المرجعية الدينية والتنظيم الإسلامي

جدلية العلاقة بين الثابت والمتغير

د. علي المؤمن·

دكتوراه في القانون الدستوري وباحث في الفكر الاسلامي والجماعات الاسلامية 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على رسول الله وعلى آله الهداة

السلام عليكم إخوتي وأخواتي الحضور ورحمة الله تعالى وبركاته

     الموضوع الذي نطرحه للبحث والنقاش هو أحد أكثر المواضيع الإشكالية والجدلية في الاجتماع الديني والسياسي الشيعي؛ إذ لم يمر يوم منذ ظهور التنظيم الإسلامي الشيعي الأم الى الوجود في أواخر العقد السادس من القرن الميلادي العشرين في مدينة النجف الأشرف، وتحوله الى ظاهرة دينية سياسية شاخصة؛ إلّا وكان هنالك نقاش وجدل ونقد وتقويم وحسن ظن وسوء فهم في الوسط الديني والسياسي الشيعي حول هذه الظاهرة ودورها في الاجتماع الديني السياسي الشيعي وعلاقتها بالمنظومة الدينية الشيعية التي تقف على رأسها المرجعية الدينية. و لم يقتصر الجدل على هذا الوسط؛ بل تعداه الى الوسط السياسي والحزبي الحكومي في العراق وبعض البلدان ذات الأكثرية الشيعية التي انتشر فيها التنظيم.

      وفضلاً عن أهمية هذه الجدلية وتميزها في الحجم والنوع؛ فإن مقاربتها تنطوي على صعوبة كبيرة وحساسية أكبر؛ فهي ليست صعبة على الباحث الذي يتناولها وهو من خارج الظاهرة ومن خارج المنظومة فحسب ؛ بل صعبة حتى على الباحث الذي عاش الجدلية بكل تفاصيلها من داخل الظاهرة التنظيمية الإسلامية الشيعية، وهو في الوقت نفسه إبن المنظومة الدينية الشيعية التقليدية.

    ولذلك؛ أؤكد على أن ما أطرحه هنا هو مجرد مقاربة ومادة للحوار؛ سواء في الفرضيات أو في المعالجة او في النتائج والتوصيات. وقد استخدمت في المقاربة منهجاً مركباً يجمع بين علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع السياسي؛ على اعتبار أن ظاهرة التنظيم الإسلامي الشيعي هي ليست ظاهرة دينية أو ظاهرة سياسية محضة؛ بل هي ظاهرة مركبة: دينية سياسية؛ بكل ماتنطوي عليه من أبعاد ايديولوجية وفكرية وثقافية.   

     وقد اعتمدت في البحث على المعطيات التي طرحتها في كتابي "جدليات الدعوة"؛ إضافة الى دراساتي الأخرى حول الموضوع؛ لأنني أزعم أن ماكتبه في هذا المجال جدير بالإستناد.   

التعريفات

  • المرجعية الدينية:

      مانقصده في بحثنا بالمرجعية الدينية؛ هي ـ حصراُ ـ المرجعية الدينية العليا التي ثنيت لها الوسادة؛ المبسوطة اليد، والتي تقف على رأس النظام الديني الإجتماعي للمذهب الإسلامي الشيعي الإثني عشرية، والتي تمثل نيابة الإمامة في عصر غيبة المعصوم، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات وواجبات وحقوق ترتبط بالجوانب العلمية والدينية والمالية والاجتماعية. وعلى أساس منظومة الحقوق والواجبات هذه؛ تكون للمرجع الديني ولاية أو قيمومة حصرية على جملة من شؤون المجتمع الشيعي؛ كالولاية على إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، والولاية على الحقوق والأموال الشرعية؛ جباية وتوزيعاً؛ كالخمس والزكاة والصدقات ومجهول المالك وغيرها، والولاية على القضاء والتحكيم بين أفراد المجتمع، والولاية على الأمور الحسبية ذات العلاقة بالجانب النُظمي الاجتماعي. ويتوسع بعض الفقهاء في إعطاء مساحة أوسع للفقيه؛ لتشمل الولاية على الحكم والدولة. ومرد الاختلاف بين الفقهاء بشأن ولاية الفقيه هي هذه المساحة فقط. وبالتالي فإن المرجعية الدينية وولاية الفقيه مصطلحان مرادفان؛ فكل مرجع هو ولي فقيه أيضاً؛ بناء على إجماع الفقهاء، ولكن هناك ولي فقيه ذو مساحة مقيدة تقتصر على الفتوى والأموال والقضاء والحسبة، ولا تشمل الحكم، وهناك ولي فقيه ذو مساحة عامة مطلقة؛ تشمل ولاية الحكم أيضاً. وهذه الشمولية لا يختارها الفقيه بناء على رغبته الشخصية أو رؤيته السياسية؛ بل هي قضية علمية فقهية؛ يتوصل إليها الفقيه عبر الاستدلال والاستنباط العلمي الفقهي. وخلال هذا الجهد العلمي قد يتوصل إلى شمول ولاية الفقيه على الحكم أو لا يتوصل. وحينها يحدد موقفه الواقعي حول نوعية تصديه للشأن العام؛ أي بناء على قناعته العلمية الفقهية.

     ومن الفقهاء المعاصرين القائلين بولاية الفقيه العامة: الإمام الخميني والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر والسيد علي الخامنئي. أما الفقهاء المعاصرون القائلون بولاية الفقيه الخاصة؛ فمنهم السيد الخوئي والسيد علي السيستاني. وبصرف النظر عن القول بالعموم والخصوص؛ فإن المرجعية الدينية أو ولاية الفقيه ظلت منذ أكثر من 1100 عام (أي منذ غيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي) تقف على رأس النظام الديني الاجتماعي الشيعي، وهي التي أوجدت هذا النظام بالتدريج وبلورته وحفظته من الضربات المتوالية والانهيار. وتشكل الحوزة العلمية الشيعية مركزاً لهذا النظام، وهي ليست جامعة لتدريس العلوم الإسلامية وتخريج علماء الدين وحسب؛ بل هي مركز النظام الديني الاجتماعي الشيعي. ولذلك يقف المرجع الأعلى على رأس الحوزة العلمية ويقودها على كل الصعد، كما يقف على رأس النظام الديني الاجتماعي الشيعي برمته.

     وعلى مستوى المصاديق؛ فإن المرجعيتين الدينيتين الشيعيتين الأبرز اليوم هما مرجعية السيد علي الخامنئي؛ القائل بولاية الفقيه العامة، وهو المرجع الأعلى والولي الفقيه في إيران، ومرجعية السيد علي السيستاني؛ القائل بولاية الفقيه الخاصة، وهو المرجع الأعلى في النجف الأشرف. وتستحوذ هاتان المرجعيتان على ما يقرب من 75 بالمائة من مساحة النفوذ الديني في الوسط الشيعي في كل العالم؛ وهو الوسط الذي تبلغ كتلته السكانية حوالي (400) مليون مسلم شيعي؛ أي حوالي 20 بالمائة من عدد المسلمين في العالم.

  • التنظيم الاسلامي:

     مانقصده بالتنظيم الإسلامي الشيعي في بحثنا هو حزب الدعوة الإسلامية تحديداً، وهو التنظيم الأم لكل الحراك التنظيمي الشيعي في البلدان العربية ذات الاكثرية السكانية الشيعية. وقد تأسس الحزب من مدينة النجف الأشرف في آب / أغسطس من العام 1957 في بيت الفقيه السيد محمد باقر الصدر، وتم إطلاقه سراً بعد اجتماع اداء القسم من قبل غالبية المؤسسين في كربلاء في 12 تشرين الأول/ اكتوبر من العام 1957 في دارة المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم. وللمزيد حول خلفيات التأسيس وتفاصيله، وأهداف الحزب وفكره ونظريته ومسيرته ورواده؛ يُراجع كتابينا: "سنوات الجمر" و"جدليات الدعوة"، وسلسلة دراساتنا "حزب الدعوة الإسلامية من الشروق الى السطوع"

فرضيات علاقة التنظيم الاسلامي بثوابت المرجعية الدينية

    لقد تأسس حزب الدعوة الإسلامية في وسط النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ولا يزال يعمل في إطاره؛ ولذلك فهو جزء من هذا النظام، ولا خيار له غير الخضوع لمعادلات هذا النظام. وكان عدم الالتفات إلى بعض هذه المعادلات، أو تصور القدرة على تغيير بعضها الآخر؛ يتسبب في حدوث عدم تطابق بين «الدعوة»؛ بوصفها حزباً إسلامياً شيعي دعوي تغييري سياسي، وبين منظومة المرجعية الدينية؛ بصفتها رأس هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي. وعليه؛ فإن النظرة إلى المرجعية الدينية ينبغي أن تتجاوز القناعات الفكرية والاجتماعية والسياسية الفرعية؛ لتندك بالواقع الأصلي ومتطلباته.

