تشكيلات الأنا والآخر في الشعر النسوي العراقي المعاصر ديوان "أندلسيات لجروح العراق " لبشرى البستاني... مثالاً".

الأستاذ الدكتــــــــور مُحمّد عويّد مُحمّد السّاير

 كلية التربية الأســــــــــــــــاسية / جامعــــــة الأنبار

*المدخل: مفاهيم الدراسات ومصطلحاتها:

  1. التشكيل: يُفيدنا المعجم اللغوي بأن كلمة الشكل هي " شكّل تشكيل لا شيء يصور، وشكله: صوره، وأشكل الأمر: ألتبس، وأمور أشكال ملتبسة وبعضهم أشكله"([1]).

   وبناءً على هذا المفهوم، يعدُّ الشكل " الصورة اللفظية المنطوقة أو المكتوبة على مستوى كل جزءٍ من الأجزاء التحليلية للتعبير الكلامي، أو على مستوى التعبير الكلامي "([2]), ويتضمن الشكل خواصاً مشتركة مع كل الجملُ والصيغ اللغوية والنحوية التي تساهم في معرفة ذلك التعبير الكلامي([3]), وهذه المساهمة هي التي ترسم صورة التعبير، ومن ثمّ صورة النص، وما يريده المبدع من أفكار ومعانٍ وصور أحسّ بها، وأراد نقلها إلى القارئ والمتلقي.

           ومصطلح الشكل قديمٌ في الاستعمال والدلالات، أُستعمل في الفلسفة القديمة([4])، وغاية هذا الاستعمال هو ربط الشكل بالجمال، وأن يدركَ من قبل العقل، ويفهم من جرّاء العاطفة.

  وللشكل وماهيته قيمة كبيرة في الجنس الأدبي الإبداعي، إذ هو محاولة براد بها خلق الأشكال السارة لمعبرة عن ذات (المبدع)([5])، وهو القالب أو البنية أو الصورة أو المنظومة أو الصياغة، التي ترافق ذلك الخلق، وترسم دلالته في النص والتعبير([6]).

           وأما وظيفة التشكيل فهي كامنة في " بعث الروح الجمالية فيما هو غير جمالي أصلاً، حيث تكشف طريقة العمل النسيجي الداخلي لفعاليات التشكيل عن رؤية جمالية وظيفية لا يمكن للنص أن يحصل عليها من دون حضور أصيل لنص الشكل في مراحل إنتاج النص"([7]).

    ومصطلح التشكيل دخل غريباً إلى النص الأدبي، ولاسيما النص الأدبي الحديث في الشعر والنثر، والسرد والرواية. إذ طار هذا المصطلح من الفنون الجميلة، ومن مهام الرسم إلى الأدب. وهو المصطلح الذي يهيئ فعالية التداخل الحقيقية بين الرسم وبين النص الأدبي، ويشكّل البعد الدلالي الواضح الذي يدُلّ على الحالة الشعورية لمنتج ذلك النص([8]),ومن هنا يبرز دور مصطلح التشكيل في ترتيب العلاقة بين القارئ والنص، وكشف موطن الجمال والتأثير في ضوء هذه العلاقة([9]),ومن هنا كان مصطلح التشكيل أحد العناصر الأساسية في تكوين الخطاب الأدبي بمتنه النصي، ولابد من إدراكه وفهمه وتحليله إذا أردنا فحص ذلك الخطاب في مجاله النصي، وبعده الدلالي، وتأثيره الجمالي([10]).

           وفي دراستي هذا يتعالق التشكيل، الوظيفة والقيمة الفنية الجمالية مع الذات في تصوير الآخر، ورسم تشكيلاته المختلفة كما تريدها الشاعرة بشرى البستاني، وكما هو واضح في نصوصها الشعرية في ديوانها " أندلسيات لجروح العراق". هذا العنوان يدلُّ تشكيلاً ورسماً على دلالات كثيرة ظاهرها الحزن والبكاء والألم والمرارة، وظاهرها المثاقفة في الرسم مع الأندلس، المكان الحضري التاريخي العربي المفقود، وباطنها الآخر الذي يسبب ذلك الحزن وذلك الألم وذلك البكاء وتلك المرارة، وباطنها الآخر الذي سبب ضياع ذلك البلد الجميل، والصقع البهي، ومازال يتسبب في ضياع المزيد من البلدان والأوطان في كل مكان والتشكيل في نصوص الشاعرة بشرى البستاني في ديوانها " أندلسيات لجروح العراق"، يرمز إلى الذات ( الأنا)، وإلى الآخر بأشكاله التي جاءت في هذه الدراسة.

لقد حاولت محاورة النص محاورة نقدية جمالية تكشف عن عمق وهذا الرسم هذا التشكيل عند الشاعرة لبستاني في ديوانها هذا، واستفدت من تطبيقات مناهج الدرس النقدي المعاصر، ولاسيما البنيوي، ببعض الخطابات، وبعض الرسم مع النص، إِذ رأيتها مهمة إلى حدًّ ما في كشف دلالات النص، وفتق مكنون المشاعر عند الذات ( الشاعرة)، وهي تعبّر عن نفسها، وترسم الآخر جمالياً وفنياً وشعورياً، وتقدمّه إلى القارئ كما عرفته، وما احسّت به في نفسها، ونصّها، ولوحات ذلك النص، وقيمة ذلك النص في البناء، والتعبير عن كنه المشاعر التي تختلج الذات وهي تبدع، وتكتب، وتنظم، وهذه هي وظيفة النص الأدبي، وهذه هي وظيفة التشكيل والرسم... أيضاً.

  1. 2. الأنا الذات: جاء في المعجم الوسيط أن الذات هي: " النفس والشخص، يقال في الأدب نقد ذاتي يرجع إلى ذات الشخص وانفعالاته "([11]),وتلعب دلالة الأنا الذات، لعبة دلالية مفاهيمية ذات رؤية تختلف باختلاف النص، أو بأختلاف وجهة الناقد أو الدارس وفلسفته، وثقافته المعرفية، والفكرية. ومن هنا فمصطلح الأنا، أو الذات " مصطلح مراوغ يستعصي على التعريف والحد الاصطلاحي لأنه يدخل في مشاركة كبيرة في أغلب الفروع الإنسانية مثل: ( الفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلوم العربية... ألخ)([12]), وأمّا في الاصطلاح فالذات  الأنا، هي الانبعاث النفسي لوجود الذات الذي يحدده شخص ما، أو يرسم مشاعرها تجاه هذا الانبعاث حدث ما، ويحكي هذا الرسم الانطباعات الذاتية التي تقع على الأنا، وكيف بإمكانها نقل هذه الانطباعات إلى الآخرين على سبيل البوح عن المشاعر، أو من باب المشاركة الكبرى مع ذلك الآخر، في هذه المشاعر مهما كانت حزناً أو فرحاً، سلباً أو إيجاباً.

إن التركيز على مفهوم الذات وكنه مشاعرها، هو الطريق المُعبّد الواضح الذي يوصل إلى فكّ رموز النص الأدبي الشعري، وفهم دلالاته. إن الذات المبدعة لتعيش صراعها مع الذات المبدعة في سبيل إنتاج النص الأدبي الشعري، وهي بهذا الصراع تعبّر عن مشاعرها، وتشكّل الآخر الذي يساهم اسهامة حقيقية كبيرة في هذ التعبير، ويترك النص في وجهته الصحيحة السليمة في الدلالة والتعبير. ومن هنا فالذات هي "الوجه العميق الذي يتطلب اكتشاف بعض ملامحها وسماتها الباطنية مجهوداً معرفياً وجمالياً، وتجربة حياتية صميمة متجذرة في تربة الواقع ومتواشجة مع هموم البسطاء وانشغالاتهم وعذاباتهم"([13]), ولعلّ هذا الوجه، وهذ الاكتشاف هو ما نريده من دراستنا هذا في تشكيل هذه الذات وملامحها وسماتها، وقيم أدائها الفنية والجميلة من خلال الآخر، وتأثيره عليها وعلى هذه القيم في نصّها الشعري.

  1. الآخر: يتولّد الآخر في المعاجم العربية على كثير من المصطلحات اللغوية والفلسفية والنفسية التي ترتبط دلالة وبناءً مع هذا المصطلح الواسع والكبير في الدراسة والتعريف، فهو في معجم العين: " هذا آخر، وهذه أُخرى،....، والآخر الغائب، وأمّا جماعة أُخرى ".([14]), وأما في الصحاح فقد جاء بمعناه اللغوي الذي هو : " الآخر بالفتح أحد الشيئين، وهو اسم على أفعل، والأنثى أُخرى، وأخرَ جمع أُخرى، وأخرى: تأنيث أخرَ...".([15]), وأما ما ورد في اللسان([16])، فهو لا يخرج عمّا قدمنا فيه القول من المعاجم اللغوية العربية التي سبقت صاحبه، في المعنى والدلالة.

وفي الاصطلاح، فلا بُّد لنا أن ندرك أَن الحديث عن الآخر هو الحديث عن أنا أُخرى لها منظور تعريفي تطبيقي من خلال الأنا الأولى"، "الذات المبدعة". فالآخر هو " جزءٌ من الذات، وإِن نفيه فيه بترٌ للذات... على الرغم من أنه ضروري لاكتشافها، وإِن تصور الذات لا ينفصل عن تصور الآخر" ([17]), ومن هنا فإن الذات هي التي تبني مفهوم الآخر، أو بمعنىً مغاير تقريباً، إِن الذات هي التي ترسم تشكيلات الأنا تجاه الآخر، وتساهم في تقديم صورة الآخر إلى المتلقي والقارئ والجمهور. وبناءً على هذا المفهوم ترتبط الذات  الأنا، بروابط أساسية جدلية مع الآخر، الذي يمتاز من خلال هذا الترابط بالتنوع في العلاقة، والشمول في الفهم، فالآخر قد يكون القرابة، أو الصداقة أو الجوار، أو المنافسة والخصومة والعداء، وهذا التنوع في العلائق بين الذات والآخر هو الذي يحدد دلالات النص ومشاعر المبدع، ويقصُّ علينا طبيعة العلاقات بين الأنا (الذات  الداخل)، وبين الآخر(الخارج التأثيري)، على صعيد الوعي أو في حقل السلوك والفعل([18]) . فالآخر "المطروح في السجالات والندوات هو الآخر في الهوية، والآخر في الحمولة الايدلوجية، والآخر في الدين، والآخر في الموقف السياسي، والآخر في الذوق النفسي، والآخر في المدرسة النقدية، والآخر في النهج المعرفي، والآخر في الجنس، والآخر في اللون"([19]).

تشكيلات الأنا والآخر في ديوان "أندلسيات لجروح العراق" :

أ. الأنا (الذات) ...الآخر (الرجل).

لا شكّ في أن هذه العلاقة هي أول العلائق التي تربط بين بني البشر، علاقة المرأة بالرجل، وعلاقة الرجل بالمرأة. هذه العلاقة السردية الأزلية التي شاعت وعُرفت منذ سيدنا آدم (عليه السلام)، والسيدة حوّاء وإلى يومنا هذا. تشوبها الكدر أحياناً، والخصام أحياناً أُخرى، والانتقام حيناً ثالثاً، إلّا إنّ جوهرها الحب، وأصلها الوئام، وفراقها الندم والحسرة والبكاء. ولا أدلّ على غرض الغزل في ذلك تبياناً وتوضيحاً، ولا أكبر من الرثاء لأحد الشخصين حين يموت، والشعر العربي كفيلٌ بذلك وهو به زعيم في كل عصر ومصر.

وهكذا إلى عصرنا اليوم، والحديث عنها عن الشواعر والكواتب العربيات والعراقيات على وجه التحديد، بقي الرجل المثير لعواطف المرأة حباً أو كرهاً، سلباً أو إيجاباً، بُعداً أو قرباً. ولكل نوع من هذه العواطف مثيرات، ودوافع، كما إن لكل نوع من هذه الأنواع تأثيرات وتبعات تركت بصمتها على الذات وأدبها، ونصوصها الشعرية والنثرية والسردية. ومن ذلك ما رأيته في ديوان الشاعرة بشرى البستاني " أندلسيات لجروح العراق"، تبعات وتجليات وتأثيرات جمة لهذا الآخر الرجل، وتشكيلات متنوعة للأنا، تعكس مشاعر الذات، وأزماتها النفسية المتشنجة وهي تبوح بها من خلال النص الأدبي الشعري.

في النص الشعري الأول الذي يحمل عنوان الديوان " أندلسيات لجروح العراق"، تبدو صورة الآخر  الرجل عند الشاعرة في إحدى لوحات النص، في آخر هذه اللوحة. وتُظهر الأنا مزيداً من الجراح، ومزيداً من البكاء، ومزيداً من الألم من خلال الألفاظ والتراكيب اللغة الشعرية، ومن خلال الصورة التي ترسمها هذه الألفاظ، وهذه التراكيب للذات. وما ذلك إلّا بوجود المحتل، البغيض، الذي ملّ منه الناس في وطنها، وهم يشاهدونه كل يوم بسلاحه المدجج، والمكره الذي لا يوصف. تقول:

دباباتُ الغزوِ تدورُ

يحاصرُها الغيمُ

وتُربُكها الريحُ

غبارُ الصحراءِ المجروحُ يُعاودُ ذبحي

كفني ثوبُ الجبل الفضيِّ

خفيفُ الصفافْ

سدري

تنشقُّ الأرضُ عن الشارةِ

تعطيني وهجَ الزنبقِ في عزّ الظهرِ

وأعطيها قمري..

