحيث >إن الفتى الصغير سيد محمد باقر الذي كان قد تخطى بالكاد سنينه الثلاث ، جاءني(جاء إلى عمته) يوماً يشكو الجوع، وهو يلح في طلب أكلة يحبها شهيرة في العراق ،وهي خبز اللحم. كان ذلك بعد صلاة الظهر ،فصار يزيد إلحاحاً ويصرخ طالباً ما يشتهيه<([29])، لكن الأسرة كانت عاجزة عن الاستجابة إلى حتى مثل الرغبة البسيطة هذه . وهذا يوضح لنا جانباً من المعاناة الّتي عاشها السيد الشهيد ومنذ سنيه المبكرة، فإذا كان الحال قد بلغ هذا المستوى من الحرمان فكيف يشب السيد وله كامل القناعة بتحمل الفقر ؟ بل إننا نفاجأ أنّ السيد يتصرف كمن لا يبالي بالفقر, فلماذا ومن أين تأتيه تلك القوة الروحية؟ الّتي تمكنه من تحمل كل ضغوط الحياة الّتي استمرت فتره طويلة من عمره المبارك، إننا وبلا شك نفترض أنّ التظافر بين عوامل الوراثة والبيئة هو ما مكنه من امتلاك هذه القوة الروحية, لكن هذا الجواب تقليدي وبالتالي لابد من وضع اليد على العوامل الّتي كونت شخصية هذا الرجل الكبير بصورة مباشرة، العوامل الّتي منحته العبقرية والتفرد ثم التربع على عروش العلم والمعرفة وبلوغ أعلى المراتب في مجالات الفكر.

الصدر في مقام التنظير والتأطير

لقد حاول الشهيد الصدر(قدس سره) إيجاد حلولٍ ناجعة لإشكالية المنهج، وإشكاليّة السلطة، وإشكاليّة الاعتراف المتبادَل) عبر مجموعة من الطرق([30])، وهي:

الطريق الأول: تثقيف الفقيه وتفقيه المثقَّف.

الطريق الثاني: تحرير العلم والثقافة من الوضعيّة بتوحيد المنهج عبر (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، مع تحرير الدين من الفقه من خلال انفتاح الصدر على العقليّات والقرآنيّات والسيرة.

الطريق الثالث: مبدأ المشاركة من قبل الفريقين في الإدارة الاجتماعيّة عبر تجربة الحركة الإسلاميّة التي تولاّها الصدر في العراق.

الطريق الرابع: التوجه نحو ملفّ إصلاح الحوزة والمرجعيّة الدينيّة.

فعلى صعيد المشكلة الخارجيّة رأى السيد الصدر غياباً سياسيّاً واجتماعيّاً (فقدان التواصل) في الحوزة العلميّة، وغياباً للوعي الواقعيّ عبر التعاطي مع الأمور بالذهنيّة الأصوليّة الهندسيّة.

وأما على الصعيد الداخلي رأى أزمة برامج التعليم، والأزمة الماليّة، وأزمة الحاشية، و…

فقام بإيجاد حلول جذرية لهاتين المشكلتين تمثلت بما يلي:

أولا: حلول المشكلة الاولى

  • من خلال محاولة الصدر حلّها عبر الحضور السياسيّ والاجتماعيّ.
  • من خلال المساهمة في تأسيس الحركة الإسلاميّة.
  • مواكبة حركة الإمام الخمينيّ(قدس سره).
  • من خلال الحضور في مواجهة الماركسيّة.
  • تنشيط وتفعيل ممثلي المرجعية الدينية ( الوكلاء).
  • اختيار الشباب الحاضر الواعي منهم. في مختلف الميادين العلمية والدينية والسياسية.

 ثانياً: على صعيد المشكلة الثانية

  • فقد عمل على وضع برامج تعليميّة، بعد نقد القديم، ككتابه (دروس في علم الأصول).
  • إعلانه لمشروع المرجعيّة الرشيدة القائمة على: المجالس الاستشاريّة، ومجالس الخبراء، والتنظيم الماليّ الدقيق، وكفّ يد العلماء عن الأخذ من الناس، وتأمين حياتهم من جانب المرجعيّة.

وهكذا أراد السيد الصدر تحقيق ارتباط المرجعيّة المباشر بالمشروع السياسيّ الإسلاميّ؛ ليأخذ شرعيّته منها، فوضع آماله ببعض المراجع الكبار ليعدل بعد ذلك فيطرح مرجعيّة نفسه.