    وأهم فرضيات هذا الواقع:

     1- إن المرجعية الدينية العليا ليست مرجعية علمية فقهية وحسب؛ بل هي منظومة دينية اجتماعية؛ تقف على رأس النظام الديني الاجتماعي للطائفة الشيعية الإمامية في العالم. ولهذه المنظومة سياقات عمل ونظم فرعية وتقاليد؛ أقلها أهمية هو الموضوع العلمي المرتبط بالدراسة والفتوى، وأكثرها أهمية هو أسلوب إدارتها للشأن العام. وعمر هذه المنظومة أكثر من أحد عشر قرناً. أي أن المرجعية الدينية هو الوجود الأصيل والثابت الوحيد في النظام الديني الاجتماعي الشيعي. أما حزب الدعوة؛ الجماعة الدعوية السياسية؛ فهو وجود عارض متغير يعمل في إطار النظام الديني الاجتماعي الشيعي، ولم يتجاوز عمره ستة عقود. وبالتالي فحزب الدعوة والمرجعية الدينية ليسا متساويين في الشأنية الدينية الاجتماعية (الاجتماع الديني الشيعي) ولا في مساحات العمل والتصدي، ولا في التأثيرات المعنوية، ولا هما متشابهان في الوظيفة والماهية. ولذلك لايمكن القول بوجود علاقة متكافئة، أو علاقة ندية، أو إمكانية تبادل مواقع إدارة النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ بل هي علاقة المتغير بالثابت، والفرع بالأصل، والتابع بالمتبوع.

     2- بصرف النظر عن الأسانيد الروائية والعقلية لمبدأ المرجعية الدينية والحاكمية والولاية، وتطبيقاته وتحولاته وتطور منظومته؛ فإنه ـ قبل كل ذلك ـ يمثل أمراً واقعاً قائماً ضاغطاً، وينبغي لحزب الدعوة التعامل معه تعاملاً واقعياً؛ لا تعاملاً معيارياً؛ أي التعامل مع منظومة المرجعية العليا كما هي كائنة، لا كما ينبغي أن تكون من وجهة نظر الحزب، وأن لا يتعارض عمل الحزب مع سياقات منظومة المرجعية العليا ونظمها ؛ سواء قبِل بتفاصيل هذه المنظومة أم لم يقبل، وسواء كانت صحيحة برأيه أم خاطئة. صحيح أن مدرسة "الدعاة" هي مدرسة السيد محمد باقر الصدر التغييرية النهضوية؛ ذات المنهجية المعيارية النقدية؛ ولكن ليس من شأن حزب الدعوة ووظيفته الحديث عن إصلاح منظومة المرجعية وسلوكياتها؛ لأن إصلاحها شأن داخلي خاص بالمنظومة نفسها. ويمكن لعلماء الدين الدعاة من الصف الأول (المجتهدون والفضلاء) المساهمة في عملية الإصلاح والتقويم، والاستفادة ـ في هذا المجال ـ من آراء الدعاة (أكاديميين ومثقفين وباحثين) ودراساتهم ونقودهم وتقويماتهم الداخلية الخاصة، وتكون مساهمة هؤلاء العلماء بصفتهم الحوزوية وليست الحزبية. وفي المقابل تمتلك المرجعية العليا ومنظومتها الحق في الحديث عن إصلاح «الدعوة» وتقويم فكرها وسلوكها؛ بل إن هذا جزء من الوظيفة الدينية الاجتماعية للمرجعية.

     3- من أجل أن يكون تعامل حزب الدعوة الإسلامية مع المرجعية العليا تعاملاً واقعياً ومنتجاً ومثمراً؛ ينبغي للدعاة فهم منظومة المرجعية وسياقات عملها وحركتها ونظمها الفرعية وتقاليدها؛ فهماً توصيفياً دقيقاً؛ بدءاً بمدخلية البيوتات، وأساليب تدوير الحقوق الشرعية، ودور الأصهار والأولاد، وأساليب اختيار المرجعية العليا، وطرق الاعتراف العرفية بمرجعيةٍ ما، وطبيعة عمل الكيانات غير العراقية وغير العربية في الحوزة، وانتهاءً بالفرق بين المعمم والآخوندي، ولهجة التخاطب والتدريس في الحوزة. وينبغي القبول بها جميعاً والتعامل معها كما هي؛ لا كما ينبغي أن تكون من وجهة نظر الدعاة بوصفهم نخبة واعية مثقفة تغييرية.

     4- إن منظومة المرجعية الدينية بطبيعتها هي منظومة تقليدية في بناها وأساليب عملها وحركتها. أما المحاولات الاصلاحية في الحوزة فلم تلامس ثوابت هذه المنظومة يوماً، ولن تستطيع ملامستها؛ بل تلامس التفاصيل والمتغيرات. وما حركات المراجع المصلحين المعاصرين في الحوزة؛ وأهمها حركة السيد محمد باقر الصدر ، والسيد محمد محمد صادق الصدر؛ إلّا موجات وتيارات تأتي وتؤسس، ثم يبقى منها ما يتوافق مع ثوابت المنظومة المرجعية التقليدية. وحتى منظومة ولاية الفقيه المتمثلة بالإمام الخميني ثم السيد علي الخامنئي؛ بالرغم من قوتها المعنوية والمادية، وكونها أكبر مرجعية دينية في إيران، وماطرحته من مشاريعها لإصلاح الحوزة القمية؛ ولكن تدخلها اقتصر على التنظيم ومأسسة النظم الفرعية، ولم تتدخل في الثوابت التقليدية لمنظومة المرجعية؛ فبقيت المنظومة تقليدية في ثوابتها، ومنظمة ومؤسَسِية في متغيراتها. بل لم يكن تدخل الولي الفقيه بصفته سلطة الدولة؛ ولكن بصفته المرجعية، وكونه رأس هرم النظام الديني الاجتماعي الشيعي، وهي الصفة التي تجد قبولاً ـ غالباً ـ لدى الحوزة العلمية ومنظومة المرجعية، وليس صفة رئيس الدولة.

     5- إن المرجعية تمثل دائما الأبوّة لكل الوجودات الثقافية والسياسية والاجتماعية الشيعية؛ وإن كان بعضها ناقداً للمرجعية أومتمرداً على جزء من ثوابتها ومتغيراتها، أو كانت المرجعية لا تتوافق منهجياً مع هذه الوجودات المتغيرة العارضة. فحزب الدعوة - مثلاً - كوجود تغييري إصلاحي ناقد؛ بالرغم من تنظيره لمنهجيات قد لا تتطابق مع منهجية المرجعيات التقليدية؛ فإنه ظل يحظى منذ تأسيسه بحماية المدارس الرئيسة الثلاث في الحوزة النجفية ودعمها؛ وهي: مدرسة السيد محسن الحكيم الإصلاحية ومدرسة السيد أبي القاسم الخوئي التقليدية ومدرسة السيد محمد باقر الصدر التغييرية؛ رغم الاختلاف المنهجي بين هذه المدارس من جهة، واختلاف منهجيات حزب الدعوة مع بعضها من جهة أخرى. وكانت هذه المدارس بشخوص مراجعها الثلاثة حاضنة لحزب الدعوة ومدافعة عنه وداعمة له مادياً ومعنوياً. وبالتالي فالمرجعية العليا هي (أم الولَد) التي تستوعب أبناءها وتحتضنهم وتخشى عليهم الضرر؛ وإن أخطأوا بحقها أو بحق الواقع الشيعي.