يتلألأ فوقَ غلائلِ عمري

دمُكَ الياقوتيُّ

أكفُّكَ كانتْ وسط هدير الدباباتِ

تلامسُ خَصري؟!([20]).

تنظر إلى هذه الذات الباكية المتأزمة المتألمة بفعل هذا الضيف الحقود الظلوم. الأماكن لا تطيق هذه المشاعر، فترفض أن تكون أليفة مأنوسة محببة، لا بل هي مذبوحة، مجروحة، يزينها الدم، وترسم روحها الأغلال التي تعيش فيها كل يوم.

أما هو الآخر  الرجل، فيتضح محبوباً، قمراً، يتلألأ في آخر اللوحة، وهو أكفّه، بالجمع للدلة على القوة والإقدام وسط الدبابات، يلامس هذاك الخصر الناحل، انحله الزمن، وجنى عليه الأعداء بلا ذنب.

الرجل هنا هو المحبوب الذي تجد فيه الذات منقذاً، ومخلصاً من هذا العدو الدائر، ومن دباباته التي تقتل وتقتل بلا سحاب. هنا الصورة للآخر  الرجل، صورة متخيلة ترسمها الذات المتألمة. وهذا وبدن المرأة العربية حين ترى في الرجل، البطل المخلص، والبطل المنقذ، من كل الظروف التي تمّر بها، وبمكانها.

والشاعرة لا تنسى أن تسبغ على هذا البطل بعضاً من سمات العذاب، ومن مظاهر الألم، فتقول فيه:

دمُك الياقوتيُّ

وفيه مع العدو  السلاح والمكان:

أكفُّكَ كانتْ وسط هدير الدباباتِ

تلامسُ خَصري؟!

الأمكنة من خلال السلاح الدفاعي وبالجمع ( الدبابات)، وحركتها ( الهدير)، الألوان الدم والياقوت، رسمت صورة الآخر الرجل في هذه اللوحة، أما الأنا فبقيت تحنُّ إلى هذا القمر  الرجل ( الآخر). الذي لن يأتي إلّا مع اكتمال نصابه الشرعي والفلكي، وهو لن يأتي إلّا في صورة رجل، أو كأنه الرجل ، لما تراه هذه الأنا من أهوال ومصائب ومصاعب في بلدها المحتل السليب بلا ذنب. وتستمر صورة هذا الآخر  الرجل، وهذه الأنا الملتاعة المتأزمة النحيبة في اللوحة التي تأتي بعد هذه اللوحة مباشرة في هذ النص، وفيها تبقى هذه الأنا تعاني من هذا العدو الغاشم وما يفعله في البلاد والعباد، وتبقى الشاعرة والأديبة بشرى البستاني على استنطاق الأمكنة الطبيعية بصورة خاصة، وعلى استنطاق الزمان ولاسيما لفصل الشتاء الذي تتوافر فيه تلك الأمكنة. وهناك رسم مكثف بالألوان لتلكم الأمكنة وما فيها من حركة للطيور، و ما فيها من تشكيل لبعض الفاكهة التي تأتي عرضاً لتذكر القارئ دائماً ببلد النخيل والتمر والرطب، وبما يحدث فيه كل يوم. تقول:

 دباباتُ الحقدِ تدورُ

قميصُ حبيبي في أَعلى الدبابةِ

أعدو خلفَ عبيرِ العَرَقِ المُتصبَّبِ من كتفيهِ

وراءَ عناقيدِ الرطب المصلوبِ على عينيهِ

حبيبي يركضُ خلف رُواقٍ أخضرَ

خلفَ شتاءٍ صهوتُهُ الحبُّ

وصبوتَهُ الطيرُ الواكنُ في العشِّ

حبيبي يحملُ وسطَ عويلِ الريحْ

أورادَ الأرضِ

وحكمةَ رّبانٍ مجروحْ ...([21]).

هنا أبقت الذات على مشاعرها وعلائقها تُجاه هذا الرجل الآخر، ونعتته بالحبيب، وكررت هذا الوصف... حبيبي أكثر من مرة واحدة في هذه اللوحة. وبعدها أي بعد اللفظة المكررة يأتي الفعل المضارع الذي يدلُّ على الفعل والاستمرارية فيه، وهذا ما تريده الشاعرة من رسم صورتها الحركية المستمرة لهذا الرجل، وهذا الحبيب، الأمكنة بقت طبيعية فيها مظاهر الحركة، الريح وعويلها، الطير والعشّ، الشتاء وصهوة الحبّ، وهذا يتوافق بنائياً ودلالياً مع الأفعال المضارعة التي شاعت في اللوحة، ومع ما تريده الشاعرة من جعل الحياة مستمرة، تدور بشكل انسيابي نحو المستقبل من خلال هذا الرجل  الآخر، ومن خلال هذه الأمكنة وما فيها من حركات، وما تقوم بها شخوصها من أفعال تدل على الحركة والعمل. هي نفسها تقول عن ذاتها:

أعدو خلفَ عبيرِ العرقِ المُتصّببِ من كتفيهِ

وراءَ عناقيد الرطبِ المصلوبِ عـــلى عينيهِ

"العرق المتصبب"، هنا كناية عن التعب من ذلك العدو والجري، عناقيد الرطب المصلوب، تذكرنا بموتٍ بطيء، وبمأساة المصلوب، نشمُّ رائحة التناص الديني مع حادثة الصلب للسيد المسيح – عليه السلام-، وما تثيره تلك الحادثة ولو وهماً، بكل معاني المأساة، وتفاصيل المصائب. هذي هي تشكيلات الأنا والآخر في هذه اللوحة في نص الشاعر بشرى البستاني، إنها تشكيلات رُسمت بدقة من خلال اللغة الشعرية، والصورة ولاسيما في الكناية واللون، لتعطي صورة لآخر الرجل الحبيب، الذي أبقت فيه شاعرتنا على مشاعر المحبة والتفاؤل، علّها تخرج من واقع مظلم تعيش فيه، ويعيش فيه بلدها وشعبها ومدينتها وجامعتها، وكل ما يدور حولها، كما تدور تلك الدبابات المشؤمة بصوتها الثقيل الذي ينذر بكل معاني التدمير والقتل والإبادة.

وفي لوحة أُخرى من لوحات هذه النص الشعري الذي يبدو طويلاً نسبياً مع باقي النصوص الشعرية التي نظمتها الشاعرة بشرى البستاني في ديوانها هذا، أم في غيره من الدواوين الشعرية، تبدو صورة الرجل بادية من خلال الموروث الثقافي في صورة الرجل العالمي، وما كان عليه من إبداع، وما اشتهر به أعمال بقيت حكاية الأجيال تلو الأجيال، ومثار الفخر والاعتزاز في كل مكان وزمان، مُذ نُشرت وأُشتهرت. صورة الرجل بيكاسو، بابلو بيكاسو، ولوحته الشهيرة (غرينكا) التي تدلُّ على قصف الطائرات المعادية لبدله وشعبه الإسباني المظلوم، بقصد الترويح والاستفزاز لأهالي البلد، وبقصد التدمير والتخريب لهذا البلد الآمن المسالم آنذاك، كانت في هذه اللوحة التي تدلُّ على ثقافة واسعة وتعالق نصي مع هذا الفن التشكيلي الرائع ومع تلك اللوحة ما إِن سمعنا بها، حتى أثارت فينا الحقد لهذا العدو، ولأي عدوّ نسمع به، أو نقرأ عنه. هنا تشكيلات الأنا والآخر رُسمت من خلال هذا الرجل، وهو هنا الرجل المبدع المثقف المنافح عن قضيته، وقضية شعبه بإبداعه، وما فتح الله عليه من موهبة بقيت أسطورة الناس لسنين وسنين.  الرجل هنا ولوحته، رسما مشاعر الذات الأنا، ويكأنّ الشاعرة بشرى البستاني تستدعي هذا الرجل، وتقف بإجلالٍ واحترام أمام إبداعه ليرسم بغداد من جديد، بغداد مع هذا الظلام، ومع هذه الحرية المزيفة، ومع هذا القزم الذي يقتل ويدمر.

ولا تقف الشاعرة بشرى البستاني على التعالق الثقافي مع هذا الرجل وحرفته، وإنما تستنطق تراثها لثقافي والتاريخي وما عُرف في بلدها من موحيات هذه الثقافة، وذاك التاريخ. "بغداد" المكان، الحضارة، التاريخ. هي نقطة التحول في اللوحة إلى الأمكنة التاريخية، وما فيها من تراث، وبطولات، وحضارات. بغداد، تستدعي آشور وسومر، وتبكي معهما بحزن يدمي القلب، ويُوجع الضمير. تقول الشاعرة:

بيكاسو يرسمُ جرنيكا أخرى...

يرسمُ بغدادَ طريحةَ أقدامِ الغوغاءْ

والحرية عودْ

يعرفهُ القزمُ المؤودْ

ألواحُ متاحفِ بغدادَ بكفِّ الريحْ...

والثورُ الآشوريُّ الباسمُ مرتعبٌ

غادرَ مرتبكاً

وبكى....

في أركان المتحفِ والمنعطفاتْ

كانت قيثاراتْ

سومرَ تغرفُ لحن الحزنْ([22]).

الأمكنة هنا تاريخية بإمتياز، وهي من ماضي بلد الشاعر وتاريخها العبق. التعالق الثقافي للمكان وضح في اشطر كثيرة في اللوحة الشعرية، كانت بغداد هي الملهمة الحقيقية والطبيعية لهذا التعالق.

أما الرجل "بيكاسو"، وفنه وإبداعه، فهو الذي رسم صورة الأنا، وهو الآخر المبدع المثقف الوطني، الذي يحب بلده، ويحب الدفاع عنه، برسم صورة الأعداء القبيحة... هو ما تبحث عنه الأنا  الشاعرة، وهو ما تريد أن تصل به إلى المثقفين المبدعين الرجال من أهل بلدها وبلدتها، ليكونوا كذلك الرجل الإسباني المبدع والفنان، الذي سخّر فنه وإبداعه لوطنه في أصعب الظروف، وأكبر الأزمات.

وأما في نصّها الشعري الآخر الذي نقف عليه لنعرف تشكيلات الأنا والآخر (الرجل)، في ديوان " أندلسيات لجروح العراق"، فهو نصّها المعنون " ما روته دجلة للبحر". وهذا النص ينماز بالصور المكررة المتولدة عن الصورة الرئيسة والأولى في كل لوحة من لوحاته. النص الشعري المدونة الكلامية والإيقاعية هنا ترسم الذات في أبهى الأماكن، وأجمل الأماكن، كيف لا وقد طرح العنوان الامكنة الرومانسية الجميلة، والمبهجة في " دجلة والبحر"؟! ولا تنسى الشاعرة والأديبة بشرى البستاني دائماً أن تذكّر بمآساة بلدها، فتطغى على النص – على الرغم من رومانسيته وجمال أمكنته ودلالاتها-، الأماكن المعادية، والألفاظ التي تدلُّ على القتل، وتشير إلى العداء، تبعاً لهذا القادم من البعيد، المُستوطِن في مكان لا يصحُّ أن يكون فيه، وفي شعب لا يرضى أن يكون محتلاً ، أو مستعبداً... مهما كان العدو. الآخر الرجل، انتشر هنا وهناك بين لوحات هذا النص، حبيبي سرّ كنه الذات الأنا عند الشاعرة، هنا الذات هي التي تفدي بروحها وشخصها هذ الحبيب، كما تقول الشاعرة في إحدى اللوحات من هذا النص:

حَبيبي على قدرِ بهجةِ حُبكِّ أشعلُ عمري

وافتحُ في الكلماتِ حدائقْ

أُفصّلُ منها القصائدْ...

وأَزرعُ فيها يماماً عصيّاً

وحُزناً بهياً

ونخلاً لا يقاوم...([23]),

الذات هنا ترسم نفسها أولاً وأخيراً بهذا العنفوان الرجولي الكبير، الذي يأبى الضيم ولا يسكتُ على الظلم. الأفعال: ( افتحُ، أُفصّلُ، أزرعُ)، في بدء الأشطر جعل اللوحة في حركة مستمرة، ورسم مشاعر هذه المرأة وما تريد وهي تقاوم، وتقاوم كلما أنشدت شعراً، أو نظمت قصيدة، أو زرعت... أما الآخر  الرجل، فبرز في الشطر الأول، وابتدأ بحبيبي، الذي افتدته الشاعرة بعمرها، الذي يمتز بالعمل والجدة والحركة، كما بيّنته باقيّ الأشطر، وكما أسلفت في الحديث.

في لوحة أُخرى من هذا النص، تفصّل الأنا الحديث عن الجزئيات في هذا الحبّ لهذا الآخر الرجل. بغداد تبقى الملهمة الحقيقية لمشاعر الشاعرة، ويبدو أنها كذلك مع الجميع، من شعراء ومؤرخين ودارسين في عصرنا الراهن. الأنا هنا ترسم الرجل من خلال الحبّ، ومن خلال لعبة الحرب والبحر، ليس اللعبة اللفظية من خلال الجناس فقط، وإنما اللعبة الدلالية، والشعورية للّفظتين كلتيهما، وفيهما ما فيهما من فوارق ودلالات يعرفها الجميع، وتسعى إلى بيانها الشاعرةُ بشرى البستاني وهي تنظم هذه اللوحة، وتأتي بهذه الألفاظ بوعي شعري وشعوري كامل كامل، كما تقول:

تجيءُ إِليّ

وبغددُ أجملُ

بغداد أشهى...