الصدر في مقام التحدي للصعاب

يشـكّل الإمـام الصـدر ظـاهرة متميـزة فـي عـالم الفكـر الإسـلامي المعاصـر، انطـوت شخصـيته الفـذة فيها علــى ابـداعات فكريــة وريـادة حقيقيــة فــي حقـول معرفيــة ذات جوانـب متعــددة ، فضـلاً عــن إضــافاته المتميزة للفكر الإسلامي بأجمعه.

  فقـد كـان الإمـام الصـدر مرجعـاً دينيـاً حمـل لـواء التغييـر والاصـلاح فـي المؤسسـة الدينيـة وأعطـى ٍ للمرجعية الدينية صورتها المشرقة في استيعاب لمشاكل الفرد والمجتمع المسلم علـى السـواء، وحاجة كـل منهما إلى الحل الإسلامي الأمثل الذي يحقق الإنسجام مع الشريعة السمحة ومتطلبات الواقع المتجدد ([31])

وهكذا كان المفكر الإسلامي الذي نقل واقع المواجهة الفكريـة بـين الإسـلام وغيـره مـن الفلسـفات والعقائـد والافكــار الأخــرى، مــن خنــدق الــدفاع إلــى ســاحة التحــدي والمواجهــة، فطــرح الإســلام بــديلاً حقيقيــاً يشــبع حاجات الإنسانية المتعطشة وينقذها من التيه والضلال الذي تتخبط فيه .وهو بذلك يمثّل ضــمير الأمــة الإســلامية الحــي، وقلبهــا النــابض، وعقلهــا الــواعي، وفكرهــا ّ الفـذّ، ولذا استطاع في عمـره القصـير، أن يقـدم لأمتـه الشـيء الكثيـر النـادر، وأن يعطيهـا الثـر المبـدع، من خـلال ربط ماضيها بحاضرها ومستقبلها([32]). وذلك من خلال مجموعة من الخطوات التي قام بها ، وهي:

الخطوة الأولى: على مستوى المعرفة

إنّ ما قدمه الإمام الصدر في مجالات المعرفة المختلفة لا يحـق لنـا النظـر إليـه علـى أنـه تـراث فكـري مجـرد، إنمـا المطلـوب توظيفـه بصـورة دائمـة، وتقـديم  نظرياتـه ومشـاريعه لأبنـاء الأمـة؛ لأننـا نـؤمن بأن نتـاجه(قدس سره)يمثّل مشروعاً فكرياً حي .

فقد اتسمت أعماله(قدس سره)  بأنها تعبير عن محـاولات منهجيـة جـادة لتأصـيل نظريـة إسـلامية في كل حقل من حقول المعرفة الإسلامية التي اهتم بالكتابة فيها، فلو حاولنا أن نتعرف بدقة على ما تسعى مجموعة مؤلفاته لتأسيسه، سنلاحظ بوضوح أنها تنتظم في مشروع واحد، وهو محاولة تحديد إطـار نظـري فـي بحـث ودراسـة الفكـر الإسـلامي، وتحديـد مـنهج آخـر في البحث يتواءم مع متطلبات الحياة المعاصرة .

الخطوة الثانية: على مستوى اكتشاف نظرية الاسلام

إنّ الأساس الــذي يضــطلع بــه مشــروع الشهيد الصــدر(قدس سره)، هــو الحــرص علــى إظهار النظرية الإسلامية من بطون الكتب وخفاء الملامح نتيجة المعاناة التي عانتها الأمة الإسلامية على مرّ تاريخها الفكري والسياسي، وبعبارة أخــرى أن الهــم الأكبر هو اكتشــاف نظريــات الإســلام فـــي التــاريخ والاقتصــاد والسياســة والفلســفة والمجتمــع الــذي ينشــد التقــدم فــي المجـالات الحياتيـة والأخرويـة، ومن هنا أن ما جاء به الشهيد الصدر(قدس سره) في مختلف هذه المجالات يمثل كونه مكتشـفاً كبيـراً دأب علـى الأخـذ بمـنهج التفكيـر الإسـلامي نحـو آفـاق جديـدة لـم يعهـدها هـذا التفكيـر مـن قبـل، إلا بصـورة محـدودة فـي أعمـال بعـض المفكـرين المسـلمين ممـن سبقوه، فيما كان هذا التفكير يتحـرك فـي دائـرة المـنهج المتـوارث فـي معاينـة مشـاكل الحيـاة. ويكرر الإجابات ذاتها على هذه المشاكل، من دون أن يوضح لنا مواقف الشريعة منها، ولذلك ظل ذلك الفكر جامدا.