     6- إن حزب الدعوة غير معني بترجيح مرجع ديني على آخر في جانب التقليد، ولا ترجيح مبدآ فقهي على آخر ترجيحاً فقهياً؛ لأن «الدعوة» ليست مدرسة فقهية أو مرجعية علمية أو جهة خِبروية لكي ترجَّح - مثلاً - مبدأ ولاية الفقيه العامة (المبدأ السائد في إيران)، على مبدآ ولاية الفقيه الخاصة (السائد في الحوزة النجفية)، أو العكس. قد يكون هذا الترجيح طبيعياً من الفقهاء وعلماء الدين "الدعاة" من الصف الأول (المجتهدون والفضلاء)؛ بصفتهم العلمية الدينية كخبراء، وليس بصفتهم الحزبية؛ ولكن ينبغي أن لا يكون رأي واحد أو أكثر من علماء الدين الدعاة مسوِّغا لهم لفرض آرائهم الفقهية على الحزب ليتباهى رسمياً. وفي المقابل؛ فإن اختيار حزب الدعوة غطاءً شرعياً يتفق ومتبنياته الفكرية ومدرسته التغييرية؛ مفهوماً ومصداقاً؛ هو أمرٌ ضروريٌ لترشيد موقفه الشرعي وإخراجه من حالة الإحراج في الالتزام بجميع الآراء الفقهية ومصاديقها، وللتخلص من التجاذبات الداخلية والنقاش المستمر بين الدعاة؛ فبعض الدعاة متعارضون في مواقفهم الشرعية حيال ثنائية المرجعية والولاية، ويخرجون أحياناً على الاعتدال والتوازن في القول والتفسير والتطبيق؛ فهناك من يرى أن المرجعية الدينية هي منظومة دينية علمية تبليغية تنتج معرفةً وفقهاً، ولو أنتجت رأياً في الشأن العام فهو إرشاد غير ملزم لغير مقلدي المرجع. وفي المقابل هناك من يريد جر المرجعية النجفية العليا الى موقع لا تريده ولا تعتقد به؛ فيقول أن آراءها أحكامٌ ولائية ملزِمة. وهناك من الدعاة من يؤمن بولاية الفقيه بمصداقها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويدافع عن هذا الخيار بشدة. ولذلك فإن خلاص «الدعوة» من التبعات السلبية للتجاذبات بين المرجعيات أو الخلافات داخل الحزب حول المرجعيات؛ يكمن في النأي بالنفس عن التدخل في الشأن المرجعي والحوزوي، وعدم الميل نحو مرجعية دون أخرى؛ باستثناء من أجمعت الحوزة على مرجعيته العليا أو ولايته.

    7- هناك رواسب فكرية وواقعية؛ رغم انتهاء مفعولها؛ إلّا أنها لا تزال تشكِّل شبهات حول حزب الدعوة بخصوص علاقته بالمرجعية؛ كفكرة «قيام شورى المؤمنين بتأسيس الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة وقيادتها»، وفكرة «قيادة الساحة لمن يتصدى لها» أو «الساحة لمن يتقدم»، والمنهج النقدي لبعض الدعاة حيال نُظم عمل المرجعية والحوزة وتقاليدهما. ولعل حسم «الدعوة» موقفها من هذه الأفكار والشبهات سيجعل العلاقة النفسية والواقعية أكثر نجاحاً وإنتاجاً.

     8- إن حظوة حزب الدعوة الإسلامية لدى المرجعية العليا النجفية ولدى ولاية الفقيه في إيران في مرحلة ما بعد سقوط نظام البعث في العام 2003 وحتى الآن؛ هي حظوة متفردة ومتميزة عن جميع الجماعات الإسلامية الشيعية العراقية الأخرى؛ فهناك أسباب موضوعية كثيرة جعلت حزب الدعوة هو الأقرب إلى السيد السيستاني وبيته من جميع الحركات الشيعية العراقية الأخرى، وظل خياره الأول في الدفع باتجاه إدارة الدولة وقيادة الحكومة. وكذا الحال بالنسبة للسيد الخامنئي؛ الذي يعدّ حزب الدعوة خياره الأول أيضاً في هذا المجال. وحتى خلال ملابسات الترشح لرئاسة الحكومة العراقية في العام 2014 وتشكيلها؛ فإن قرار السيد السيستاني كان مع مرشح بديل للسيد نوري المالكي؛ على أن يكون من حزب الدعوة، وأن يختاره نوري المالكي نفسه. وهي ثقة كبيرة توليها المرجعية العليا لحزب الدعوة ولشخص أمينه العام. أما السيد الخامنئي فكان يرى ضرورة الإبقاء على السيد نوري المالكي رئيساً للوزراء لدورة ثالثة، وفي حال كانت هناك ظروف قاهرة تحول دون ذلك؛ فإن البديل ينبغي أن يكون من حزب الدعوة. ورأي المرجعين السيستاني والخامنئي لا يزال هو نفسه منذ العام 2005 وحتى الآن. ولذلك فإن استثمار هذه الأسباب وتحويلها إلى برامج عمل؛ ستنتهي دائما لما فيه مصلحة الواقع الشيعي برمته.

حزب الدعوة الإسلامية والإجتماع الديني السياسي الشيعي

      من خلال الوقوف على الإنتماءات الإجتماعية والدينية والمستويات التعليمية الدينية للمؤسسين العشرة لحزب الدعوة الإسلامية؛ يمكننا فهم طبيعة التصاق حزب الدعوة الإسلامية بالاجتماع الديني الشيعي: 

  • أن 50 بالمائة من المؤسسين ينتمون - وفقا لمعايير الاجتماع الديني - إلى الطبقة الاجتماعية الدينية الأولى؛ أي البيوتات الدينية العلمية: السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم والسيد حسن شبر، و50 بالمائة إلى الطبقة الاجتماعية الدينية المتوسطة: السيد مرتضى العسكري ومحمد صادق القاموسي ومحمد صالح الأديب وعبد الصاحب دخيل والسيد طالب الرفاعي وجابر العطا؛ ما يعطي «الدعوة» موقعاً اجتماعياً رفيعاً جداً في الطبقة الاجتماعية الدينية، وما يعني انتماء مؤسسي «الدعوة» إلى طبقة النخبة الاجتماعية الدينية. وظلت هذه السمة غالبة في بنية الدعاة الاجتماعية الدينية؛ إذ ظلوا ينتمون غالباً إلى أسر متدينة ومميزة اجتماعياً.
  • إن جميع المؤسسين ينتمون إلى الطبقة المتعلمة تعليماً عالياً؛ إذ كان أحدهم فقيهاً وهو السيد محمد باقر الصدر، وكان ستة منهم في مرحلة الدراسات العليا في الحوزة العلمية: السيد محمد مهدي الحكيم والسيد مرتضى العسكري والسيد محمد باقر الحكيم والسيد طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي (الأربعة الأوائل كانوا يرتدون الزي الديني والإثنان الأخيران كانا يرتديان الزي المدني). وكان أحد المؤسسين يجمع بين التحصيل الديني والأكاديمي، وهو السيد حسن شبر الذي كان في مرحلة الدراسات العليا في الحوزة، ومتخرجاً من كلية الحقوق في الوقت نفسه. وكان اثنان من المؤسسين خريجين جامعيين هما محمد صالح الأديب خريج كلية الهندسة الزراعية وجابر العطا خريج كلية الطب. وبذلك فإن من مجموع العشرة المؤسسين كان سبعة من المحصلين تحصيلاً دينياً وإثنان من خريجي الجامعات الأكاديمية وواحد يجمع بين التحصيلين الديني والأكاديمي. وهذا الطابع الثقافي والتعليمي النخبوي أصبح جزءاً من الطقوس التنظيمية للحزب؛ إذ ظل حزب الدعوة حزباً نخبوياً يتعاطى - غالبا - مع طبقة المتعلمين؛ وإن انفتح في نهاية السبعينات على الطبقات الأقل تعليماً.
  • إن الدعاة كانوا يتمتعون بحماية المرجعية الدينية العليا المتمثلة بالإمام السيد محسن الحكيم، ومن بعده مرجعية الإمام السيد أبي القاسم الخوئي؛ إضافة إلى المرجعيات الكبيرة الأخرى كالسيد عبد الله الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي. فضلاً عن احتماء الدعاة بعدد من كبار الفقهاء الإصلاحيين، كالشيخ محمد رضا المظفر والشيخ مرتضى آل ياسين والشيخ محمد أمين زين الدين والسيد اسماعيل الصدر. بل كان لعمل أعضاء حزب الدعوة في إطار مرجعية الإمام الحكيم ومشروعاته الدينية والثقافية؛ كالمكتبات العامة مثلاً؛ أكبر الأثر في انتشار «الدعوة» وفي تغطيتها دينياً واجتماعياً. وأن عدداً كبيراً من الدعاة الأوائل كان ينتمي إلى البيوتات الدينية العراقية واللبنانية والإيرانية ذات التأثير الاجتماعي الكبير في النجف؛ كآل الحكيم وآل الصدر وآل بحر العلوم وآل ياسين وآل فضل الله وآل شمس الدين وآل شبر وآل الغريفي وآل كاشف الغطاء وآل الجواهري وآل الخوئي. و كان كثير من أولاد مراجع النجف وفقهائها وأحفادهم وأصهارهم أعضاء في حزب الدعوة. وبالتالي؛ كان لهذه الحماية الدينية الاجتماعية الأثر الأهم في تحرك الدعاة بحرية في الوسط الديني والاجتماعي الشيعي.