أفصّلُ قلبي على قدرِ حبّكَ

يشهدُ قلبُكَ

حُبّكَ أكبرُ

قلبي أبهى

ويتسّعان، يضيقُ المدى

في الهزيع الأخيرِ دنا البحرُ،

 شبَّ دمُ الحربِ

حينَ دَنا البحرُ

قامت سكاكين خيبرَ

حين نأى البحرُ نامَ الدليلْ

فلا تجرح البحرَ إن الغيومَ تُطهَّرِهُ

وعلى شاطئيه تشبُ الأوجاعُ

ملغومةً باللظى... ([24]).

على الرغم من الإيقاعات الداخلية المنتشرة في اللوحة الشعرية من الجناس في: (البحر والحرب، شبّ وتشبّ، نأى ونام)، وفي التضاد: (يتسع ويضيق، قام ونام)، وفي التكرار في الألفاظ: (البحر، بغداد، حين)، في العبارات: (دنا البحر)، إلّا إن اللوحة بقت بعيدة عن معاني الحب، ومعاني التفاؤل، وظلت في لغة عالية يشوبها التشاؤم، ويخيم عليها العداء والحقد، وهو ما كان مع خاتمتها ونهايتها. الايقاعات رسمت جوّاً مطرباً في القصيدة، الأماكن عكست أهمية العنوان الأول والرئيس للنص الشعري عند الشاعرة بشرى البستاني في ديوانها هذا، إلّا إنّ تشكيلات الأنا والآخر، أحكمتها صورة الرجل الذي تخفّى أمام الألفاظ الأولى في اللوحة، وبقي هو المثير والمشجع لإكمالها على الوجه الذي ارتضته الشاعرة. الأنا، وقفت تستنطق الليل في هزيعه الأخير، ذلك الأخير الذي فيه نسمات الفجر، ورائحة الصباح لعلّها تبعث على التفاؤل والأمل بيوم جديد. الأنا، وقفت أمام التراث الديني، وذلك الموروث الإسلامي الكبير الذي ننسى جُلّه اليوم بخيبر وفتحها، والبشارة بهذا الفتح، وبقدوم جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)، والفرح الكبير بذلك الفتح والقدوم، فهل يكون مع فاتح بغداد الجديد؟! ومحررها المغوار؟! متى وكيف...؟!؟! الأنا، بثّت هذه اللواعج، وتلك اللظى الملغومة كناية في النصب والجهد والتعب من الواقع المعيش، ومن المكان المعيش، ومن الزمن المعيش. أمام الآخر فبقي مع كل هذه المشاعر ، في ذلك القلب الكبير، النابض بالحبّ والحياة، والوفاء.

في لوحة أُخرى من هذا النص، يبدو الآخر الرجل، جلياً بصورته المعتادة. واللوحة هنا اتجهت نحو القاع المزري الذي تمرُّ به البلاد العربية، والعواصم العربية كما في بغداد والشام. الإيقاعات الداخلية موزونة ابقت على نغم مطرب داخل اللوحة، وساعدت في رسم تشكيلات الأنا والآخر من خلال الموسيقى المتحركة داخل الأسطر. الصورة توليدية أُخذت من الأمكنة الطبيعية ولاسيما البحار والشجر والصحاري، أما الزمن فهو زمن الذبح والقتل – كما تصوره الشاعرة-، هو زمن العدو، والقتل. تقول:

حبيبي

اليماماتُ تزرعُ قمحاً بشاطئِ دجلةَ

تغرفُ ورداً على جُرفها

شجرُ الشِّيح يسألُ عن عطرهِ

وتباريحهِ،

عن عناقيدِ صبوتهِ في الظلامْ

وبغدادُ مذبوحةٌ في الطريق إِلى الشامْ

منفّيةً في الصحارى يواقيتُها

وكواكبُ من حطبٍ حُورُها

دمعُها بجعٌ يابسٌ

وهواها أغتيال...([25]).

بكل هذا التشاؤم ترسم الأنا نفسها، تصل القمة في البكاء والنحيب والعويل في قولها:

دمعُها بجعٌ يابسٌ

وهواها إغتيال...

الألفاظ هنا تواجدت مع كلمة "حبيبي"، إذ لا حبيب ولا حبّ؟! أما الدلالات واضحة بيّنة من الأمكنة في بغداد والشام، فأين الحبّ في هذا الزمان؟! وأين من يحبُّ في هذه الأمكنة؟! الأنا ترسم الآخر بكلمة واحدة هي" حبيبي"، هذا الآخر الرجل الذي يغيبُ كليّاً عن النص لفظاً ودلالة وشعوراً، ويبقى في ذاكرة الشاعرة فقط، فهو الذي يفتتح باقي النص، وبذكره تنفتق هذه المشاعر عن القلب، لتكون بكل هذه الألفاظ، وتراكيبها، وصورها، ودلالات، وإيقاعاتها. تشكيلات الأنا الآخر الرجل، الحبيب، العشيق، في هذا النصف يظهر ويختفي بحسب دلالة كل لوحة. والأنا لا تنفكّ عن قيمها، ومبادئها التي يجب أن يعرفها هذا الآخر  الرجل (الحبيب)، مهما كان، وأنى كان. فهي تريدُ أن تذكره بكل هذه المعاناة، وتريد أن تحاوره، بكل هذه المآسي التي تحدث في هذه البلدان وغيرها، ليكون بقدر التحمل، وبعين المسؤولية، وليبقى الحبيب، والحبيب على كل الأحوال.

وفي نصّها الشعري الآخر، والذي وضعت له عنواناً هو "صواريخ آخر الليل"، تبدو صورة الآخر الرجل بادية ومنتشرة في لوحات النص هذا، وهي تسمه بـ"حبيبي"، وتسبغ عليه سمات الحبّ، ومظاهر الأُلفة، وحسن المعشر، وتمضي ترمم مملكة الحبيب هذه، فتأتي بأنهارها، وحريرها، ومكانها. ومن ثمَّ تصفُ وجه الحبيب، وصوته، ومكانته من خلال مشاعر الأنا التي عبّرت عن الآخر الرجل  الحبيب العشيق، وعن ما تحمله هذه الذات من أزمات في الواقع تحاول الهروب منها، ومنه إلى الآخر الرجل، الحبيب، وإلى ذكريات ذلك الحب، وما فيه من علائق المحبة، ووشائج التفاؤل والفرح، ولو في الشعر  فقط، ولو في ألفاظه وصوره وموسيقاه فقط. تقول الشاعرة بشرى البستاني في لوحة من نصّها الشعري "صواريخ آخر الليل"، راسمة الآخر الرجل، واسمته بالحبيب، مملكة ومكاناً ومحبةً ووئاماً:

وحبيبي،

حبيبي...

القطاراتُ،

منتصفُ الليلِ،

وجهك....

منتصفُ القلبِ...

صوتُكَ غابٌ من الأرجوانِ

وليلةُ حمَّى،

ومملكةٌ تتفق أنهارُها لؤلواً

ولهيبَ حريرْ

وصوتُكَ يدفعُ عني حرائقَ غارةِ

فجرٍ ستأتي

عبرتُ...([26]).

تمضي الشاعرة بشرى البستاني في رسم تشكيلات الأنا والآخر في هذه اللوحة من هذا النص الشعري الذي حمل العنوان بدءاً معنى العدو، ورسم صواريخه في آخر الليل. صورة الليل الأخير هذه تتكرر عند الشاعرة نوعاً ما في ديوانها هذا، وفي أثناء قصائده ونصوصه الشعرية.

التشكيلات الموسومة للذات والآخر في هذه اللوحة متنوعة مرة بالإيقاع الصوتي الداخلي، الإيقاع المتحرك بأنواعه وفنونه، ومرة بالبيان ولاسيما في الاستعارة، وثالثة بالصور الحسية ولاسيما البصرية والسمعية.

التكرار يبدو جلياً في رسم هذه التشكيلات، يلعب مفارقة صوتية دلالية هذا التكرار في مثل قول الشاعرة في لوحتها هذه:

                                 القطاراتُ،

   أمكنة متخيلة                منتصفُ الليلِ                 

(الآخر الموصوف)            وجهُكَ....                  التكرار اللفظي( الذات).

                                 منتصف القلبِ

هنا المنتصف في الزمان  الليل.

والمنتصف في المكان  القلب. تكراران يرسمان الذات وما تعانيه بين الزمان والمكان.

وأما القطارات ( مكان متحرك صناعي)، والوجه ( المكان الطبيعي الإنسان  الرجل)، فهما الآخر الذي تريد الشاعرة وصفه، وتقريبه إلى المتلقي بكل الوسائل. الآخر يبرز من خلال الذات. وهذا ما توحي إليه الفلسفة دائماً، فالغير هو الأنا والذات هو الآخر بكل أشكاله. الصوت هنا لهذا الآخر  الرجل، وما فيه من عنفوان مسكت للجميع، وما فيه من قوة وطاقة تدافع عن الشاعرة بكل الأحوال والمصاعب التكرار والصورة الصوتية السمعية والألوان ( الارجوان، الحرائق)، والاستعارات (غابٌ، يدفع عني)، وسائل ومظاهر فنية ساهمت في رسم تشكيلات الأنا والآخر في هذه اللوحة. ولاسيما إذا أعدنا ما قالت:

صوتُكَ غابٌ من الأرجوانِ

   التكرار اللفظي              وليلةُ حمَّى،                                       جمل معطوفة

"الصوت + اللون+           ومملكةٌ تتفق أنهارُها لؤلواً                      "تكثيف الصورة لرسم

     الاستعارة".                       ولهيبَ حريرْ                              الأنا والآخر".

وصوتُكَ يدفعُ عني حرائقَ غارةِ

فجرٍ ستأتي

والشاعرة هنا تبقي على أثر الأمكنة المختلفة في رسم ذلك التشكيل الشعوري بين الأنا والآخر، وتبقي أيضاً على أثر الليلة الموشحة بالحمى، ولاسيما أنها ستكون في آخر الليل لتوافق هذه اللعينة، وتوافق تلك الصواريخ التي تسقط آخر كل ليلة، فالشاعرة هنا سخّرت كل الفنون، وأنواع البيان، والمظاهر الدلالية والبنائية لرسم هذا التشكيل الشعوري والدلالي بين ذاتها وبين الرجل، ولعلّها احسنت، ونظنُّ أنها أحسنت.

في نصّها الموسوم بـ:" مائدة الخمر تدور"، تأتي الشاعرة بشرى البستاني في مدونتها الكلامية والإيقاعية، النص الشعري، في آخر لوحاتها بصورة الرجل، وبكلمة " أحبكْ". إنها لا تقول هذه اللفظة مهما كانت إلّا لمن تحب وتخلص له في هذا الحب. والشاعرة ترسم مفارقات لفظية، فيها نوع من أنواع الفلسفة الحياتية المعيشية التي تتركها الثقافة وسعة التجارب في الحياة، وكثرة الاطلاع على الموروث الثقافي العربي ولاسيما الشعري والتاريخي. وهي في تشكيلات الذات والآخر الرجل في هذه اللوحة تخفي صورة الآخر تماماً وراء مشاعرها، وتأتي به مع كنايات ذوات دلالات بعيدة أحياناً، وتأتي به من خلال الأفعال التي لا يقوم بها إلّا الرجل، من يخرجها من الأرض إلى الأرض، ومن تشعر معه بالأمل لتكتب اسمه وما تشعره به فوق الأقداح، إنه الرجل البطل المنقذ التي تأتي بصوره كثيراً، وتسعى لئن يكون واقعاً نحسُّه، ونطمأن بالعيش معه، ولأجله فقط نقول "نحبك". تقول الشاعر في لوحتها الشعرية هذه:

مائدةُ الصبرِ تدورْ

أستلقي تحتَ سريرِ الريح

فتُخرجني الأرضُ من الأرضِ

وأَخرجُها من كأسي

ترقبني عينُ الصيادِ،

وتقتنصُ الكاسْ

اكتبُ بالخمرةِ فوقَ الأَقداحِ:

أُحبكْ...([27]).

وأما في نصّها الشعري "أحزان بلقيس"، والذي نشمُّ منه رائحة التناص الديني واستلام معاني ودلالات الآيات القرآنية الكريمة في سورة "النمل"، وأن الذات هنا هي من استوحت الآخر الرجل، وعدتّه المخلص لها والمنقذ من الواقع، ومن الناس من حولها مع ملاحظة الفوارق بين بلقيس وبين الشاعرة وبين سيدنا سليمان (عليه السلام)، وبين الرجل الذي ترسمه الشاعرة بشرى البستاني، أو تريد رسمه للقارئ والمتلقي.

هذا التعالق النصي مع الآيات الكريمة ومن أول العنوان، فتح الباب الواسع لرسم تشكيلات الأنا والآخر الرجل في هذا النص الشعري. فالرجل هنا هو من تفديه الذات، ومن تسمه بالحبيب. هذا الحبيب الذي صبر على الجوع والضيم، ليلاقي المكافأة السخيّة بهذه الصواريخ، وهذا الموت الذي يحدث كل يوم في أرض الشاعرة ومكانها وبلدها.