الخطوة الثالثة: التحدى والمواجهة للايدلوجيات المعاصرة

لقد أضـحت للإسـلام زمن الشهيد الصدر(قدس سره)  كلمته فـي مواجهـة الايـديولوجيات الأخـرى، حيـث بـرز الإسلام كإيديولوجيا معاصرة تنفي كل التهم الظالمة، وتمتد لتستوعب كل مشاكل الإنسان المختلفة، وتقدم الحلول الناجعـة لهــا، وتتســع لتغطــي تمــام حاجــات ومتطلبــات المجتمعــات الحديثــة مــن مقــولات ونظريــات ونظــم وقوانين.

حقــاً لقــد فــتح الشهيد الصــدر(قدس سره) الأبــواب علــى مصــاريعها ، للــدخول إلــى عــوالم جديــدة فــي البحــث والتحليل والاستنتاج، إذ ربط بين المشاكل العصرية وبين الحل الإسلامي. فقـد ولـج بـاب العصـرية، وفتحـه علـى مصـراعيه لكـل باحـث مسـلم يسـتلهم روح الابـداع والابتكـار، ويحـاول أن يقـدم حلـولاً جذريـة لمشـاكل تعاني منها المجتمعات الإنسانية.

المحطة الأخيرة: تتويج الفكر الاسلامي بدمه الزاكي

هنا كانت المحطة الأخيرة التي ينشدها كل داعية من دعاة الإصلاح والتغيير، فتكون النتيجة والثمن لجميع خطواته وما قام به.

فالسيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) ـ الذي توّج ميزان الفكر الإسلامي بدمه الزاكي ـ دفع شبهات تشويه المظهر الإسلامي، وتقديم الحلول المنطقية للازمات الإنسانية، والوقوف بوجه التيارات المعادية التي اتفقت على ضرب الإسلام في الصميم ، من خلال محاربته لمؤسساتها الثلاث:

أولاً: مؤسسة سلطة الطواغيت

وقد تمثلت بمؤسسة الحكّام الظلمة وأتباعهم.

ثانياً: مؤسسة الفكر الالحادية

وقد تمثّلت بمؤسسة الصليب  التي دفعت بالفكر إلى اتجاهات إلحادية؛ وسخّرت الإنسان لصالح تنفيذ غاياتها.

ثالثاً: مؤسسة الاعلام المضلل

وتمثّلت بالمؤسسة اليهودية التي سعت إلى تشويه الحقائق ومحاربة الإسلام بوسائل شتّى، ولذلك كان الخطاب الرسالي للسيد الصدر موجهاً إلى العالم لحلّ أزمته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية ، وكان من خصائص مدرسته الجمع بين المنهج المنطقي والوجدان الإنساني ليحصل الاطمئنان النفسي بالفكرة في ضوء المعطيات البرهانية المتطابقة مع الوجدان ويتمثّل ذلك بنقل رسالة الحوزة الدينية من مخاطبة الجماهير عن طريق الوكلاء إلى الخطاب المباشر فضلاً عن المؤلفات في اختصاصات مختلفة وأعلن السيد محمد باقر الصدر أنّ هدفه هو الشباب المسلم الواعي على نظرية أبي الأحرار الإمام الحسين بن علي -عليه السلام- (علمت اعمل) ورأى أنّ تغييراً للواقع الظالم لايتمّ إلّا من خلال الشعوب ؛ والديمقراطية عنده لا تعني استعارة النموذج الغربي، وإنّما هي إعطاء دور للشعب في اختيار نظام الحكم والثورة على الطواغيت ورفض التعامل معهم وتوجيه النصح لهم.

وهذا ما يطلبه السيد الشهيد الصدر(قدس سره) من السياسي ليقرّر بمسؤولية وضمير حي؛ على وفق نظرة كلية للواقع بلا تجزيء واختيار الطريقة المناسبة من الواقع المعاش للاستدلال في أيّ موضوع؛ ويرى أنّ على السياسي أن يقرأ الواقع العراقي بمعزل عن تراث التجربة البشرية ليكوّن رأياً واضحاً يتخذ من خلاله قراراً لايضيّع به حقّ الرساليين والمظلومين، وقد التزم هذا المنهج في تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم وخالف المفسّرين بقوله: إنّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي بالقرآن لأنّه يبحث في أسباب النزول ويعتقد أنّ فهم الخاص يؤدي إلى مفاتيح فهم العموم، وكذلك من خلال طرحه لموضوع السنن التاريخية  ....