     ولذلك؛ فإن هذه التجليات الثلاثة الأساسية؛ كانت صاحبة الفضل في تمكين الدعاة الأوائل من إنشاء مشروعهم التنظيمي الفكري الثقافي وتنميته وتوسيعه؛ وهم شباب في العشرينات من اعمارهم ( معدل عمر المؤسسين 27 عاماً)؛ بالصورة التي كانت عليه في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين. كما فتحت لهم أبواب الفاعليات المهمة في الوسط الاجتماعي الديني والثقافي النجفي. ومن أمثلة ذلك: 

  • بادر قياديو «الدعوة» وكادرها من علماء الدين إلى الانخراط في العمل ضمن جماعة العلماء في النجف الأشرف بعد تأسيسها في العام 1958 وجماعة العلماء في بغداد والكاظمية بعد تأسيسها في العام 1965. فقد كان الدعاة يمثلون الجهاز التنفيذي لجماعة علماء النجف، ويديرون مجلة الجماعة (الأضواء) ومنشوراتها وأعمالها الثقافية، وأبرزهم: السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم والسيد مرتضى العسكري والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله والسيد طالب الرفاعي والسيد محمد باقر الحكيم والسيد محمد بحر العلوم والشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ أحمد الوائلي والشيخ كاظم الحلفي والسيد عدنان البكاء والشيخ مهدي السماوي. وكانوا يستندون في حركتهم داخل الجماعة واستثمار إمكاناتها إلى دعم رئاستها المتمثلة بآية الله الشيخ مرتضى آل ياسين لهم وكثير من أعضاء الهيئة الإدارية للجماعة. أما ما يتعلق بجماعة علماء بغداد والكاظمية؛ فقد كان تأثير الدعاة أكبر حجماً؛ لأن معظم مسؤولي الجماعة كانوا من مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية أوقادته.
  • ساهمت المدرسة الإصلاحية للشيخ محمد رضا المظفر مساهمة نوعية في احتضان الدعاة وحمايتهم وتسهيل انتشار حزب الدعوة ونموه؛ لأن «الدعوة» وجدت في أبناء هذه المدرسة قاعدة جاهزة اعتمدت عليهم في تحركها. حتى أن جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف ومدارسها وكلية الفقه التابعة لها؛ وجميعها تأسس بجهود الشيخ محمد رضا المظفر، وظل يرأسها حتى وفاته في العام 1964؛ كانت بؤرة لعمل «الدعوة» ولتخريج الدعاة العلماء الجاهزين للتحرك. وهو ما كان يحصل في بغداد أيضاً في مؤسسات السيد مرتضى العسكري الدينية التعليمية في الكاظمية وبغداد؛ ولاسيما مدارس الإمام الكاظم والإمام الجواد وكلية أصول الدين. ولذلك نجد أن لمدرسة حزب الدعوة في التغيير والإصلاح جذوراً في أفكار الفقيه المجدد الشيخ محمد رضا المظفر وتوجهاته ، وبنسبة أقل في أفكار الزعماء الآخرين لحركة الإصلاح الإسلامي المعاصر في العراق في العقود الستة الأولى من القرن العشرين الميلادي؛ كالسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وغيرهما. ومن هنا؛ كانت البيئة التنموية التوعوية التي وفرتها مدرسة الشيخ المظفر لحزب الدعوة بالغ الأثر في احتضان الدعاة علمياً وفكرياً وثقافياً.
  • كان أعضاء حزب الدعوة من علماء الدين يمارسون من خلال عملهم بوصفهم وكلاء وممثلين ومعتمدين لمرجعية السيد محسن الحكيم ومرجعية السيد أبي القاسم الخوئي ومرجعية السيد محمد باقر الصدر؛ دوراً ثنائياً؛ يعود بالفائدة المعنوية الكبيرة على حزب الدعوة، ويطرحه ممثلاً وحيداً وشرعياً للحالة الحركية الإسلامية الشيعية. وكان معظم هؤلاء الدعاة الوكلاء شباباً في العشرينات والثلاثينات، ولكنهم كانوا يتمتعون بالغطاء الديني المرجعي.
  • اسهم انتشار الدعوة في البلدان الأخرى في تكوين شبكة شيعية متماسكة عابرة للحدود والقوميات؛ تتكون من علماء الدين ووكلاء المرجعيات الدينية والنخب المتعلمة والتجار والفعاليات الخيرية؛ الأمر الذي جعل الدعوة هي المحرك الأهم للواقع الشيعي في هذه البلدان. فقد كان الدعاة الأوائل، ومن بينهم المؤسسون والتشكيلة القيادية الأولى؛ ينتمون إلى عدة بلدان إسلامية؛ ولاسيما العراق ولبنان والسعودية وإيران وباكستان وأفغانستان والهند والكويت والإمارات المتحدة وسوريا وعمان والبحرين وغيرها، ومن أصول عرقية متعددة؛ عرب وكرد وفرس وتركمان وترك وهنود وأفغان وأذربيجانيين وهزارة وطاجيك وغيرها، وفيهم نسبة كبيرة من المستعربين المستعرقين من أصول إيرانية وهندية وباكستانية وأفغانية وأذربيجانية، وكذلك المستعرقين من أصول لبنانية وسعودية وعمانية وبحرينية، وأيضاً كويتيين وبحرينيين من أصول عراقية وإيرانية. وهذا التنوع في القوميات والوطنيات يعود إلى طبيعة الاجتماع الديني النجفي العالمي الذي ينتمي إليه حزب الدعوة، والذي قام على اندماج هذا الخليط وتجانسه وتضامنه؛ منذ أن تأسست حاضرة النجف الأشرف في العام 449هـ/1057م، وتحولها إلى عاصمة دينية اجتماعية لشيعة العالم. وكان لهذه التعددية القومية والوطنية والاجتماعية لاعضاء حزب الدعوة؛ أكبر الأثر في مراكمة التنوع الثقافي الاجتماعي في بنيته التنظيمية والفكرية، وكانت تنسجم مع عالمية «الدعوة» وفكرها. واستطاع حزب الدعوة صهر هذا التنوع في بوتقته الفكرية، واستثمار إيجابياته وتجاوز سلبياته؛ مستفيداً بذلك من التجربة النجفية الوطنية والعالمية؛ وهي البيئة التي ظلت تمثل نتاجاً لتفاعل بيئات ثقافية اجتماعية متنوعة. وظل هذا النتاج غنياً، ومتفوقاً في عمقه وسعة أفقه على الأحاديات الثقافية المحلية؛ وهي ميزة نادرة تتمتع بها البيئة النجفية، وظلت تطبع حزب الدعوة بطابعها؛ إذ لم يؤثر انفتاح حزب الدعوة على المدن والقوميات والبيئات الاجتماعية العراقية والعربية وغير العربية في الحفاظ على جذوره النجفية؛ فقد بدأ حزب الدعوة نجفياً في انتمائه الثقافي والاجتماعي؛ واستحال عراقياً وعالمياً في تنوع انتماءات أعضائه؛ إلّا أنه من الناحية الفكرية والتقاليد الدينية؛ بقي ينتمي إلى مدرسة النجف الأشرف.