الذات هنا، ومن خلال نصّها الشعري هذا تهرب إلى تلك الزاوية المضيئة، وذلك النور الذي يؤثر الآخرين على نفسه، ألا وهو الرجل، هو الآخر، هو الحبيب، هو الصابر المحتسب، هو القاهر للظلام، المقاوم للعدو، هو الذي يموت ولا يُذلُّ.

ويبدو الرسم لهذه التشكيلات، ولهذه اللوحة بصورة واقعية، ليست فيها وسائل الرسم والتصوير التزويقية، من البيان والحواس والألوان إلّا قليلاً. فالشاعرة تعود إلى ذاكرة الحصار الذي مرّ ببلدها وبشعبها، وإلى ذلك الظلم الذي أفقد الكثيرين حياتهم من أبناء هذا الشعب. تبقى بعض الإيقاعات المتحركة، ولاسيما في التكرار تساهم في رسم تشكيلات الأنا والآخر  الرجل في هذه اللوحة، التي أتت بين لوحات النص الأخرى، وتلكم اللوحات تفيض باستعمال التاريخ، وتؤثر الواقعية في الرسم واللفظ، لتكون حسنة التعبير عمّا تشعر به الذات، وما تحسُّه، وما تريده أن تنقله إلى الآخرين، كما شعرت، وأحسّت.

تقول الشاعرة بشرى البستاني في لوحتها هذه:

كان حبيبي يبيعُ قلائدَ عمري                                حبيبي ( الآخر الرجل المنقذ).

وأسورتي ليرمَّم جوعَ الحصارِ

مياهُ المدينةِ كانت ترواغُ                                  أماكن معادية، ومُشعرة بالعداء.

كلَّ صباحٍ تنثُّ الصواريخ موتاً جديدْ

والصواريخُ تتبعني

تتربّصُ في كتبي                                              افعال تدلّ على الحركة

وتُشاغل أُمنيتي                                                       والاستمرار لهذه

وتداهمُ غرفةَ نومي عليّ                                             الصواريخ.

الصواريخُ.. آهْ..([28]).

وأمّا في نصّها الشعري الآخر في ديوانها " أندلسيات لجروح العراق"، والذي وسمته الشاعرة بشرى البستاني بـ: "النخيل"، فيبدو الرجل، وتبدو صورته طاغية على هذا النص. وتبدو التشكيلات بين هذا الآخر الرجل، وبين الأنا متنوعة الرسم، والوظيفة والدلالة. والشاعرة هنا تميل إلى البناء الدائري للنص الشعري الحديث. تبدأ النص بلوحة تخاطب فيها هذا الآخر مخاطبة روحية، وتطالبه بعدم المغادرة، وتأتي بألفاظ وتراكيب فيها الفزع والخوف حتى تؤكد لحبيبها جدوى بقائه معها، ولماذا لا تريده أن يغادر من حياتها، مهما كانت الأسباب.

هذا ما أباح به مكنون اللوحة الأولى عند الشاعرة بشرى البستاني في نصّها هذا، وهو- من جملة الدلالة والمضمون والألفاظ والتراكيب-، ما كان في مضمون اللوحة الأخيرة في النص الشعري نفسه، وإليك اللوحتان معاً:

تقول الشاعرة في اللوحة الأولى:                                تقول الشاعرة في اللوحة الأخيرة:

لا تغادرْني إلى الظلمةِ                                                لا تغادرْني

تلتفُّ مع البردِ الحقولْ                                               ذراعاك شراعٌ فوقَ خصري

بأسها..                                                                لا تغادرْني

وأنا بالوجدِ ألتفُّ             عداء                                   تدورُ الأرضُ ما بين منافيكَ..

وبالوحشة                                                             وصبري

والليلِ العَذولْ..       عداء                                          لم تكنْ سجناً

لا تغادرْني                                                             ولا منفىً

الفصولْ                                                                ولكني سجنتُ

حفرتْ آخر قبلةْ                                                       لا تغادرْني..

فوق جيدي                                                            أتيتُ.. .

       ورأت كيفَ يُراقُ المستحيلْ([29]).     

        لا تغادرْني

        أتيتُ ([30]).

تنتشر في اللوحتين سمات العداء والألم في الأماكن، والأزمان، والمشاعر، والصور، والألفاظ. والتكرار بـ ( لا تغادرني)، هو الذي يسوّغ هذ العداء وهذا الألم حتى تصل الشاعرة إلى إقناع هذ الآخر  الرجل بالبقاء وعدم المغادرة منها. وتبدو اللوحة الأولى قاسية مع الزمن من خلال ألفاظها التي انتشرت فيها مثل: ( الظلمة، البرد، الليل، الفصول)، وهذه القساوة تمثلت في رسم هذه الألفاظ ووصفها عند الشاعرة مثل: (البأس، الوجد، الوحشة، العذول، المستحيل). ولعلّ هذه وطأة الزمن المعيش عند الشاعرة، وكيف كانت هذه الفصول، وذلك البرد، وذلك الليل في حياتها، ربما يكون الجميع في ظلام، وبرد، ووحشة، وبأس، كما تريد الشاعرة أن تعبّر عنها في لوحتها هذه.

في اللوحة الأخرى، الأخيرة من نصّها الشعري، تجلّى المكان أيضاً بصورته العدائية، وبألفاظه التي تصوّر الألم والحزن عند الشاعرة، وعند أيّ انسان كان على وجه الأرض. وهذه الأماكن المعادية التي انتشرت وشاعت في هذه اللوحة من نصّها هي:

(المنافي، السجن، المنفى)، وتتكرر هذه الألفاظ ومدلولاتها في هذه اللوحة لتسيطر عليها كلياً، لتؤكد أحقية هذا الرجل بالبقاء مع الذات الباكية المتألمة المتأزمة من الزمان والمكان، وتطلب منه بإصرار وتأكيد عدم المغادرة مهما كان. وتنفرج اللوحتان بكلمة ( أتيتُ)، في آخر اللوحة الأخيرة، وهي آخر لفظة في النص، وتعمل معها الشاعرة مفارقة لفظية غايتها التأكيد على عدم المغادرة، وفي الوقت نفسه تبشرنا بقدوم هذا الآخر  الرجل، وفي هذه البشارة ما يدلُّ على البقاء وعدم المغادرة ثانية من قبل هذ الرجل، وهو ما تسعى إليه الشاعرة من أول النص إلى آخره. يتأكد لنا ذلك بقولها:

لا تغادرني          ..                 مساحة قصيرة من خلال علامات الترقيم.

أَتيتُ              ..    .              كبرت المساحة بين الأنا والآخر، بعلامات الترقيم.

لا تغادرني        ..    .              المساحة متوازية تدل على اللقاء بين لأنا والآخر.

أتيتُ                 .                 نهاية النص، توقع اللقاء والبقاء بين الأنا والآخر.

ويأتي الآخر  الرجل، وترسم الشاعرة صورتها من خلال الأنا (الذات) إلى الغير في أكثر من لوحة واحدة في هذا النص-كما ذكرتُ آنفاً-. ففي لوحة أُخرى يأتي الحوار بين الأنا والآخر  الرجل، ليساهم بشكل كبير وواضح في رسم هذه العلائق بين الأثنين، ويوحي بالدلالات المشتركة بينهما التي تكشف هذا الإسهام. تقول في لوحة من لوحات هذا النصّ:

وصوتُه كان يُسرّحُ شعر البوادي

ويضفرُ أَحزانها

صوتهُ كانَ يلتمُّ في الليلِ

يبني لها قبةً من عبيرٍ

أَمجنونةٌ أنتِ

قلت: نعم

واستفاق على صدرهِ قمرٌ من بكاءْ([31]).

ويبدو الحوار الداخلي بصورة أكثر من رائعة بين الذات والآخر  الرجل في لوحة شعرية أُخرى من لوحات هذا النص. هذا الحوار الذي يكشف تشكيلات الأنا والآخر عند الشاعرة، ويساهم في نقل تجربتها الشعورية إلى الآخرين من خلال إحدى وسائل السرد والمهمة ألا وهي "الحوار".

ولا أنسى أن أذكر بالقول إن الشاعر هنا اهتمت بالنواحي الصوتية والإيقاعية في اللوحة وهي ترسم صورة الأنا والآخر  الرجل، إذ تبدو القوافي متداخلة، أفادها التكرار في بعض الألفاظ ليزيدها قوة وشدة. وفي البعض الآخر متراكبة تأتي بالحرف المهوس اللين، ليناسب هذه الجراح، وهذ الصمت، وليوافق مشاعر الأثنين (الذات والآخر) إلى حد كبير، وهما يتحاورن، ويحّبان الموت، ويستعذبان الألم، مادامَ واقعاً في بلدهما، ومكانهما، ومشاعرهما.

تقول الشاعرة بشرى البستاني من لوحتها هذه:

صمتُ زنديكَ على خصري يصيحْ

  • هل تحبُّ الصمتَ
  • سيدتي عطركِ مرمرَ الروحِ

وإذ أهوي لقاعِ النارِ

أهوي..

لجةُ الموتِ الفسيحْ

نشوةُ الموتِ

وياقوتٌ ينثُّ الضوءَ

فوقَ الجسدِ الفادحِ بالوردِ

وماءِ الجرح

فوقَ القمرِ الطافحِ تفاحاً جريحْ([32]).

وأمّا في نصّها الشعري "الريح"، فيبدو النصّ متشاكلاً كلياً مضموناً وبنية ودلالة مع هذا العنوان، ومع ما تثيره هذه الريح. إذ هبت بعواصف سافية أتت على المشاعر كلّها بين الأثنين، الأنا والآخر الرجل.

والتكرار بالعبارة "ما قال ..أحبيني.. "، هو من ينقل إلينا هذه التشكيلات التي تريدها الشاعرة، وهو من ساهم في رسم الصورة ودلالاتها، وهو أيضاً ما أباح عن مكنون مشاعر الشاعرة في حياتها ومعاشها تُجاه الآخر الرجل. تقول في نصها "الريح":

التكرار وعلامات الترقيم             ما قال .. أحبيني..

  الصورة البيانية                     ابتسمت عيناهِ

                                      وفرّ الصفوعُ من الأَفلاكِ

توليد الصور مع التكرار             ونامَ عبيرُ التاريخْ ..

                                فوقَ ذراعي..

التكرار وعلامات الترقيم                     ما قال.. أحبيني..

   الصور الحسية                             شرقت عيناها.

                                              ومضى يقرأ في كفّيها الرملَ

التكرار وأثره في رسم الصور              وإيقاعَ الصَّبواتْ

التكرار وعلامات الترقيم                     ما قالَ.. أحبيني..

                                               قال جداري كوني يا سيدةَ

    الصورة البيانية                          الموج،

                                              وفارغة الغاباتْ

   استنطاق الجامد                          لم يسمعْ ما قالته الريحُ،

      "الأماكن"                              مضى قبل غوايتها..

خاتمة                                أبقتْ بينَ يديه ..

مؤلمة                               شيئاً من برقٍ

     نهاية مفتوحة                          وأنيناً مجروحْ ..([33]).

هذي كانت أغلب النصوص الشعرية التي رسمت تشكيلات الأنا والآخر الرجل، بدا هذا الأخير متخفياً في بعض النصوص، وظاهراً في نصوص شعرية أُخرى عند الشاعرة بشرى البستاني في ديوانها هذا. ومع هذا الخفاء، أو مع ذاك الظهور، رسمت الذات مشاعر مختلفة لهذا الآخر، أغلبها كان في الحب، ونعته بالحبيب، وتمني الحياة بقربه والبقاء معه في حياة لم تعرف طعم السعادة والفرح والتفاؤل إلّا قليلاً. وبقيت هذه التشكيلات، على الرغم من الاتجاهات الوجدانية المحببة التي تربط علاقات الرجل بالمرأة، توحي بالعداء، وتُشعر بالقسوة والحزن والألم، وما ذلك إلّا للواقع الذي عاشت فيهَ  الشاعر، والبلد الذي عانى ما عانى من الضيم والظلم والظلام.

لقد كانت الشاعرة البستاني صادقة مخلصة لأدبها وموضوعها في طرح علاقاتها مع الرجل، وهذا الآخر هو الذي رسم الأنا التي بدت باكية متألمة في الكثير من أحوالها، وهيئاتها حتى مع الحب، ومع الغزل، ومع الحبيب الذي كان فلسفة خاصة في رؤية الشاعرة والأديبة البستاني في شعرها ونصوصها في ديوانها. فلسفة أُخذت من حياة مريرة في آخرها، ومن ظروف أليمة لم تترك الشاعرة في أمل وابتسام، حتى مع ذلك الحبيب.

ب. الأنا ( الذات)... الآخر (العدو).