فقد كان المنظّر الرائد بلا منازع للنهضة الجديدة ؛ إذ استطاع من خلال كتاباته وأفكاره التي تميّزت بالجدة والإبداع من جهة، والعمق والشمول من جهة اُخرى ، أن يمهّد السبيل للاُمّة ويشقّ لها الطريق نحو نهضة فكرية إسلاميّة شاملة ، وسط ركام هائل من التيّارات الفكرية المستوردة التي تنافست في الهيمنة على مصادر القرار الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلاميّة ، وتزاحمت للسيطرة على عقول مفكّريها وقلوب أبنائها المثقّفين . 

وهكذا استطاع الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) بكفاءةٍ عديمة النظير أن ينازل بفكره الإسلامي البديع عمالقة الحضارة الماديّة الحديثة ونوابغها الفكريّين ، وأن يكشف للعقول المتحرّرة عن قيود التبعيّة الفكريّة والتقليد الأعمى ، زيف الفكر الإلحادي ، وخواء الحضارة الماديّة في اُسسها العقائديّة ودعائمها النظريّة، وأن يثبت فاعليّة الفكر الإسلامي وقدرته العديمة النظير على حلّ مشاكل المجتمع الإنساني المعاصر ، والاضطلاع بمهمّة إدارة الحياة الجديدة بما يضمن للبشريّة السعادة والعدل والخير والرفاه . 

ثم إنّ الإبداع الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر ، لم ينحصر في إطار معيّن ، فقد طال الفكر الإسلامي في مجاله العام ، وفي مجالاته الاختصاصيّة الحديثة كالاقتصاد الإسلامي والفلسفة المقارنة والمنطق الجديد ، وشمل الفكر الإسلامي الكلاسيكي أيضاً ، كالفقه والاُصول والفلسفة والمنطق والكلام والتفسير والتاريخ ، فأحدث في كل فرع من هذه الفروع ثورةً فكريّة نقلت البحث العلمي فيه إلى مرحلة جديدة متميّزة سواء في المنهج أو المضمون . 

 

الخاتمة

بعد هذه الدراسة المتواضعة  المتسمة بعنوان(نهضة التغيير والاصلاح في نظر المرجعية الدينية الشيعية) والتي اتخذت من مرجعية الشهيد الصدر الأول آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) انموذجاً لها، توصلنا إلى مجموعة من النتائج الكلية:

الأولى: إنّ ما يميّز المرجعية الديينية الشيعية هو الجانب الحركي والتغييري والاصلاحي على طول تاريخها الممتد من عصر الغيبة الى عصرنا الحاضر، وأنها دائما تمثل صمام الأمان أمام هجمات ومخططات القوى الاستكبارية والمعادية للدين الإسلامي.

الثانية: إنّ ما تميزت به مرجعية الشهيد الصدر الأول(قدس سره) قد يندر وجودها من حيث الكم والكيف في مجال الاصلاح والتغيير الشامل لجميع الابعاد الحياتية، فضلاً عما تتمتع به شخصيته من خصائص ومميزات فريدة.

الثالثة: اتضح لنا أن الحركة النهضوية الاصلاحية التغييرية عند السيد الصدر(قدس سره) كانت تسير وفق خطوات مرسومة ومعد لها من قبل السيد(قدس سره) قبل الشروع بها وأنها تسير وفق ترتيب خاص ونظام مبرمج، وذلك من خلال ما يتمتع به من نظرة ثاقبة بمآل الأمور وعواقبها، وبما يحقق أهداف الشريعة الإسلامية ومعطياتها.

الرابعة: إن من بين أبرز وأهم ما تميزت به حركته النهضوية هو التحدي والمواجهة وإن كلفه ذلك حياته الشريفة، والتي كان كما هو متوقع لها (الشهادة بعز).

فهذه وغيرها من النتائج التي يمكن للقارئ الوقوف عليها من خلال مطالعة مطالب هذا البحث، والتي يستكشف من خلال عظم ما تمتاز به هذه الشخصية الإيمانية في مقارعة الظلم والوقوف بوجه التحديات المعادية للاسلام والمسلمين، وهو مما يكشف عن عظم تأثير التربية الإسلامية في الشخصية الإسلامية.