     وفي الوقت الذي توافرت لحزب الدعوة حواضن مهمة، وبيوتات دينية واجتماعية، ومؤسسات ثقافية وخيرية؛ فقد كانت هناك عقبات بنوية (اجتماعية سياسية) كبيرة أمام «الدعوة» وانتشارها وتمددها؛ ولاسيما خلال مرحلة الانتشار الأولى؛ التي استمرت من اوائل العام 1958 وحتى نهاية عام 1961. وتمثلت هذه العقبات بما يلي:

  • إشكالية النظام السياسي في العراق؛ المبني على ركيزتي العنصرية والطائفية (عرب/ سنة). وهو نظام قديم موروث تتمظهر ركيزتاه في تهميش الشيعة واضطهادهم على أساس طائفي، وتهميش الكرد والتركمان على أساس عنصري.
  • إشكالية المنظومة الدينية الشيعية وموروثاتها الاجتماعية والسياسية فيما يرتبط بموضوعتي السياسية والدولة، وعلاقة الاجتماع السياسي الشيعي بالدولة والسلطة والمجتمع السياسي الرسمي؛ وهي علاقة انكفاء وقطيعة غالباً.
  • إشكالية انتماءات النخبة الشيعية؛ الموزعة بين أحزاب السلطة الملكية، والتنظيمات القومية؛ العربية والكردية، والتنظيم الشيوعي، والتنظيمات الإسلامية السنية. وهذه الانتماءات هي قسرية وغير موضوعية غالباً؛ لأن النخب الشيعية عندما تريد التعبير عن نفسها سياسياً واجتماعياً وثقافياً؛ فإنها لم تكن تجد أمامها غير هذه التنظيمات العلمانية القومية والأممية أو الإسلامية السنية.
  • الموقف الفقهي والاجتماعي التقليدي للحوزة العلمية في النجف الأشرف؛ الذي لا يستسيغ التنظيم والتحزب والعمل السياسي وقيام دولة إسلامية. ويكمل هذا الواقع؛ غياب الموقف الفقهي في الموضوعات السياسية.
  • الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية الصعبة التي يعيشها الشيعة في مختلف دول العالم؛ ولاسيما في العراق ولبنان وإيران والكويت والسعودية والبحرين وباكستان وأفغانستان.
  • فاعلية الحركات الإسلامية السنية؛ التي تعمل على الاستحواذ على الساحة الإسلامية بجانبيها السني والشيعي.

حزب الدعوة والخط الثالث في الحوزة النجفية

      على مستوى الحوزة العلمية النجفية؛ عاش حزب الدعوة حالة الثنائية بين مرجعية الإمام الحكيم الإصلاحية ومرجعية الإمام الخوئي المحافظة. واستطاعت «الدعوة» إيجاد خط ثالث فاعل؛ ولكنه خفي وغير منظور؛ إلا أنه كان يتمظهر - غالباً - في الفعاليات والنشاطات المحسوبة على مرجعية الإمام الحكيم وجماعة العلماء في النجف الأشرف وكلية الفقة. وبذلك أصبح واقع الاجتماع الديني النجفي ينقسم في عقد الستينات من القرن الماضي على ثلاثة تيارات رئيسة:

  • التيار الوسطي الإصلاحي؛ المتمثل في مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم، وسمته: إصلاح شامل في الأمة وإصلاح مقيد في السلطة. ويتكون من خليط من علماء دين عراقيين وعرب وإيرانيين، وشبكة من البيوتات النجفية الدينية؛ العراقية وذات الأصول الإيرانية.
  • التيار التقليدي المحافظ؛ المتمثل في مرجعية الإمام السيد إبي القاسم الخوئي، وسمته: إصلاح تقليدي في الأمة وانكفاء في موضوعة السلطة. ويتكون معظم التيار من علماء دين إيرانيين؛ فرس وأذربيجانيين (كان الإمام الخوئي من القومية الآذربيجانية الإيرانية).
  • التيار التغييري الثوري؛ المتمثل في خط الفقيه الشاب السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الإسلامية، وسمته: إصلاح شامل في الأمة وتغيير جذري في السلطة. ويتكون معظم التيار من علماء دين شباب عراقيين وعرب وإيرانيين، وناشطين من غير علماء الدين من البيوتات الدينية النجفية والعراقية والعربية والإيرانية.

     وبالرغم من أن تيار ( الصدرـ حزب الدعوة) كان يحظى بدعم المرجعين الحكيم والخوئي، ويحتمي بهما حوزوياً وثقافياً واجتماعياً، ويحصل منهما على الدعم المالي والمعنوي؛ ولكنه كان يصطدم بشخصيات مؤثرة في مكاتبهما وفي إطار مرجعياتهما؛ لم تخف سخطها من وجود تيار إسلامي حزبي تغييري سياسي ثقافي يتعارض والطابع التقليدي المحافظ لحوزة النجف. في حين كان شخصا المرجعين الحكيم والخوئي ينظران بعين العطف والحماية للسيد الصدر وحزب الدعوة. الأمر الذي يقود إلى نتيجة راسخة مفادها أن النظام الاجتماعي الديني النجفي لا يمكن أن يسير وينجح وينمو إلّا بوجود التيارات الثلاثة المذكورة (المحافظة والإصلاحية والثورية)؛ فهي ضرورية للإبقاء على حالة التوازن، شريطة أن تحافظ على تفاهمها وتكاملها وتوزيع الأدوار فيما بينها؛ وكان الوضع عليه في عهد مرجعية الإمام الحكيم. وهذه المهمة الصعبة تقع على عاتق المرجع الأعلى؛ فهو الكفيل بتقوية التيارات الثلاثة معاً وخلق حالة التوازن بينها، وتنظيم أدوارها. وهو ما نجح فيه الإمام الحكيم والإمام الخوئي والإمام الشهيد الصدر، ثم الإمام السيستاني فيما بعد؛ مع وجود تفاوت في نسب النجاح؛ تبعاً لنوعية النظام السياسي الحاكم، ولقدرة المرجع الأعلى على الإدارة العامة. مع الأخذ بالاعتبار أن الفرصة التي توافرت للإمام السيستاني بعد العام 2003 لم تتوافر لغيره من المرجعيات على مر التاريخ؛ إلّا لعدد محدود؛ كالشيخ المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي في بغداد خلال المرحلة البويهية، والشيخ الكركي والشيخ البهائي والشيخ المجلسي خلال المرحلة الصفوية.

     وقد يرى بعض المراقبين مفارقة في هذا المجال؛ فكيف يدعم التيار الديني التقليدي المحافظ المهيمن في النجف تياراً إصلاحياً وآخر ثورياً يعيشان في قلب النظام الاجتماعي الديني النجفي، أو العكس؟!. والحقيقة أن من يعرف منهجية تفكير المرجعية النجفية العليا وحركتها وتقاليدها؛ يفهم بأن هذه المرجعية تمارس - عادة - دور الأبوة لكل التيارات والوجودات في الوسط الشيعي، وتعمل على حمايتها وعدم التفريط بها، وشدها إليها بهدوء وصبر؛ للحؤول دون انكفائها خارج المنظومة الدينية الشيعية؛ سواء كانت المرجعية نفسها ثورية أو إصلاحية أو محافظة.

     وربما كانت مرحلة المهجر هي التحدي الأكبر الذي واجه حزب الدعوة على صعيد انتمائه للاجتماع الديني النجفي؛ ولاسيما حين تواجدت قيادته في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ حيث تأثيرات البيئة الفكرية الدينية الإيرانية وتقاليدها، ثم ظهور تيار مهم من فقهاء «الدعوة»؛ كالسيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ محمد علي التسخيري وآخرين، وكثير من مثقفيها؛ يدعو إلى الذوبان في قيادة الإمام الخميني والدولة الإسلامية على وفق مبنى السيد محمد باقر الصدر؛ وهو مبنى لم يكن مألوفاً في النجف الأشرف. وفي مرحلة لاحقة اتجه عدد غير قليل من الدعاة إلى اتباع مدرسة السيد محمد حسين فضل الله غير التقليدية؛ المتباينة إلى حد ما في تقاليدها الفكرية والدينية عن مدرسة النجف؛ على الرغم من انتماء السيد فضل الله اجتماعياً وعلمياً إلى النجف. ولكن في المحصلة النهائية بقيت بوصلة حزب الدعوة تشير غالباً إلى مدرسة النجف. وهذا الأمر لا يزال قائماً؛ حتى في خضم الجدليات الجديدة / القديمة التي تحكم العلاقة بين حزب الدعوة والمرجعية النجفية.

"الدعوة" بين مفارقتين: عدم الإيمان بالمرجعية وعدم الإيمان بولاية الفقيه

     في العام 1979؛ بالتزامن مع تحرك الإمام السيد محمد باقر الصدر؛ كانت عناصر الأمن والمخابرات وحزب البعث في النجف الأشرف؛ تستند إلى مصطلحات ومعايير دينية مدروسة في نصحها للشباب المؤمن الناشط. تنصحهم أن لا يتورطوا مع جماعة الصدر العملاء المعادين للمرجعية الدينية؛ لأن الصدر هو ضد المرجعية، ولديه حزب يحارب المرجعية، وهؤلاء خطر على الشيعة، وأن الصدر عميل أمريكي وعميل للخميني، وأن الخميني هو عميل أمريكي أيضاً. ولم يكن هذا النوع من التهم المدروسة بعناية في الغرف المظلمة لأجهزة المخابرات العراقية والإقليمية والعالمية؛ بعيدة عن مسامع الناس في الأوساط الدينية أو القريبة منها اجتماعياً؛ فقد كان يتحدث بها بعض المعنيين وغير المعنيين؛ متدينين وغير متدينين؛ كأنها أمر بديهي غير قابل للنقاش. وكان الحديث عن عداء (جماعة الصدر) للمرجعية والحوزة وخطورتهم على الشيعة هو الشائع الذي يركز عليه رجال الأمن والمخابرات والبعثيين أكثر من غيره؛ بهدف التنكيل بالدعاة وتعميق الفرقة بينهم وبين الاتجاه العام في الحوزة العلمية والمتدينين التقليديين.