منذ القدم والإنسان يعيش على هذه الحياة بحرية ووئام وتآلف. تآلف مع جنسه من بني البشر، وتآلف مع الطبيعة بكل مسمياتها، وتآلف مع باقي المخلوقات ولاسيما من الحيوانات، من الدواجن إلى الطيور... وغيرها. ولا يخلو هذا التآلف من منغصّات جمة تفرضها أحياناً مظاهر الطبيعة القاسية، وحكمة الله – سبحانه وتعالى – فيها، ومن تصرفات بني البشر الاستبدادية التوسعية على حساب البعض الآخر، لتنتج هذه المنغصات سمات العداء والكره، مرة للزمان الذي يعيش فيه الناس، ومرة للمكان الذي يحيا عليه بعض الناس، وثالثة لبعض البشر الذين يحاولون اغتصاب حقوق الآخرين، وتملكها بالقوة والبطش والاستبداد. صورة العدو الآخر، رُسمت بأشكال مختلفة، ووسائل شتى، ولكن هذه الأشكال، وتلكم الوسائل لا تبعد أن تجعل هذا العدو بصورته الحقيقية القبيحة، المستكرهة، التي تستحق منا كل الحقد، والكره، والبغض، والمقاومة والطرد. والشاعرة(الذات الأنا)،بشرى البستاني عانت كثيراً من هذا العدو، ومن هذا الآخر. فأصبح جزءاً من حياتها، وكيانها، وشخصيتها، ما تلبث أن تلعنه بمشاعرها الصادقة، وتدعو إلى مقاومته في أدبها، الشعري والنثري، وبكل ما أُوتيت من وسائل المقاومة في هذا الأدب، اللغوية، والفنية، والدلالية، والسردية، والإيقاعية. ومن هنا شاعت الصور القبيحة والمأساوية لهذا الآخر العدو، ولأفعاله في البلاد، التي لا تخرج عن هوياته المحمودة المعروفة المشهورة في القتل والذبح والسفك والنهب؟!

لقد تمّيزت الشاعرة بشرى البستاني في ديوانها هذا، وفي أغلب نصوصه الشعرية، بالتذكير والحثّ، التذكير لما كان من هذا العدو المحتل من أفعال شنيعة يندى لها جبين الإنسانية الناصع بالمحبة والأُلفة. وكانت أقواله تناقض، وتتضاد مع أفعاله بصورة كلية، والكل يعلم ذلك جلياً. والحثّ على المقاومة، وعلى رسم صورة الآخر العدو بأبشع الصور، في ميادين الإنسان الإبداعية المختلفة، حتى نوفي حقها ونحفظ لبلدنا وشعبنا كرامته، وحقّه في العيش والبقاء، وكذلك حتى تُوضّح الصورة الحقيقية لهذا المحتل، ولهذا العدو لشعوب وبلدان العالم الأُخرى التي طالما ما يحاول خداعها، بمثل ما خدع به شعبها وبلدها، من شعارات وهتافات جنت على ذلك الشعب، ودمّرت هذا البلد. الذات هنا في نحيبٍ مستمر، دائم، وشكوى عظيمة لما خلّفه هذا الآخر من تبعات ثقيلة أتت على كلّ شيءٍ أخضر في حياتها، وأتت على كل فرح، وأنهت كل سعادة. فالباقي من هذه السعادة لا تعدو المشاعر الآنية التي لا تستغرق إلّا اللحظات، والباقي من هذا الفرح لا يعدو الابتسامة بالوجه والحركات، أما القلب فيه ما فيه، وأما العقل فبه ما به...؟!؟! وديوان "أندلسيات لجروح العراق"، يحمل مشاعر الذات جملة وتفصيلاً تُجاه هذا الآخر، فالأندلسيات ذكرى لذلك المكان الخالد "الأندلس"، ولتلك الحضارة التي بناها وشيّدها الأجداد العظام، وضيعها الاحفاد الصغار. والجروح كثيرة في هذا العراق، لا نملُّ من سردها، والحديث عنها للأجيال القادمة، فمن أين نبدأ، وإلى اين ننتهي من جراحك يا عراق... لا أدري؟!

إنّ نظرة عجلى لما فيه هذا الديوان من نصوص شعرية، لتضعنا أمام تشكيلات الأنا والآخر  العدو، في شعر الشاعرة بشرى البستاني. ولعلّ كثيراً  من هذه التشكيلات وضحت في تشكيلات الأنا والآخر  الرجل، وستتضح بعضها، أو ما يتبقى منها مع الذات والآخر المجتمع. إلّا إن التركيز على بعض هاته النصوص في هذا القسم من الدراسة مهم وضروري، ولا أُريد الاستطراد في كثرة النصوص في الشواهد والتحليل في هذا القسم ، فهي تتضح بعداً ودلالة وتركيباً مع القسمين الآخرين، وهي ما تأتي بأكثر المشاعر والصور والدلالات في شعر الشاعرة البستاني، سواءٌ أكان في هذا الديوان الشعري، أم في غيره من الدواوين الشعرية التي نظمتها الشاعرة، ونشرتها واشهرتها للقرّاء.   في النص الشعري الأول والذي حمل عنوان الديوان " أندلسيات لجروح العراق"، وهو عنوان هذا النص نفسه، تنفتح اللوحات الشعرية بداخله على تشكيلات الأنا والآخر  العدو، بكل التفاصيل، وأغلب الوسائل. اللوحة الأولى من هذا النص الشعري المحبوك لغة، وصورة، وصوتاً، وإيقاعا، تضعنا الشاعرة بشرى البستاني أمام الذات التي تعمل في هذا الضيم، وفي هذا الظلم، مع هذا العدو، ومع أفعاله التي أصبحت لا تطاق، ولا تُحتمل.

وهذه الذات ( الشاعرة)، التي يبرز فيها صوت الأنا، وتعلو فيها صورتها، هي التي ترسم الآخر  العدو، وتُزيّن تشكيلاته في الصورة واللغة والأصوات، لتكونّ لنا صورة قاتمة لهذا العدو، من أول لوحة من لوحات النص الشعري.

والشاعرة في هذا التشكيل، تستنطق الأمكنة باختلافها، وتأتي ببغداد وآشور، الدنيا والآخرة في نظرها، وأما الافتتاح بالعبارة "دبابات الغزو تدور"، فكان افتتاحاً مُكرراً مع كل لوحة من لوحات هذا النص، تكرار بنائي ينفتح على صور ودلالات عدة في كل لوحة من لوحات لنص، التي تختلف تصويراً ومدلولاً طبعاً، ولكنها تتوحد في المشاعر والأحاسيس لما تعنيه الذات، ولما تحاول رسمه للآخر  العدو، في أقسى صوره، وفي أفزع أشكاله. تقول الشاعرة بشرى البستاني في لوحتها هذه:

دباباتُ الغزو تدورُ

                                                تُسائلُني الأسلحةَ العزلاءُ عن السرّ

  الذات                                                وأسألُها عن نبضِ الفجرِ

(الشاعرة)                                     وأجثو عندَ خزائنِ بغدادَ وآشور

 الباكية                                                أمسكُ قلبي من وجعِ التفاحِ

                                                عناقيدُ النخلِ على الأعوادِ

                                                الكابوسُ يعاودني

                                                وأشهقُ في قاع الجبِّ

   الذات                                       وأبحثُ عن سيارة أَهلي

( الشاعرة)                                    اسألُ غُصنين ينامانِ

 الوحيدة                                       على  صدري..

من قصة سيدنا يوسف (عليه السلام)عن سرّ الجبلِ الصامت في قلب الصحراءْ

                                                أرقى درجاتِ الوجدْ

                                                مُغمضة العينين

الذات الشاعرة المتأمّلة بالفرح                   وأُمسكُ برقَ البلورْ...([34]).

انتثرت الأماكن هنا وهناك بشكل كبير في هذه اللوحة، وهي واضحة بيّنة في الأماكن الطبيعية، ذات المدلولات التآلفية المعيشة، حتى مع هذا العدو  الآخر، ومع ما يحدثه فينا من مشاعر تمتاز كثيراً بالحزن والألم والظلم والبكاء.

التعالق النصي مع الآيات القرآنية الكريمة في قصة سيدنا يوسف "عليه السلام"، زاد من تصوير مشاعر الذات، وتركها في وحدة وبكاء، تسعى إليها الشاعرة، وتريدها من خلال المجيء به في أول لوحة من لوحات هذا النص الشعري الطويل نسبياً في ديوان الشاعرة هذا، عمّا في باقي دواوينها.

التعالق النصي هذا، ساهم كثيراً في رسم تشكيلات الأنا والآخر العدو في هذه اللوحة، وهو الذي أفاض بكل تلك المشاعر والبوح بها، مما تعانيه الذات (الشاعرة).

ولا أنسى أن أذكّر أن قصة سيدنا يوسف (عليه السلام)، مشهورة ويعرفها الكثيرون حتى من غير ابناء الاسلام، ومن هنا كان هذا التعالق الديني مع النص الأدبي، بؤرة النص، والمثير للأهتمام عند القارئ، كما إنه من أباح عن مكنون مشاعر الذات  وعن سرّ بكائها وحزنها وألمها تُجاه هذا الآخر  العدو، كما كان ذلك الجب، وكما كانت تلك الحادثة التي تثر فينا دائماً وأبداً مشاعر الكره والبغض لما يفعله الأخوة، ولما يفعله الحقد والحسد في قلوب البشر.

وفي اللوحة الشعرية الأخرى التي تلي هذه اللوحة من النص الشعري "أندلسيات لجروح العراق"، تمضي الشاعرة بشرى البستاني في مثاقفة الأمكنة التاريخية. وهذه المثاقفة للأمكنة، استدعت شخصيات وأحداثاً، أُخذت من الموروث الإسلامي، ومن التاريخ العربي التي مرّت به هذه الأمكنة، أو الذي مرّ به شعب هذه الأمكنة، وما فيه من دماء، وترويع وبطش وقهر.

المثاقفة هنا، بالأمكنة، والشخصيات، والأحداث التاريخية الجسيمة التي مرّت على الأمة العربية والإسلامية، هي التي رسمت تشكيلات الذات والآخر  العدو، وهي التي أباحث عن مشاعر الأولى تُجاه الآخر، الآخر اللعين، المُقرف، الظلوم، في تاريخه وحضارته، في يومه ومستقبله. تقول الشاعرة ( الذات) في لوحتها هذه:

 التكرار اللفظي ينفتح على       دباباتُ القتلِ تدورْ .. .

  الدلالات وبناء النص.              بغدادُ ..

                                سمرقندْ                أماكن تاريخية تدلُّ على أحداث مضت.

                                غرناطةُ تنهدْ

                                ثانيةً يوغلُ هولاكو في قمصانِ المدنِ التعبى

   الآخر العدو                ثانيةً يقطعُ هولاكو

التكرار يرسم أفعال           شريان الحبر الأسودْ .. .

      الآخر                    هولاكو يترصَّدني ...           أفعال العدو، ما يثير الذات

                                يقطعُ رأسي،

يُودعُه في صندوق مقفلْ ....        أفعال العدو

يرميه في البحرِ                               ما يثير الذات

يدورُ البحرُ

اللعبةُ ترتدُّ على نحرِ البارجةِ الامريكيةْ...

تتحرَّرُ من قلبي لُغتي

أُطِلقُها نحو الصفصاف

نهاية اللوحة               وأبكي ..

البكاء بلا أمل.

وفي لوحة أُخرى من لوحات هذا النص الشعري في ديوان الشاعرة بشرى البستاني، تستمر هذه المعاناة، وتكبر هذه المأساة أمام ما يفعله هذا العدو الغاشم الحقود. الاستمرارية هنا سوّغها التكرار، ومهّد لها بقولها " دبابات الغزو تدورُ"، نعم إِنها تدور في شوارعنا سفكاً، وفي مدننا قتلاً، وفي شبابنا سجناً، وفي أموالنا وثرواتنا نهباً ونهبا. نعم إنها تدورُ لترسم مشاعر الذات الأنا(الشاعرة)، وتشكّل الآخر بأبشع صوره، وأقسى صوره. هذه الصور التي رسمها البيان، وأدّت فيها اللغة الشعرية عند الشاعرة، وظيفتها الدلالية بعنفوان وقوة، يرجعان إلى عنفوان الألفاظ، وقوة الدلالات التي تسيح منها، وهي لا تخفى على الكثرين ممن يقرأون هذه اللوحة. تقول الشاعرة:

التكرار اللفظي ينفتح على           دباباتُ الغزو تدورُ

  الدلالات وبناء النص.              يلُّوثُ ثوبي نفثُ الدباباتْ

                                        تثقُبُ روحي عينَ الامريكي الرافل بالزَّبدِ

                                        القابح خلف دروع العرباتْ                          العدو

                                        أزرارُ قميصِ الأمريكيّ                              لغة قوية

                                                                         في شرح أفعاله الدموية.

                                        دموعُ الليلِ على مُقلِ العذراواتِ

                                        هديرُ الدباباتْ                         الصورة المختلفة

                                        يزرعُ في قلب الأرضِ    التي ترسم الآخر  العدو

    خاتمة مفتوحة                    دموعاً أُخرى..([35]).

نتيجة حتمية لتلك الأفعال

                           الآخر  العدو.

وفي لوحة أُخرى يساهم التركيب الاستفهامي برسم تشكيلات الأنا والآخر  العدو عند الشاعرة بشرى البستاني في نصّها الشعري هذا. والشاعرة هنا لا تخلو من تفاؤل، وأمل في مشاعرها وأحاسيسها التي نلحظها جلية من خلال هذه اللوحة، على الرغم من هذا العدو  الآخر، وعلى الرغم من أَفعاله سيئة الصيت والوقع في البلاد والعباد.