 

مصادر البحث

  1. حاتم، د. عامر عبدالأمير، آفاق الحداثة في فكر السيد محمد باقر الصدر، المقدمة، العدد (303) السنة 2012م.
  2. البقشي، أمل، وجع الصدر ومن وراء الصدر، أم جعفر، 1427 هـ.
  3. الخرسان, السيد صلاح، الإمام السيد محمد باقر بالصدر في ذاكرة العراق, أضواء على تحركات المرجعية الدينية والحوزة العلمية في النجف الأشراف، 1958ــ 1992ـ مؤسسة البلاغ للطباعة والنشرـ بيروت.
  4. الشهيد الصدر، مؤسسة تراث السيد الشهيد الحكيم، النجف الأشراف، ط1ـ 2005م.
  5. الصدر، السيد محمد باقر، السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، الطبعة الأولى.
  6. الصدر، السيد محمد باقر, حياة حافلة وفكر خلاق،  الطبعة الأولى.
  7. الملاط، شبلي، مقدمة عامة، القانون في النهضة الإسلامية ودور محمد باقر الصدر، تجديد الفقه الإسلامي محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ترجمة غسان غصن، دار النهار, بيروت ط1ـ 1998م.
  8. الموقع الرسمي للشيخ الدكتور حيدر حب الله، مقال بعنوان(السيد محمد باقر الصدر مكوّنات المشروع الفكري الإسلامي) بقلم د. حيدر حب الله.

 

 

 

[1] . الشهيد الصدر، مؤسسة تراث السيد الشهيد الحكيم، ج 4، ص17، النجف الأشراف، ط1ـ 2005م.

 

 

 

 

[2] . نفس المصدر، ص17.

 

 

 

 

[3] . الملاط، شبلي، مقدمة عامة، القانون في النهضة الإسلامية ودور محمد باقر الصدر، تجديد الفقه الإسلامي محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص12، ترجمة غسان غصن، دار النهار, بيروت ط1ـ 1998م.

 

 

 

 

[4] . نفس المصدر، ص19.

 

 

 

 

[5] . محمد باقر الصدر, حياة حافلة وفكر خلاق، ص35، مصدر سابق.

 

 

 

 

[6] . نفس المصدر السابق، ص47.

 

 

 

 

[7] . محمد باقر الصدر, السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، ص 122، مصدر سابق.

 

 

 

 

[8] . الملاط، شبلي، تجديد الفقه الإسلامي، ص 12، مصدر سابق. 

 

 

 

 

[9] . محمد باقر الصدر, حياة حافلة وفكر خلاق، ص50، مصدر سابق.

 

 

 

 

[10] . نفس المصدر، ص 50.

 

 

 

 

[11] . السيرة والمسيرة، ص133.

 

 

 

 

[12] . البقشي، أمل، وجع الصدر ومن وراء الصدر أم جعفرـ ص42، 1427 هـ

 

 

 

 

[13] . السيرة والمسيرة، ص43 ـ 44، مصدر سابق.

 

 

 

 

[14] . نفس المصدر، ص137.

 

 

 

 

[15] . نفس المصدر، ص131.

 

 

 

 

[16] . نفس المصدر، ص136.

 

 

 

 

[17] . محمد باقر الصدر, حياة حافلة وفكر خلاق، ص47، مصدر سابق.

 

 

 

 

[18] . الخرسان, السيد صلاح، الإمام السيد محمد باقر بالصدر في ذاكرة العراق, أضواء على تحركات المرجعية الدينية والحوزة العلمية في النجف الأشراف، ص36، 1958ــ 1992ـ مؤسسة البلاغ للطباعة والنشرـ بيروت.

 

 

 

 

[19] . نفس المصدر السابق، ص36-37.

 

 

 

 

[20] . الصدر، محمد باقر، السيرة والمسيرة، ص138، مصدر سابق.

 

 

 

 

[21] . نفس المصدر، ص138.

 

 

 

 

[22] . نفس المصدر، ص144.

 

 

 

 

[23] . نفس المصدر، ص161.

 

 

 

 

[24] . محمد باقر الصدر, حياة حافلة، ص57، مصدر سابق

 

 

 

 

[25] . نفس المصدر، ص57.

 

 

 

 

[26] . نفس المصدر، ص57.

 

 

 

 

[27] . محمد باقر الصدر, حياة حافلة، ص133، مصدر سابق

 

 

 

 

[28] . نفس المصدر، ص133.

 

 

 

 

[29] . المصدر السابق، ص97.

 

 

 

 

[30] . الموقع الرسمي للشيخ الدكتور حيدر حب الله، مقال بعنوان(السيد محمد باقر الصدر مكوّنات المشروع الفكري الإسلامي) بقلم د. حيدر حب الله.

 

 

 

 

[31] . ينظر: آفاق الحداثة في فكر السيد محمد باقر الصدر ، د. عامر عبدالأمير حاتم، المقدمة ، ص37.

 

 

 

 

[32] . المصدر السابق، ص38.