     في هذه الفترة؛ لم يكن السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الإسلامية؛ المستهدَفين الوحيدين من هذه الهجمة؛ بل كان كل التيار الإسلامي السياسي الشيعي متهماً بهذه التهم أيضاً؛ تزامناً مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني؛ الذي كان يمثل قيادة هذا التيار؛ بل كان بعض المتدينين المحافظين الشيعة في النجف يقول: ((إن الخميني يريد إسقاط الملك الشيعي الوحيد في العالم!))، ويقصدون به الشاه.

      وفي مرحلة المهجر الإيراني؛ بدءاً من العام 1979؛ تطورت تهمة عدم إيمان حزب الدعوة بالمرجعية إلى تهمة أخطر؛ وهي عدم إيمان الحزب بولاية الفقيه، وإن الدعاة هم ضد مبدإ ولاية الفقيه، ولا يوالون مصداقها. وهذه التهمة تعني؛ وفقا لمبدإ ولاية الفقيه؛ خروجاً نظرياً على ولي الأمر مبسوط اليد. وكان خصوم حزب الدعوة من الفرقاء السياسيين الشيعة العراقيين القاطنين في إيران يغذون هذه التهمة؛ على خلفيات مليئة بالمفارقات والتناقضات؛ فكانوا يقولون للجمهور العراقي في إيران بأن حزب الدعوة لا يؤمن بالمرجعية الدينية، ويقولون للإيرانيين الحكوميين بأن حزب الدعوة لايؤمن بولاية الفقيه. وفي المقابل؛ لم يكن بعض الإيرانيين المتشددين يتهمون حزب الدعوة بعدم الإيمان بالمرجعية؛ بل العكس؛ يقولون بأن حزب الدعوة تابع لمرجعية النجف؛ وبأنهم (جماعة الخوئي)، ولايؤمنون بولاية الإمام الخميني. فكان الدعاة يواجهون نيران تهمتين متعارضتين؛ وهي مفارقة تستند إلى شبهة واقعية؛ لآن حزب الدعوة هو ـ تاريخياً ـ ابن مدرسة النجف، ونتاج نظرية السيد محمد باقر الصدر الفقهية السياسية، وتأسس في كنف مرجعية الإمام الحكيم وتأثر بها، وأن كثيراً من قيادات الدعوة وكوادرها وأعضائها يقلدون الإمام الخوئي؛ وأن أكثر علماء حزب الدعوة هم من تلاميذ السيد الخوئي. ولكن في الجانب العملي كان حزب الدعوة في حالة حرب دموية شاملة مع نظام البعث، ويتماثل فقهياً وفكرياً ومنهجياً وميدانياً مع نظام ولاية الفقيه في ايران. وبالتالي؛ فإن حزب الدعوة لم يؤسس لهذه الإشكالية؛ بل الذي أسس لها الظروف القاهرة التي عاشها في مرحلة مابعد العام 1979.

إشكالات الوسط العراقي الديني المناوئ لحزب الدعوة

     في إطار المدرسة النجفية وامتدادتها خارج العراق؛ والتي ترمز عادة إلى توجهات الوسط الديني الشيعي بشقيه التقليدي والسياسي؛ ظلت تهمة عدم إيمان حزب الدعوة بالمرجعية الدينية، وعدم الالتزام بأوامرها؛ تستند إلى المعطيات التالية:

  • إن حزب الدعوة هو حزب سياسي ديني؛ يعتمد ايديولوجية غير مسبوقة في الوسط التقليدي الديني والحوزوي؛ فهو يؤمن بإقامة دولة إسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي؛ وهي نظرية غير مقبولة - غالباً - في هذا الوسط؛ لقول بعضهم بحرمة قيام راية ودولة إلا على يد المعصوم أو إذنه؛ على وفق جزء من الموروث الفقهي الشيعي. ولكن السيد محمد باقر الصدر أسس نظرية فقهية جديدة قام عليها حزب الدعوة؛ قلبت موازين الفقه السياسي الإسلامي لمدرسة الإمامة. فكانت نظرية السيد الصدر تعتمد الشورى في قيادة العمل في أول أربع سنوات من عمر الدعوة (1957 - 1961)، ثم طوًر نظريته بعد ذلك؛ حين اعتمد نظرية ولاية الفقيه؛ بالمضمون نفسه الذي طرحه الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «عقائد الإمامية» والإمام الخميني في كتاب «الحكومة الإسلامية». وفي النتيجة؛ كان من البديهي أن تتعارض نظرية حزب الدعوة في العمل الإسلامي السري وفي تاسيس الدولة الإسلامية في عصر الغيبة مع النظرية الموروثة الحاكمة في الحوزة العلمية. وبالتالي؛ ظهور نوع من عدم الانسجام مع هذا الوسط؛ وصولاً إلى ما أسماه خصوم الدعوة بعدم التبعية للمرجعيات الدينية.
  • إن حزب الدعوة كان يريد تنفيذ منهجه ومشروعه؛ بعيداً عن تاثيرات مكاتب المرجعيات الدينية؛ لأن هذه التاثيرات وخصوصياتها تتعارض مع مشروع «الدعوة» وخصوصيته.
  • إن حزب الدعوة لم يتبن مرجعية بعينها؛ بل حرّر أعضاءه من ضغط تقليد مرجع بعينه؛ بالنظر لتعدد المرجعيات واختلاف رؤاها الفقهية أحياناً، وتوجهاتها ومواقفها السياسية والاجتماعية والفكرية أحياناً أخرى.
  • في الفترة التي أعقبت وفاة مرجع الطائفة الإمام الحكيم؛ انقسمت المرجعية النجفية العليا بين السيد محمود الشاهرودي والسيد الخوئي، وحدث فراغ نسبي في قيادة الشأن العام؛ أي قيادة الواقع الشيعي التي كان يمسك بها الإمام الحكيم؛ في الأبعاد الاجتماعية والإصلاحية والسياسية؛ الأمر الذي دفع الثنائي القيادي لحزب الدعوة؛ عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي؛ لطرح فكرة ((قيادة الساحة لمن يتصدى لها)) و((القيادة فعل وليس منصب))؛ أي أن المرجعية؛ من الناحية المصداقية الواقعية وليس من ناحية المفهوم؛ إذا تصدت للشأن العام أو قيادة الأمة؛ وكان في مرحلة الإمام الحكيم؛ فإن الدعوة ستسير خلفها، وتكون قيادة الأمة للمرجع المتصدي المبسوط اليد. وإذا لم تتصد المرجعية الدينية للشأن العام ولقيادة الواقع الشيعي، وحصرت نشاطها في الشأن الخاص؛ أي البعد العلمي والديني المحض؛ فإن حزب الدعوة سيضطر لملء الفراغ والتصدي للشأن العام؛ أي لقيادة الأمة. وكانت هذه الفكرة من أهم المؤاخذات النظرية التي استثمرها خصوم «الدعوة» في الوسط الديني ضد الحزب.
  • حين تبنى حزب الدعوة مرجعية السيد محمد باقر الصدر؛ بعد أن طرح رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) في منتصف السبعينات؛ أصبحت الأغلبية الساحقة من وكلاء الصدر هم من علماء الدين الأعضاء في حزب الدعوة؛ بواقع 80 وكيلاً داعية من مجموع وكلاء السيد الصدر الـ 100 في داخل العراق وخارجه. ولكن لم تفرض قيادة الحزب على أعضائها تقليد السيد الصدر؛ بل كانت تروج لمرجعيته في أوساط الدعاة والمناصرين؛ في وقت كان معظم الدعاة يقلدون السيد الخوئي. وبذلك أصبح هناك خروج على المألوف؛ المتمثل في عدم تقليد الدعاة للمراجع الأكبر سناً والأشهر في الأعلمية؛ لصالح تقليد السيد محمد باقر الصدر، وهو فقيه شاب في بداية أربعينات عمره؛ وهو ما تم تصنيفه أيضاً عدم تبعية للمرجعية العليا.
  • حين أعلن المرجع السيد محمد باقر الصدر عن مشروع الثورة؛ بايعته قيادات حزب الدعوة في إقليم العراق على الموت في طريق مشروعه، وأصدر المجلس الفقهي للدعوة الذي يضم آية الله الحائري، وآية الله الآصفي، وآية الله التسخيري، وآية الله العسكري، وآية الله فضل الله وغيرهم؛ فتوى شرعية في العام 1979 بالانتقال إلى مرحلة العمل المسلح. وكان من البديهي أن يتعارض التحرك الثوري للسيد الصدر والعمل المسلح لحزب الدعوة مع التوجهات المعلنة للمرجعية النجفية العليا؛ وهو ما يمثل عدم التزام بمواقف المرجعية.