واللوحة أراها من أهم لوحات النص إن لم نقل من أهم لوحات الديوان في الرسم والتعبير، فأرى أنها نُظمت من شاعرة كبيرة، عرفت الدلالات وعرفت الكلمات المؤثرة في القارئ والمتلقي والناقد والدارس على حدٍّ سواء. كما إنها أحسنت في التعبير عن المشاعر أمام من قَطعِ هذه الزهرة. ومن أتلف الحياة فيها، ومَن دمر أرضها، ولماذا؟! ومن أعطاها، وأعطاه ( البلد) إلى هذا العدو  المحتل؟! وكيف؟!تقول الشاعرة في لوحتها هذه:

تكرار لفظي ينفتح على الدلالات             دبابات الغزوِ تدورُ

        وبناء النص                   في أعلى الدبابةِ زهرةُ فلٍّ

                                        مِن بستاني

                                        مَن قطع الزهرة

                                        مَن أعطاها الجنديَّ الامريكي ...؟

                                        قالت عن بُعدٍ وهي تفوحْ

                                        من بابِ الشمسِ سأطلعُ ثانيةً لأعودْ

                                        نحو ترابٍ ينهض من أرديةِ الحمى

                                        ويلمُّ شظايا الروحْ ...([36]).

وأمّا في نصّها الشعري الآخر الذي وسمته الشاعرة (الذات)، بعنوان محبب إلى النفوس عند كل من يسمعه، ويثير الشفقة والبكاء والحزن لكل من يسمعه، العنوان  المكان، العنوان "بغداد"، مدينة السلام والفكر والثقافة والتراث والحضارة والشعر في وقت مضى، مدينة الاشباح والموت والقلق والذعر في وقت الشاعرة وزمانها، تبدو الذات هي هي في المشاعر والآلام. وتبدو القصيدة ويبدو النص هنا صورة كلية كبيرة من الدلالات. والألفاظ، والصور والإيقاعات التي ترسم مشاعر هذه الذات، وتشكّل الآخر، وتقصُّ علينا حكايات هذا المكان، وهذه المدينة، وكيف كانت، وكيف صارت؟!؟! تقول في جزءٍ من بدء هذا النص:

                تحطُّ الخيولُ على بابها

                تتأهّبُ للموتِ مذبوحةً بالصهيلْ ...

                تحطُّ الطيورُ على سورِها

                تتأهبُ للشدوِ

                مأخوذةٌ بالعبيرْ ..

                وينهضُ في سوحها النخلُ

                يُرخي الأعنّة فوق عناقٍ يلوبُ،

                على شطَّها يكتبُ الحبُّ أَمجادهُ

                وتدورُ الفصولْ ..

                وقلبي يُرتقُ فوقَ حرائقه مَشهداً

                لوليمةِ فحرٍ يُؤسِّسُ صخرتَهُ،

                في ذُرى قمةٍ تتأهبُ أن تستردَّ سماواتها

                ..............([37]).

نلحظ الذات ( الشاعرة) هنا متشنجة تشنجاً قوياً، تظهر الأفعال المتشددة، ولاسيما بصيغتها المضارعة التي تروي لنا هذا التشنج العميق، الذي هو المرآة العاكسة لما فيه " بغداد"، المدينة، المكان، العنوان.

أمّأ الآخر، فرسمته الشاعرة (الذات)، بألفاظ حقيقية جزلة، وبأصوات انفجارية بقوافٍ مختلفة. طالت الأشطر قليلاً عمّا كانت في النصوص الشعرية الأخرى التي توالت نظماً ونثراً في هذا الديوان. وهذه الإطالة لهذه الاشطر فسحت المجال للتعبير أمام الشاعرة، والبوح بكل ذلك التشنج الذي عانته، وما زالت تعانيه أمام هذا الآخر العدو، وأمام ما يفعله في بغداد، المدينة، المكان، العنوان. إذا تتبعنا النص الشعري هذا بكامله، بقضّه وقضيضه، وجدناه لا يخرج عمّا قدمنا فيه القول، وما أسلفنا فيه الحديث، فالشاعرة "الذات" ما زالت في هذا البكاء الدائم، والآخر  العدو، مازال في أفعاله الكريهة البغيضة التي تزيد من هذا البكاء، وتعمّق من تلك الجراح، فما تلبث الشاعرة أن تبوح بها من خلال نصّها الشعري هذا.

ولا تنسى الذات ( الشاعرة)، أن تذكر القارئ ومنه العدو بأهمية بغداد، حضارة وتاريخاً ومكاناً، ,إن أفعاله وتصرفاته لن ينساها الزمن، ولن يمحوها التاريخ، ولن يسامحه وهو يقوم بها يومياً، وفي كل مكان منها، وهي الكبيرة بأطرافها، الكثيرة بأسماء أزقتها وحاراتها وقصباتها. وأما خاتمة النص الشعري هذا، فتتجه فيها الشاعرة (الذات) إلى العراق ككل، تعبر فيه عن حبها له، ووفائها له. وعن تضحيتها له. وهي خاتمة قوية المشاعر، كبيرة العنفوان، تكشف عن شخصية الذات القوية الصابرة أمام هذا الآخر  العدو (المحتل)، وأمام ما يفعله، فستبقى ونبقى، وسيمضي مُذلّلاً بالخيبة والخسران، مهما بقى، ومهما كان من قوة وبطش وهلاك، وهذا مصير الظالمين، وهذه إرادة الشعوب، وإرادة الإنسان التي لا تُقهر على مر الأزمان. تقول الشاعرة في خاتمتها هذه:

                وأكتبُ فوقَ صخور العراقِ:

                أُحبكَ .. .

                أكتبُ لا أشتري عيرَ هذا  العذابْ

                وطناً لجروحِ اليمامِ بقلبي

                وأجنحةً لمناديلِ حبّي

                وسِفراً لا يقاوم([38]).

في نصّها الشعري " صواريخ آخر الليل"، وهو آخر ما أقف عليه في هذا القسم من دراستي هذه عن تشكيلات الأنا والآخر العدو، إذ لا فائدة ولا مدعاة من التكرار في النصوص والتحليل وقد وضح كل شيء - كما أعتقد- في الشواهد والنقد. جاءت الأنا(الذات الشاعرة) متداخلة مع الآخر  العدو، ومع الآخر  الرجل، والآخر في هذين النوعين عكس تلكم الذات التي تنتظر الرجل، ليقتل العدو، أو لنقل ليطرده من مكانها، وبلدها، ويزيح أغلاله الثقيلة عن كاهل شعبها.

وحتى في هذا النص الذي وضحت فيه كثيراً من تشكيلات الأنا والآخر من خلال القسم الأول من الدراسة، سأقتطع افتتاحيته التي هي كفيلة برسم المشاعر الذاتية للأنا عند الشاعر، وهي الزعيمة بتوضيح تشكيلاتها مع الآخر العدو. تقول :

                رصاصٌ، رصاصٌ، رصاصٌ

                صواريخُ ...

                منعطفُ الدربِ منكفىٌ

                والشوارعُ مُربَكةُ

                وأنا نخلة الريحِ

                شَعري موسمٌ مَن لا يَدين لهُ

                وفراتي مرٌّ

                وعلقمُ حبي مناقيرُ تنهشُ جُرحاً يُقاومُ

                والليلُ منهمكٌ بالحروبِ يُرتّقها في الظلامْ ..

                والصواريخُ مفتونةٌ بمُنى الأبرياءِ

                وبالفقراءِ

                ومشفوفةٌ بالحضاراتِ تحرقُ أسفارَها([39]).

هذا هو التكرار: رصاص رصاص  رصاص. ينفتح على دلالات عدائية تشكل النص. الشاعرة (الذات) عبّرت عن مشاعرها صوتاً وصورة ودلالة من خلال هذا التكرار، وما فيه من دلالات معروفة لدى الجميع.

العتبات للمكان، ( الشوارع، الدرب، المنعطف)، وتُنبي بأمكنة فيها سمات العداء والظلم والقتل، من خلال الارتباك، ومن خلال الصواريخ التي تقع عليها كل يوم، فترسم الموت على وجه من يمشي بها، ومن يسير عليها لأية حاجة في نفس يعقوب؟! الصورة الذوقية، حلّت ضيفة مُكرّمة على هذا النص الشعري عند الشاعرة بشرى البستاني في افتتاحيتها هذه، بقولها:

                وفراتي مُرٌ

                وعلقمُ حبي مناقيرُ تنهشُ جُرحاً يقاومُ

الضدية بين الفرات والمرارة، الضدية بين العلقم والحب، رسمت مشاعر الذات، وأفادت في تشكيل صورة الآخر  العدو، من خلال هذه المشاعر إفادة عظيمة لكن تبقى النخلة رمز المقاومة والحرية والبقاء والخلود عند الإنسان العراقي في كل زمان ومكان، وما تستميله فينا والشاعرة، وما تبعثه فينا من مشاعر خين تقول بصورة القوي الشامخ:   وأنا نخلةُ الريحِ

مع أي ريحٍ كانت الريح للدلالة على القوة في الهبوب والتدمير والعصف، والنخلة للشموخ والديمومة والحضارة. بكل هذه الأنا ترفض الآخر  العدو، وتدعو إلى مقاومته والتضحية في سبيل العراق، وفي سبيل المكان، الذي عُرف بهذه النخلة، وعُرف بقوتها، وشموخها، وصبرها، مع كل المحتلين الذين غزوا العراق، وعاثوا فيها فساداً. الذات هنا مع ما قلناه عنها، تبقى أملاً وتبقى عملاً من خلال هذا النخلة، وما ترمز إليه. هذا كان أكثر ما ينبغي لنا أن نقوله، في مشاعر الأنا  والآخر ( العدو)، وفي تشكيلات هذه المشاعر، وكيف جاءت رسماً ودلالة وبناءً في نصوص الشاعرة بشرى البستاني في ديوانها " أندلسيات لجروح العراق"، والباقي من النصوص يدور حول ما قدمنا من تأزّم هذه الذات، وبكائها تُجاه هذا العدو، الذي ترسمه بشتّى الوسائل، وأهم الفنون في الرسم، بشاعة، وبغضاً، وحدقاً... فتتركه صوراً بشعة مظلمة، ترددُّ أفعاله السيئة الأجيال على مر السنين، يلعنه التاريخ، ويذمّه الزمان، ويألمُ منه المكان الذي حلّ فيه، وقتل فيه، ودمر فيه، يلعنه الجميع إلى الأبد.

ت. الأنا ( الذات) ... الآخر (المجتمع).

لابُدّ للشاعر والأديب والقاص صاحب الإنسان المرهف، والإبداع المقروء أن يتأثر بالمكان، وبمن يسكنُ هذا المكان، وبمن يعيش فيه على مرّ الأزمان، وهذا التأثر قد يكون سلباً أو إيجاباً، بُعداً أو قُرباً، محبة أو كرهاً. فالشاعر والأديب ابن بيئته، وترجمان مكانه، والصورة التي تبدو حقيقية في أكثر حالاتها لمجتمعه، ولبني البشر الذي يحيون معه هذه الحياة، بظروفها وأحوالها ومناسباتها المختلفة. ولا ينفكُّ الشاعر والأديب من التأثر بهذا المجتمع، مهما كان، ومهما كان إبداعه. فنرى كثيراً من الأُدباء والشعراء يوافقون مجتمعاتهم وتكويناتها المتنوعة، ونرى البعض الآخر يرفضون المجتمعات التي يعيشون في ظلّها، ويتمردون عليها، ومن ثمّ يتركوها ويهاجروها عنها، بل ويذموها ويرمون بأقسى عبارات الشتم والسباب والهجاء.

وإذا تتبعنا مسيرة الأدب الكبيرة وصولاً إلى شاعرتنا، نرى إرهاصات المجتمع ووقائعه بداية على أيّ شاعر من شعراء هذا الأدب، من خلال مدونته الكلامية المنشورة، نصّه الشعري. فالمديح، والهجاء، والغزل، والوصف أغراض كتبها الشاعر في ظلّ أي مجتمع عاش فيه، ومع أي حاكم أو خليفة أو أمير أو سلطان ترعرع في بلاطه، ونما لحمه وشحمه في ترف أو جزع تلك البلاط. وما الشعر إلّا مشاعر هذا الشاعر، وما الشعر إلّا تدوين وتوثيق لما يحدث في المجتمعات، وما يعرف عنها من أخبار وأحداث ووقائع. والشعر الاجتماعي في المشرق وفي المغرب، وفي الأندلس، هو الصورة ناصعة البياض، الواضحة وضوح الشمس في الضحى، دلالة ومضموناً ومشاعر، على علاقة الشاعر بمجتمعه وبيئته. فالعادات والتقاليد الاجتماعية، والاحزان والافراح وشعارهما، والملابس، والألعاب، والنواحي الفلكلورية والتراثية... وغيرها، كلّها تدلُّ  بوضوح على علاقة الأنا ( الذات  الشاعر)، بالآخر  المجتمع. ومن ثمَّ تتفرع هذه العلاقة، وترسم التشكيلات ذات الدلالات المختلفة التي تبين تلك العلائق الكثيرة، والواضحة التي أُخذت من صميم التراث الشعر العربي في العلاقة بين الأنا الذات(الشاعر المبدع)، وبين الآخر المجتمع، بكل ما فيه، وبما فيه ككل.