7 - إن حزب الدعوة دخل في مشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ وأصبح جزءاً من منظومة ولاية الفقيه التي لا تؤمن المرجعية النجفية بمبدئها الفقهي.

أوساط نظام ولاية الفقيه والنظرة المعيارية للدعوة

     في مرحلة المهجر؛ كان كثير من علماء الدين من تلاميذ الإمام الخميني والمنتمين لمدرسته الفقهية؛ وتحديداً الذين عاشوا في النجف الأشرف؛ يتهمون حزب الدعوة بعدم الإيمان بولاية الفقيه؛ وهي تهمة ذات تبعات خطيرة في ظل إقامة قيادة الدعوة ومعظم كوادرها وجمهورها في ايران. وكان مما يستندون اليه لاثبات هذه التهمة:

  • إن حزب الدعوة ومنذ تاسيسه؛ كان تابعاً من الناحية الواقعية والميدانية لمرجعية السيد محسن الحكيم؛ وأنه تأسس في كنفه وبرعايته. وبما أن مرجعية الإمام الحكيم هي مرجعية إصلاحية وليست ثورية، وأنها كانت على خلاف منهجي مع مرجعية الامام الخميني في النجف، ولم تكن تعارض شاه إيران؛ فإن حزب الدعوة هو ابن هذه المدرسة بكل تفاصيل حركته، فضلاً عن أن اثنين من أبناء السيد محسن الحكيم (السيد محمد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم) هما من مؤسسي حزب الدعوة، وإن تمويل حزب الدعوة كان من السيد محسن الحكيم. كما كان كثير من علماء الدين من قادة «الدعوة» هم تلاميذ ووكلاء وممثلين للسيد محسن الحكيم؛ وأبرزهم السيد مرتضى العسكري والشيخ عارف البصري في بغداد، والسيد قاسم شبر في النعمانية، والشيخ محمد علي التسخيري في ديالى، والشيخ علي الكوراني في الكوفة، والشيخ محمد مهدي شمس الدين في الديوانية، والسيد محمد حسين فضل الله في لبنان، والسيد طالب الرفاعي في مصر وغيرهم كثير. وكان الدعاة يديرون غالباً مشروع المكتبات العامة الذي رعاه السيد الحكيم.

    وبعد وفاة السيد محسن الحكيم؛ انحاز حزب الدعوة الى مرجعية السيد إبي القاسم الخوئي، وكان معظم تمويل حزب الدعوة يأتي من السيد الخوئي عبر وكلائه ومعتمديه من الدعاة، ولاسيما الشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ مهدي العطار والسيد عبد الله الغريفي والسيد محمد حسين فضل الله، إضافة إلى عدد من كبار التجار الشيعة الكويتيين والإماراتيين من معتمدي السيد الخوئي. كما كان أكثر علماء الدين من قادة حزب الدعوة هم تلاميذ السيد الخوئي أو وكلائه ؛ كالسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد علي التسخيري والشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ مهدي العطار وغيرهم كثير جداً، وإنهم متأثرون بأفكار السيد الخوئي؛ حتى كانوا يقولون بأن الشيخ الآصفي رفض ترجمة أو تصحيح كتاب الحكومة الإسلامية للإمام الخميني؛ حين أرادوا طباعته في النجف. وقد نفى الشيخ الأصفي ذلك عندما سألته حول هذا الموضوع؛ بل قال إنه واظب على حضور دروس الإمام الخميني في الحكومة الإسلامية مدة سنتين.

     وكان معظم فقهاء حزب الدعوة لا يوافقون على العدول عن تقليد السيد الخوئي؛ عندما يستفتيهم الدعاة في العدول إلى تقليد الإمام الخميني. في الوقت الذي كان الدعاة الذين يقلدون الإمام الخوئي يعيشون حيرة كبيرة وازدواجية شرعية؛ بين تقليدهم لمرجع لا يستطيعون تقليده في الشأن السياسي ومسألة الصراع المسلح مع السلطة البعثية والخوض في الدماء من جهة، وتبعيتهم العملية للإمام الخميني في قضية الصراع والشأن السياسي ودعم الجمهورية الإسلامية من جهة أخرى، وبين فقيه الدعوة السيد كاظم الحائري؛ الذي يفتي لهم بالخوض في الصراع المسلح بكل تبعاته وخواتيمه من جهة ثالثة.

      ويمكن الوقوف على تفاصيل هذه الإتهامات والإشكالات فيما كتبه السيد حميد روحاني في موسوعته التاريخية «نهضت إمام خميني»؛ عن فترة إقامة الإمام الخميني في النجف الأشرف. كما شرح ذلك بإسهاب السيد علي أكبر محتشمي (وزير داخلية إيران الأسبق) في مذكراته.

  • إن اثنين من مؤسسي حزب الدعوة وقادته كانا على علاقة ببلاط الشاه كما يشيعون؛ وهما السيد مرتضى العسكري والسيد محمد مهدي الحكيم. فالسيد العسكري أفتى بانحراف الدكتور علي شريعتي مستعيناً بفتوى الإمام الخوئي. وكانت فتوى العسكري تنشر بكثرة في ايران خلال احداث الثورة الإسلامية في العامين 1978و1979؛ لتثبيط عزيمة الثوار وبث الخلافات بينهم؛ على اعتبار أن كثيراً من الثوار الإيرانيين الإسلاميين التنويرين يستلهمون تعاليم الثورة من أفكارعلي شريعتي. أما السيد محمد مهدي الحكيم؛ فقد كان متهماً بأنه عاش في كنف شاه إيران؛ بعد إفلاته من يد السلطة البعثية في العام 1969، وكان يعمل مع معارضين عراقيين آخرين على الإطاحة بنظام صدام بإشراف سلطات الشاه. والحال أن خصومة العسكري مع شريعتي كانت خصومة فكرية ولاعلاقة لها بقضية الثورة. أما السيد محمد مهدي الحكيم فقد كان يجتهد في إيجاد السبل لإنقاذ العراق من كارثة البعث؛ فضلاً عن أنه لم يكن على علاقة تنظيمية بحزب الدعوة الإسلامية.
  • ثمة تصريحات صدرت في الكويت من أحد قادة «الدعوة» وهو الشيخ علي الكوراني؛ ضد الإمام الخميني خلال الثورة؛ ومنها تصريحه حول استغلال الشيوعيين للإمام الخميني؛ وبأن اليساريين من شيوعيين وجماعة خلق يركبون موجة الثورة وسيمسكون بالسلطة بعد سقوط الشاه. وقد نقل لي السيد حسن شبر بأن الشهيد الصدر عبّر له خلال لقائهما في 17 آيار/مايو في العام 1979عن امتعاضه الشديد من تصريحات الشيخ علي الكوراني ضد الإمام الخميني وضده شخصياً.
  • إن بعض قادة «الدعوة» وكوادرها المقيمين في إيران في عهد الشاه؛ كانوا يتعاونون مع مرجعية السيد كاظم شريعتمداري؛ وهي مرجعية كانت تعارض منهجية الإمام الخميني في إسقاط النظام الشاهنشاهي. ومن هؤلاء القادة والكوادر: الشيخ محمد علي التسخيري والشيخ محمد سعيد النعماني والشيخ قاسم الحائري والشيخ محمد هادي الغروي وغيرهم؛ وكانوا يصدرون في بداية سبعينات القرن الماضي مجلة الهادي (باللغة العربية) التي تمثل مرجعية السيد شريعتمداري وتروج لنشاطاته.
  • إن أحد مؤسسي حزب الدعوة؛ وهو السيد طالب الرفاعي؛ الذي كان وكيلاً لمرجعيات النجف في القاهرة؛ هو الذي صلى على جنازة شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي في العام 1980. ولم يكن السيد طالب الرفاعي حينها على أية علاقة بالحزب وقيادته وتنظيماته؛ بل إنه ترك «الدعوة» في اواخر عقد الستينات من القرن الماضي. ويقول السيد طالب الرفاعي بهذا الصدد بأنه كان يمارس عملاً دينياً صرفاً لاعلاقة له بموقفه من الشاه والثورة الإسلامية، وانه كان مؤيداً للثورة. وأنه لم يكن مخيّراً في هذا الأمر؛ بسبب ضغط النظام المصري عليه.
  • إن تنظيمات حزب الدعوة وقادته وأعضاءه في إيران لم يشتركوا في الثورة ضد الشاه ولم يكونوا يُسهمون في المظاهرات، ولم تصدر عنهم بيانات تدعو إلى الثورة وتدعمها. وهذه الشبهة نفاها الشيخ محمد علي التسخيري؛ إذ يؤكد بأنه وقادة حزب الدعوة في إيران وكوادره وتنظيماته ظلوا يواكبون حركة الثورة ويشاركون فيها في جميع المدن الإيرانية التي يتواجدون فيها؛ ولاسيما طهران وقم ومشهد وإصفهان وشيراز؛ مشاركة مباشرة؛ وفي مقدمهم السيد محمد حسين الطهراني والسيد كاظم الحائري والشيخ محمد علي التسخيري والسيد نور الدين الاشكوري والدكتور كاظم مرتضى العسكري والشيخ محمد سعيد النعماني والدكتور محمد علي اذرشب والدكتور صباح زنكنه. وهو ما أكده أيضاً الشيخ محمد سعيد النعماني والسيد حسن شبر الذي يقول بأنه كان شاهداً على مشاركة حزب الدعوة في ثورة الإمام الخميني منذ العام 1963؛ لأنه كان منذ بداية ستينات القرن الماضي رابط تنظيم الدعوة في إيران مع القيادة.
  • إن حزب الدعوة يعدّ نفسه كياناً مستقلاً عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا يذوب في مؤسساتها المدنية والعسكرية والمرجعية، ويتصرف باستقلالية في كثير من الملفات، ولم يكن ينساق مع الظرف الشرعي بالدخول بكل ثقله وعناصره في جبهات الحرب العراقية الإيرانية؛ وأنه يدّخر عناصره إلى المستقبل؛ أي لمرحلة استلام الحكم في العراق؛ على العكس من الشخصيات والمجموعات العسكرية التي انشقت عن حزب الدعوة؛ ولاسيما المجموعة التي كانت نواة تأسيس قوات بدر. ويقول حزب الدعوة بأنه كان يتعامل بكل جدية مع موضوع المشاركة في الجهد الحربي الذي يهدف لإسقاط نظام البعث؛ ولكن على وفق لإمكاناته المتاحة، وبأن جناحه العسكري قدّم أكثر من (500) شهيد ومئات الجرحى والمعاقين.

    والمفارقة هنا؛ أن الجماعات الشيعة العراقية المتمركزة في ايران والمتخاصمة مع حزب الدعوة؛ كانت تساهم بقوة في تغذية هذه التهم ضد حزب الدعوة؛ وتركز على تجميع أي تفصيل، وتنقله إلى المسؤولين الإيرانيين؛ لتثبت لهم أن حزب الدعوة يعارض ولاية الفقيه، وهي تهمة تثير حساسية الإيرانيين؛ على الرغم من معرفة الإيرانيين التفصيلية بطبيعة الخلافات بين «الدعوة» وخصومها. فكان حزب الدعوة يدفع ثمن مقولة تبعيته لمرجعية الإمام الحكيم والإمام الخوئي ومرجعية النجف، وعدم ذوبانه في مرجعية الإمام الخميني وولايته. وحين برزت مرجعية السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر التغييرية في النجف في أواسط تسعينات القرن الماضي؛ بادر الخصوم التقليديون لحزب الدعوة إلى ضربها وتشويه سمعتها عند الإيرانيين. بينما أيد حزب الدعوة السيد محمد الصدر ومرجعيته، وكان يحاول التنسيق معه، وحماية أنصاره في الخارج، ولم يكن يرى مسوغاً لضرب السيد محمد الصدر ومرجعيته من بعض الأطراف العراقية المتواجدة في إيران.

المفارقات؛ قرائن التصاق حزب الدعوة بالمرجعية

     لسنا هنا بصدد مناقشة الجدليات والملابسات المفهومية والمصداقية التي توجه لحزب الدعوة في موضوع علاقته بالمرجعية الدينية؛ ولكننا ذكرناها لمجرد كونها مفارقات ومتعارضات، وكونها تضع «الدعوة» دائما بين خيارات محيرة، وفي دائرة محاطة بعدة نيران؛ ذلك أن جميع الإشكالات الواردة على حزب الدعوة من خصومه وأصدقائه السياسيين والدينيين الشيعة في النجف وقم وطهران وبيروت؛ تدور حول الاختلاف على تبعية حزب الدعوة لهذه المرجعية وتلك. وبالتالي؛ فإنها تؤكد متلازمة حزب الدعوة والمرجعية، وبأن تكوين حزب الدعوة ومساحة حركته لصيقان بالفضاء المرجعي، ولا يمكنهما فكرياً وواقعياً الانفكاك منه.

    صحيح أن الدعوة لم تكن يوماً حزباً تابعاً لمرجعية معينة؛ ولكن ايديولوجية حزب الدعوة لا يمكن أن تعمل بمعزل عن منظومة المرجعيات الدينية؛ لأنه حزب ديني شيعي، وفيه فقهاء وعلماء دين، وأعضاؤه متدينون ومقلدون للمرجعيات، ومساحة حركته هي المساحة الشيعية الدينية نفسها التي تمسك بها المرجعية الدينية، وأنه بحاجة دائماً إلى الإذن الشرعي؛ أي إجازة الفقيه؛ فيما يرتبط بالحقوق الشرعية والأموال والدماء وكثير من الأمور الحسبية.

     أما الالتزام بقرارات المرجعية وتوجيهاتها وإرشاداتها؛ فهو موضوع شائك جداً، ولا يجوز أن يخضع للمزايدات السياسية والمصالح الآنية والكلام الدعائي، وليس مادة للتصريحات الإعلامية والشعارات الشعبوية؛ لأن التبعية للمرجعية تستبطن أبعاداً فقهية وواقعية كثيرة؛ ترتبط بطبيعة التوجيه؛ فيما لو كان ولائياً أو إرشادياً أو رأياً سياسياً أو تكليفاً فردياً خاضعاً للتقليد، كما يرتبط بمبنى المرجع نفسه في موضوعة مساحة ولاية المرجع ونوعية إعماله لهذه الولاية، وتصديه أو عدم تصديه للشأن العام. وهو ما يختلف فيه الفقهاء والمراجع أنفسهم. ومن هنا يتعامل حزب الدعوة مع مبدإ الالتزام والتبعية للمرجعية وفقاً للأسس الفقهية المتعارفة، والمداخل الواقعية ذات العلاقة بتعدد المرجعيات، ومن منهم يجب أن يُتبع ومن لا يجب، ومصداق المرجع الأعلى مبسوط اليد؛ فضلاً عن تنوع التقليد بين الدعاة، وترك موضوع التقليد لكل داعية؛ باعتباره موضوعاَ شخصياً صرفاً؛ بل وعدم فرض مبنى فقهي محدد على الدعاة الفقهاء والمتفقهين؛ في موضوعة الولاية.

     وربما تكون مفارقة اخرى تحتاج إلى تأمل؛ أن تتهم حركة؛ كحزب الدعوة؛ بعدم التبعية للمرجعية ولعلماء الدين؛ على الرغم من أن أكثر من خمسة مراجع دين و30 مجتهداً كانوا يوماً أعضاء فيه؛ ولا يزال فيه مجتهدون وعلماء دين ومفكرون، وإن معظم علماء الدين ومشايخ حزب الدعوة هم وكلاء للمرجعيات الدينية، وإن الحوزات العلمية في النجف وقم كانت ولا تزال مليئة بالأساتذة والطلبة الدعاة، وإن الدعاة جميعاً يرجعون بالتقليد إلى المرجعيات الدينية. ولكن خصوم «الدعوة» يرددون التهم والملابسات والشبهات في هذا المجال؛ كجزء من المناكفات السياسية والتنافس على كسب المجتمع الشيعي؛ دون أخذ مصلحة الأمة والوحدة المجتمعية وتآلف أبناء المذهب والمكون الواحد بنظر الاعتبار.