في تشكيلات الأنا والآخر  المجتمع عند الشاعرة بشرى البستاني في نصّها الشعري الأول " أندلسيات لجروح العراق"، تبدو هذه الجراح كبيرة وكثيرة تعاني منها الذات وتحاول رسمها من خلال صور المجتمع الذي تبحثُ عنه، وكم تشتهي أن تعود به إلى الماضي الجميل، والتاريخ البهي الذي كان يعيش فيه أبناء مجتمعها في العصر العباسي مثلاً، وهي تقصُّ نكبات النسوة العراقيات وتحكي لنا الآلام والأوجاع التي يشعرن بها في هذا المجتمع، ويسببه هذا المحتل الأثيم. وهذه التشكيلات ترسمها الأماكن التي تنتشر في اللوحة الشعرية التي نتحدث عنها هنا، وتزينها بعض وسائل البيان المحمودة في الرسم، لتأتي اللوحة تحكي مشاعر الذات أمام الآخر، الذات الموجوعة الباكية المتألمة، وتشكل الآخر الذي لا يرقب فينا، ولا في مجتمعنا إلّا ولا ذمة. تقول الشاعرة البستاني في لوحتها هذه:

                دباباتُ الغزو تدورُ

                معابرُ بغداد...

                تبكي

                الأنهارُ

                الأسماك

                الشرفاتْ

                تبكي

                وقبور بني العباس

                أتعبها زحفُ العربات على قلبِ الأرضِ

                الآباءْ

                يُخفون الطلقاتِ بصدرِ العذراواتِ

                ضفائرهنَّ على الرملِ

                يُخضّبها الدمْ

                وجعٌ في أعينهنّ عراقيٌّ

                دمعٌ

                وجلٌّ ما كانَ

                وما سوف يكونْ

                هبطَ المرجانُ من الدوحْ

                هل قلتَ: الموتْ...

                علمُ السيمياءْ...

                خجلٌ من ضوضاءِ الموتى([40]).

تبدو الذات قلقة حزينة، متذمرة من مجتمعها الذي تعيش فيه. ذلك المجتمع الذي يستسيغ مرور عربات الاحتلال المدمرة فوق القبور التاريخية الكبيرة التي بنت أكبر حضارة إسلامية في تاريخ العرب والمسلمين إلى يومنا هذا، حضارة بني العباس، وأمجاد الخلافة العباسية، أيام كانت بغداد زهرة تلك الحضارة، وقبلة العشّاق والمبدعين في كل مكان.

تستعذب الذات ( الشاعرة ) الموت لهذا الوجع من خلال البكاء، ومن خلال النسوة اللاتي، لا حول لهنّ ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. الوجع في أعينهن، البكاء يؤدي إلى الوجع، والوجع إلى الموت. ضفائرهنّ اللواتي هنَّ رمز جمالهن، وعنوان شبابهن على الرمل الذي تدوسه تلك العربات الملعونة في  كل شيء. فأيّ مجتمع هذا تعيش فيه هذه الذات؟!؟! لتصل اللوحة إلى قمة الصراع بين الذات والآخر في قولها:

علمُ السيمياءْ

                خجلٌ من ضوضاءِ الموتى

الذي تمثّل تشكيلات الأنا  والآخر ( المجتمع)، والذي يترك النص في لوحته هذه، في قمة التشاؤم، وقمة الألم على الماضي والحاضر في آنٍ واحد.

المثاقفة من خلال تاريخ العرب والمسلمين، ومن خلال بغداد هي من رسم هذه التشكيلات بين الذات ولآخر، فبغداد كيف كانت في ذلك المجتمع، ومع أولئك القوم، وكيف أصبحت وامست اليوم، في ظل الحاكم الجديد، ومجتمعه الجديد، نعم الجديد الذي نسى وتناسى كل شيء، ونَعمِ بالمال، وحلم بالسعادة على حساب العزّ، والكرامة والرفعة.

وفي لوحة أُخرى من لوحات هذ النص الشعري، تستند الشاعرة والأديبة ذات الثقافة العالية ولاسيما الثقافة الأدبية، والشعرية ويحقُّ لها ذلك، إلى صورة الشاعر العربي الكبير أبي تمّام، وإلى بائيته الخالدة التي قالها في مدح المعتصم وفتح عمورية. فقد حدثت هذه الوقعة في بلدها، وبين أبناء شعبها، أيام كان الخليفة في القوة والشخصية والحزم والبأس، وأيام كانت الغيرة غيرة عربية إسلامية على الدين، والعرض، والمال، والممتلكات. فأين ذلك الشاعر؟ وأين ذلك الخليفة؟! وأين ذلك المجتمع؟؟ في نظر الكثيرين من أبناء مجتمعها اليوم...  فتشكيلات الأنا والآخر  المجتمع، وضحت من خلال هذه المثاقفة التاريخية الأدبية مع الشخصية ومع نصّها الشعرية ذائع الصيت والشهرة. والتشكيلات بين الأنا والآخر  المجتمع، رسمت بالأمكنة المختلفة وبوسائل وفنون البيان الواضحة التي انتشرت في اللوحة بشكل منطقي ومرّتب، لتعرّفنا الشاعرة بمجتمعها الجديد، وبحاكم هذا المجتمع الجديد. تقول:

                دباباتُ الغزوِ تدورُ

                أبو تمامٍ ينشرُ بائيتَهُ فوقَ ضفافِ

                الكرخ، الدباباتْ

                صدقت في كتبِ العّرافاتِ

                انكسرت مقلُ العذراوات

                الخلجانْ

                تجمعُ أرديةَ الريح من المنعطفاتِ

                وتعطي الفجرْ

                كلماتٍ تزحفُ من حُرَقِ الباءِ

                إلى دالِ الوجدْ ...([41]).

قولها: (الكرخ، كتب، العرّافات)، هو دلالة شعورية لتجليات ذلك المجتمع، ومكانته، وما فيه من أعراف وتقاليد، وهو صورة اُخرى من تشكيلات الأنا والآخر، الذي تبحثُ عنه الذات لتنقله إلى الآخرين كما شعرت به، وأحست به، وعانت منه، ومازالت تعاني. في آخر لوحة، وهي لوحة شعرية قصيرة، مرسومة بعناية، وتحكمها الجدة والقوة والجزالة في اللغة والألفاظ والتراكيب والأفكار والمشاعر من لوحات نصّها الشعري هذا، تبدو بغداد  المكان، هي الأولى والأخيرة التي ترسم تشكيلات الأنا الآخر(المجتمع)، وتحكي العلائق بينهما، ولكن أي بغداد هذه، وهي بين الجروح والأصفاد، وأي بغداد هذه وهي تبكي بين مجتمعها، وبين من باعها بلا ثمن،..!!! وأي بغداد هذه بتاريخها وأدبها وشعرائها، وأي بغداد هذه .... تقول:

                مرهقةٌ بغدادُ

                ومجروحٌ معصمها

                سرُّ الرمانِ على وجنتها

                يذبلُ في الأصفادْ([42]).

هذه بغداد الجديدة، هذا المكان الجديد، هذا الزمان الذابل يبكي على تلك الجروح. هذا هو المجتمع الذي يسمح بهذا الذبول، وذلك البكاء، وتلك الجراح... ولكن إلى متى؟!؟! هذه هي التشكيلات الحية، والمعبرة التي تريدها الشاعرة من الآخر  المجتمع، الذات ( الشاعرة) هي التي ترسم هذا المجتمع الذي تحول إلى أَمرٍ غير أليف، وغير مُبالٍ بما يفعله العدو، وللأسف الشديد. الآخر  المجتمع، الذي نسي بغداد في جراحها، وإرهاقها، وتناسى مجدها وحضارتها وألقها، فكيف سينظرون إليك من قرأ عنها، وكتب عنها، وكيف سيشعرون تجاهك – أَيها المجتمع -، وهي بغداد – المكان - ، الحضارة  والتاريخ، والفكر... في كل هذه الأصفاد، والقيود، والجروح، والتدمير، والتخريب اليوم؟! هذه صورة المجتمع من خلال هذه اللوحة عند الشاعرة بشرى البستاني وهي – اللوحة – على قصرها، وقصر أشطرها إلّا إنها ذات دلالات كبيرة، ومعانٍ كثيرة، وآلام موجعة ومآسٍ واضحة... لا تخفى على الكثير.

وأمّا في نصّها الشعري الذي وسمته بـ : (غرق لؤلؤة التاج) وهي مرثية إلى الشهيدة لدكتورة ليلى عبدالله سعيد. تبدو الذات هنا متشائمة، حزينة، على فقد الزميلة، والصديقة، والشهيدة. وترسم الشاعرة تشكيلات الذات والآخر المجتمع، من خلال المكان المقدّس الذي كانت تقف فيه الفقيدة، ويُسمع صوتها المجلجل وهي تعلّم وتكتب، وتدرس الطلبة العلومَ المختلفة. القاعة هنا المكان هو الذي يرسم تلك التشكيلات بين الأنا والآخر (المجتمع). هذه القاعة التي فرغت دلالة على فراغ المكان، كناية على نهاية العلم بنهاية الشهيدة. القاعة الفارغة هنا أكبر من مكان يُدّرس فيه الطلبة، وأكبر من مكان يجمعهم أمام أُساتذتهم. القاعة الفارغة هنا، رمزٌ لنهاية الوفاء للأستاذ، ورمزٌ لنهاية العلم في البلاد. وفي آخر اللوحة عند الشاعرة البستاني رمزٌ للضيف القادم، الذي يريد فراغ هذه القاعات، ونهاية العلم، وحرق الجامعات. " الجمع الحاشد " هنا هو هذا المجتمع الذي ينفّذ الأوامر التعسفية ضده، وضد بلده، وضد أعلامه، ينفّذها وهو مرتبك، يريد أية حياة يعيش فيها، حتى وإن كانت حياة بلا علم، وبلا أمل، وبلا كرامة، وبلا مستقبل، وبلا وفاء. تقول الشاعرة البستاني في لوحتها هذه:

                القاعةُ فارغةٌ،

                إلّا من نافورةِ دمْ..

                القاعةُ فارغةٌ إلّا من خيطِ الضوءِ الأصفرْ.. .

                القاعة فارغةٌ

                لكن الضوضاءْ

                تحصبُ جلبابِ القاضي

                بكُرات حمراءْ .. .

                القاعة فارغةٌ

لكن الملكة ...

                خانتها الشبكةْ

                هبطتْ مركبةٌ وسط القاعةِ

                غادرها الجمعُ الحاشدُ مرتبكا..([43]).

التكرار اللفظي بقولها " القاعة فارغةٌ"، له أبعاد دلالية وشعورية كثيرة نشمّها من خلال هذا المكان الحضري، الذي يرمز للعلم، وللجامعة، وللفقيدة. التكرار ينفتح على بناء النص تركيباً ووظيفة. " جلباب القاضي"، هو الرمز الآخر للمجتمع، أين هذا الجلباب الأسود الذي يحكم للمرثية، ويحكم لمِن كان في القاعة... أين ذلكم سيدي القاضي؟!؟! الألوان تنتشر تدلُّ على الخجل والمرض " الاصفر"، العداء والكره، الدم  الأحمر"، الوظيفة ( العمل) والقوة والحكم " الأسود جلباب القاضي"، ساهمت هذه الألوان في أصفاء مشهد محسوس متألم لمشاعر الذات وهي تشكّل هذا الآخر المجتمع، الذي نسي وظيفة القاضي ومهمته الأولى في الدفاع عن المظلومين، وعن فارغ القاعات وعن الدم العراقي البارد الذي يسيل في كل مكان. هذي هي تشكيلات الأنا والآخر، في لوحة الشاعرة هذه، وهذه هي الذات الباكية طويلاً ، والمتألمة طويلاً، زاد هذا البكاء، وذلك الألم، سقوط الأحباب والأخلاء والأتراب صرعى موتى، بلا أدنى سبب؟!

 وأما في نصّها الشعري الذي وضعت له عنواناً مكانياً اجتماعياً هو "البيت"، ويتبادر ما يحدث للقارئ والمتلقي في هذا البيت من وشائج وعلاقات تربط بين أفراده على مر الدهور والعصور، نرى الشاعرة بشرى البستاني تطرح علينا إرهاصات المجتمع من خلال هذا العنوان لنصّها الشعري هذا. العنوان  البيت  المكان الاجتماعي. الذات هنا ترسم لنا تشكيلات لآخر من خلال هذا المكان، ومن خلال ما يحدث فيه من أفراح وأتراح، من مناسبات ومن نكبات... وما إلى ذلك.

وتبدو الذات ( الشاعرة) فرحة، متفائلة في أول الأشطر، وتأتي بالتشبيه من صميم إبداعها بقصيدة النثر التي من سماتها الغموض، لتضعها في صورة الرجل الذي يعيش معها في البيت. هذا التشبيه ترجم مشاعر الشاعرة نحو الرجل، وبدأت بوصفه، ووصف ما يفعله في هذا المكان. وتستنطق الشاعرة ( الذات)، الأماكن والأزمنة، لتزين هذا الوصف، ولتُمدّ في مساحة النص اللفظية والتركيبية والبنائية، حتى تستدعي شخصية الطفل " الصغير"، وما في هذه الكلمة من دلالات لتحسن رسم المشاعر في بيتها المعيش هذا، وفي مكانها الاجتماعي هذا. في آخر الأشطر تبدو لنا صورة المجتمع، من خلال هذا المكان ومن خلال ما وقع فيه عن طريق السرد، السرد الذاتي الذي تقوم به الشخصية الرواية وهي الذات، وهي الشاعرة. الأشطر الأخيرة هذه هي التي تبكي وتنجرح بصورة البلابل التي تغرّد بكاءً وألماً، بصورة الشيح الاخضر، الذي يتحول إلى الاصفرار بهذا الجرح، وبهذا النزف الذي يولّده المجتمع ويبعث فيه في كل بيت، وكأنها قضت على مشاعرها السعيدة الفرحة في أول النص، وأبقت على الخاتمة الجريحة الباكية المتألمة، من جراء هذا المجتمع الذي يساهم مع العدو في قتل البيوت، وقتل ما فيها من أفراح وحب وسعادة وتفاؤل. النص الشعري هنا صورة كلية قائمة على السرد والوصف، قائمة على المكان الاجتماعي "البيت"، الذي انفتح على دلالات متنوعة، ومعان شعرية كثيرة سوغّها قلب الذات وعواطفها، ونظرتها إلى المجتمع وما فيه، وما يقع فيه من خلال هذا البيت، المكان الاجتماعي المصغر، لمجتمعنا المعيش الكبير. تقول الشاعرة بشرى لبستاني في نصّها الشعري " البيت":

                                كقصيدة النثرِ العصيّة،

                                غامضٌ ....                   التشبيه يكشف الآخر من أول النص

                                وغصونهُ تُرخي على صدري الظلالْ،

حرف العطف                  وساعديْ...

تركيب الجمل                 ويبثُّ عطراً لا يبينْ

تنوع الدلالة  

الزمن + حرف لجر          في الليل يأَخذني لصالةِ حزنهِ،

دلالة الزمن في النص        في الفجرِ أصحبُه إلى حُلمي،

مع الذات

                                فيحرسُ صبوتي

                                وأنامُ بينَ يديهِ آمنةً

                                وإذا أصحو

حروف العطف                        أراهُ وقد أضاءَ نوافذي               دلالة البيت الاجتماعية.

 تركيب الجمل                وأعدَّ لي شاي الصباح                       انفتاح الدلالة على المجتمع

 تنوع الدلالة                  طفلٌ صغيرٌ كُلّما فارقتهُ                       والآخر.

  مع أفعال                    بكت البلابلُ في ضلوعي،           

    الذات                      وانجرحْ..                             المجتمع الباكي المجروح  الآخر من خلال الذات

شيحُ الحديقة في دموعي..([44]).

هذا النص بكامله، كما أسلفت، صورة كلية تقوم على هذا المكان الاجتماعي "البيت"، وما فيه من مظاهر، وما يُعرف فيه من دلالات سخرت الشاعرة ( الذات) هذه المظاهر، وتلكم الدلالات لتنقل إلينا مشاعرها، وما تحسُّ به، ومن ثمّ ترسم لنا تشكيلات الآخر التي وضحت جلية في نهاية النص بكل حزن وألم وفجيعة، حتى مع هذه الطيور الجميلة، ومع ذلك النبات والعشب الذي من سماته الخضار الدائم، والصبر الطويل. الذات هنا حائرة قلقة من تصرفات المجتمع الذي تعيش، الذي قد يهدم البيت، وينهي ما فيه من ملاذ وحياة جميلة. المجتمع هنا حائر قلق بإرتباك تلك الذات وحيرتها وقلقها من هذا العدو، ومن الظروف المعيشية المأساوية التي خلّفها، ويخلّفها دائماً. وتبقى الذات (الشاعرة)، على نفسٍ متفائل، وروح شفّافة طيبة عاشت زمناً في ذلك البيت، ولكن هذه النفس، وتلك الروح ما تلبث أن تزول، وتتلاشى في ظل هذا المجتمع الذي يسكت على الجرح، ويصمت عن البكاء، لكأنه يسدُّ أَذنيه، ويصاب بالصمم والأعمى عن كل ما يحدث فيه، وعن كل تصرفات ذلك العدو، الذي يغدر به وبمَن يعيش فيه، ويقتل، ويدمر ويقتك بلا ضمير.


الخاتمة والنتائج

بعد هذه الرحلة البحثية والعلمية والنقدية الممتعة مع شاعرة وأديبة وناقدة كبيرة مثل الدكتورة بشرى البستاني , ومع ديوانها الجميل المحكم " أندلسيات لجروح العراق " أقف هُنيّةً بسيطة لتوضيح بعض نتائج البحث مما جنيتُ من هذه الرحلة مع الشاعرة وديوانها ، وتلكم النتائج هي:

  • الآخر انعكاس عملي ووجه آخر للذات . والذات تمثّل الآخر بشكل علمي وعملي وفلسفي واجتماعي ، فبدون الآخر تبدو الذات مبتورة عن العمل , وقاصرة عن التعبير عن مشاعرها وواقعها , مهما كان هذا الآخر شخصاً أو مجتمعاً أو مكاناً ، حبيباً أو عدوّاً ، قريباً أو بعيداً ... إلى آخره.
  • مثّل شعر الشاعرة بشرى البستاني تحولات ثقافية عالية المستوى ولاسيما في علاقة الذات مع الرجل. فقد صوّرت الشاعرة هذا الآخر بأشكال كثيرة , فمرة حبيباً ومرة غائباً وثالثة قريباً ورابعة بعيداً مشوقاً ، ومرة من الواقع وأخرى من التاريخ . وفي هذه الأشكال كلها كانت الذات أمام الرجل تفرح وتحنُّ وتتفاؤل إلى حدٍّ كبير.
  • عبّر ديوان " أندلسيات لجروح العراق " للشاعرة والأديبة والجامعية الدكتورة بشرى البستاني عن التحولات الاجتماعية والنفسية والفكرية الكبيرة التي انتابت المجتمع بعد عام 2003 ولاسيما في تصويرها لقضية العدو ، وقضية الاحتلال الامريكي الذي احتلّ مجتمع الشاعرة ومكانها ، وما جرى على هذا المجتمع وعلى ذلك المكان من ويلات ومصائب وكوارث ونكبات وخراب وتدمير ... كما تصفه الشاعرة البستاني في قصائدها في ديوانها هذا .
  • بدت مشاعر الذات ( الشاعرة ) غريبة بعض الشيء في فلسفتها وآرائها تُجاه المجتمع في ديوانها " أندلسيات لجروح العراق " . فهي تنتقد بعض اصناف المجتمع العراقي ومكوناته لموقفه من الاحتلال على بلده وثرواته العلمية والبشرية ، وهي تريد من الاصناف والمكونات الأخرى الدفاع عن هذه الثروات ، ومقاومة هذا المحتل وطرده من البلاد وبأي شكل من الأشكال .

فالشاعرة تميل إلى الاتجاه الوطني وتصرُّ عليه في رسمها لصورة المجتمع المثالية التي تريدها لمجتمعها , ولقضية هذا المجتمع وما طرأ عليه من تحولات وتغيرات في كل مناحي الحياة بعد عام 2003 .

  • يرسم ديوان " أندلسيات لجروح العراق " قمة الصراع النفسي المتأزم من الذات (الشاعرة) وهي ترى مأساة بلدها وما حلّ فيه من ارهاصات كارثية ونوائب حقيقية بعد عام 2003 ، ولاسيما في مدينة الشاعرة الأولى ومكانها الام (الموصل) ، تلك المدينة الحضرية العمرانية الشاخصة على مر الازمان والعصور ، ذات التوجه الديني والثقافي والعلمي الكبير . وفي جامعة هذه المدينة العريقة الأصيلة وهي جامعة الموصل , وسمعتها الادبية والفكرية وأثرها في بناء المجتمع العراقي ورفع مكانته العلمية والحضرية في العصر الحديث . فالشاعرة الدكتورة بشرى البستاني ابنة هذه الجامعة والنبراس المضيء فيها في الأدب والشعر والنقد والتدريس والملتقيات والمؤتمرات والمحافل والمهرجانات الثقافية والعلمية مدة خدمتها الطويلة في هذه الجامعة وكلياتها المختلفة ، وعند طلبتها على مرّ المراحل الدراسية ومستويات هذه المراحل العلمية، ومن هنا وصفت الشاعرة البستاني في شعرها عموماً ولاسيما في ديوانها " أندلسيات لجروح العراق " ، ما انتاب هذه الجامعة من تحولات في كل شيء...؟! بعد العام 2003 وإلى يومنا هذا.

فالديوان ترجمان لبيئة الشاعر, مهما كان ومهما كانت , وحكايات لمشاعر هذا الشاعر تُجاه هذه البيئة وما يحدث فيها . وهذي هي وظيفة الشعر ومهمته الأولى والأزلية على مرّ العصور الأدبية.

مكتبة البحث (ثبت المظان) :

*أَقسام الكلام العربي "من حيث الشكل والوظيفة": د. فاضل مصطفى الساقي، مكتبة الخانجي – المطبعة العالمية، القاهرة، 1977.

*الأنا في الشعر الصوفي (ابن الفارض أنموذجاً): د. عباس يوسف الحداد، دار الحوار للنشر والتوزيع – دمشق، ط2، 2009.

*أَندلسيات لجروح العراق، الأعمال الشعرية الكاملة: بشرى حمدي البستاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، ط1، 2012م.

*بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل، مكتبة لبنان – الشركة المصرية العالمية للنشر، دار نوبار للطباعة – القاهرة، ط1، 1996.

*التشكيل النصي الشعري، السردي، السير الذاتي: د. محمد صابر عبيد، مؤسسة اليمامة الصحيفة – الرياض، كتاب الرياض، كتاب الرياض (179)، ط1، 2013.

*الصحاح في اللغة والعلوم، تجديد صحاح الجوهري (ت393ه)، تقديم: عبدالله العلايلي، إعداد وتصنيف: نديم مرعشلي، أُسامة مرعشلي، دار الحضارة العربية – بيروت،ط1، 1974.

*صورة الآخر العربي ناظراً ومنظوراً إليه ( مجموعة أبحاث)، تحرير: الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط1، 1999.

*الصورة الشعرية وأسئلة الذات، قراءة في شعر حسن نجمي: د. عبد القادر الغزالي، مؤسسة دار الثقافة للنشر والتوزيع – الدار البيضاء المغرب، ط1، 2004.

*العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت 170ه)، ترتيب وتحقيق: د. عبدالحميد هنداوي، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1424ه-1979.

*في معرفة الآخر: بن سالم خميس، دار الحوار للنشر والتوزيع – دمشق، ط2، 2003.

*لسان العرب: جمال الدين محمد بن مُكرم ... ابن منظور الافريقي ( ت711ه)، دار صادر – بيروت، ط3، 1414ه.

*معجم ألفاظ القرآن الكريم: إعداد: هيئة في مجمع اللغة العربية- القاهرة، ط2، مج1، 1390ه-1970م.

*المعجم الوسيط، إخراج: د. إبراهيم أنيس وآخرون، دار الدعوة – استانبول - تركيا، 1989.

*مناهج الدراسة الأدبية الحديثة: د. عمر محمد الطالب، دار اليسر للنشر – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، 1988.

*نظرية الأدب: رينيه ويلك وأوستن وارين، ترجمة: محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، مطبعة خالد الطرابيشي – القاهرة، 1972.

 

(1) لسان العرب ( مادة: شكل): 11/357.

(2) أقسم الكلام العربي" من حيث الشكل والوظيفة" : 180.

(3) ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: 175.

([4]) ينظر: م. ن. : 180.

([5]) ينظر: نظرية الأدب:318.

([6]) ينظر: مناهج الدراسة الأدبية الحديثة:194.

([7]) التشكيل النصي: الشعري، السردي، السير الذاتي:196.

([8]) ينظر: م. ن. : 196.

(1) ينظر: م. ن. : 163-164.

(2) ينظر: التشكيل النصي: الشعري، السردي، السير الذاتي: 168.

(3) المعجم الوسيط: (مادة: ذات): 1/307.

(4) الأنا في الشعر الصوفي ( ابن الفارض أنموذجاً ): 187.

(1) الصورة الشعرية وأسئلة الذات:98.

([14]) العين: (مادة: أخر): 1/33.

(3) الصحاح في اللغة والعلوم:( مادة: أخر): 1/12.

(4) لسان العرب: (مادة: أخر): 3/33-34. وينظر: معجم ألفاظ القرآن الكريم: 1/28.

(5) صورة الآخر العربي ناظراً ومنظوراً إليه: 22.

(6) ينظر: في معرفة الآخر:5.

(7) صورة الآخر العربي ناظراً ومنظوراً إليه: 111.

(1) أندلسيات لجروح العراق: 116-117.

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 117-118.

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 121-122.

(2) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 139-140.

([24]) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 140-141.

(1) ينظر: م. ن. : 143-144.

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 146-147.

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 166.

(1) ينظر: م. ن. :171-172.

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 180 .

(2) ينظر: م. ن. : 190-191 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 184-185 .

(2) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 188.

(1) ينظر: م. ن. : 197-198 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 103-105 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 107 .

(2) ينظر: م. ن. : 130 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 133 .

(1) ينظر: م. ن. : 137 .

(2) ينظر: م. ن. : 146 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 113 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق: 126 – 127 .

(2) ينظر: م. ن. : 132 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 175-176 .

(1) ينظر: أندلسيات لجروح العراق : 192-193 .