أدلجة الإلحاد وردّها من أهل الرشاد... العراق أُنموذجاً

د. عمّار الزويني الحسيني

كليّة الإلهيّات  /جامعة طهران

 

الملخّص :

     إنّ مبدأَ الإلحاد وأيدلوجيّته مبدأٌ يحتاج إلى دراسة وتدبّر خصوصاً في هذه الفترة، فهو يحتاج إلى قراءة جديدة، وذكر أفكاره، ووضع الحواجز كي لايتمدّد بطريقة علميّة مبنيّة على العقل المنطقي.

        لقد احتوت آيدلوجيّة الإلحاد على أساس ، وهو العقل الإنساني  الذي يملك القدرة على الانتقال من المعلوم إلى المجهول، والناس من محادثاتهم اليوميّة وفي مناقشاتهم يسيرون على مقتضى المنطق، غير أنّ العقل الإنساني لا يكتمل بدون هذا الترتيب الذي يعمل على فحص وتنظيم وتصحيح الفكر، ألا وهو المنطق فهو الأسلوب الذي يساعدنا على تصحيح تفكيرنا، وهو أداة التفكير الصحيح، ومن لا يقبل بهذا القانون العقلي لقد حكم على جميع العلوم بالانهيار والهدم من الأساس، لذا كان حكمنا على النظريّات التي طرحت حول موضوع الإلحاد وفق المنهج العقلي المنطقي.

        إنّ المقالة تضمّنت ذكر أفكار الإلحاد ودحضها بالأدلّة العقلانيّة، لأهمّيتها في العصر الحديث، كذلك تضمّنت النظريّات الإلحاديّة المتنوّعة، وسبب ظهورها، كذلك تضمّنت اندثارها في المجتع العراقي، ومن النتائج التي توصّل إليها المقال: إضمحلال النظريّات الماديّة الإلحاديّة، ولايمكن للكون أن يكون قائماً بهذه النظريّات، كذلك أنّ النظريّات العقليّة هي الأقرب للواقع والعقل.

كلمات مفتاحيّة: الآيدلوجيّة، الإلحاد، العقل، العراق أنموذجاً.


المقدّمة :

     الحمد لله الواحد المعبود، عمَّ بحكمته الوجود، وشملت رحمته كلّ موجود، نحمده سبحانه ونشكره وهو بخلقه لطيفٌ ودود، الذي وعد مَن أطاعه بالعزّة والخلود، وتوعّد مَن عصاه بالنار ذات الوقود، والصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود، وعلى صهره حامل اللواء المعقود، وساقي الحوض المورود، وعلى آله الركّع السجود، وصحبه المنتجبين، ومَن تبعهم من المؤمنين الشهود.

        أنا كائن موجود في عالم فسيح متضارب الأبعاد، مختلف الألوان والأشكال، نظرت إلى ذاتي وجدّتها، تحبّ، تكره، تحسّ، تشعر، تشمّ، تنظر، تسمع، تتلذّذ، تتألّم، تتأثّر بالجمال، بالحرّ، بالبرد، تؤثّر على مَن يجاورها، تفرح، تحزن، تخاف، تطمئنّ، تضجر، تسأم، تحلم، تسقم....إلخ.

     والأهم من كلّ ذلك وجدت ذاتي تفكّر وتفكّر وتفكّر وتسأل وتبحث عن أي شيء يدور حولها وتحب المعرفة وتريد لكل سؤال يهم مصيرها جوابا، وإذا لم تجد الجواب جاءها الهم    والغم ..والحزن.. والضجر.. والضيق.. والاختناق والمصاب...

     سألت ذاتي لماذا الضجر والاختناق يعتريني إذا لم اعرف جواب مسألتي؟ لعلّي لست كباقي الخلق أمثالي؟ سألت أمثالي من الناس فوجدتّ الكلّ على شاكلتي إلاّ القليل ممّن لا يفكر إلاّ في مأكله وملبسه ومسكنه، والسؤال الذي يراودني ويخالجني ويقض مضجعي، وكلما كبرت في العمر كبر معي حتى صار شغلي الشاغل، فصرت ابحث وأنقب وأحقق وادقق عن جواب نافع وحل ناجع الذي يُقنع ذاتي التي تسأل عن كلّ ما يدور حولها، ويسبّب لها الهمّ والغمّ، فكان السؤال الذي شغل بالي: مَن أوجدني؟ من أوجد هذا الكون ومتى؟ ما هو مصير هذا الكون وما فيه؟ فوجدت الأجوبة لهذه الأسئلة متضاربة، ومتشابكة من خلال دراستي آيدلوجيّة الإلحاد بالشكل التالي: قال البعض: لا ندري ولا يجب علينا أن ندري، وقال آخرون: إن هذا الكون أزلي الوجود ونحن خلقتنا الطبيعة، كالنباتات، ومن مات أصبح عدما ولا شيء بعده، ورأي ثالث: أنّ الكون أوجدته الصدفة منذ الانفجار الكوني الكبير، ولا شيء بعد الموت.

     وقال الباقون: لهذا الكون خالق، والكون مخلوق، وليس أزلي، وكل ما هو موجود في هذا الوجود هو مخلوق من قبل خالق أزلي مكين عالم حكيم، وبعد فناء هذا الكون نصير إلى عالم أوسع وأجمل من هذا العالم، والإنسان مخلوق ذو جنبتين، روحية وبدنية، أما البدنية فتبلى، وأما الروحيّة فتبقى. فهذه أجوبة أربعة، فأيّها صحيح؟ وأيّها يقبله العقل الذي لا يقنع إلاّ بالدليل العلمي القاطع، والبرهان الساطع؟ سافرت في بحر البحث وركبت سفينة التنقيب والتعقيب  وفتّشت فيما كتبه أصحاب هذه النظريّات الأربع فكانت إجابات شتى.

     إرتأينا أن نكتب بحثاً في أيدلوجيّة الإلحاد لنظهر الصورة الحقيقيةّ لتلك الفكرة، وكان بحثنا قد اتّخذ في دراسته المنهج الموضوعي، وقد شرعنا بتفسير معنى الأيدلوجيّة، وذكرنا عدّة أيدلوجيّات في تلك الفكرة، وخصوصاً في العراق، حيث لايمكن لها المكوث فيه، وقد لفت نظرنا آثار تلك الفكرة وأبعادها، فأظهرنا ما كان مغموراً في طيّات الكتب، والأذهان، والعقول، وربما يكون السبب في غمور ذلك هو الإعلام المزيّف، أو الابتعاد عن المكتبات، وكذلك السياسة المقيتة التي تعاقبتها السلطات، لذا نحاول إظهار بعض المفاهيم والأفكار العظيمة، ومن الضروري بيان ذلك للعالم كي ينظر إلى عين الحقيقة.

  وقد بذلنا جهدنا في إظهار الحقيقة ، وأعملنا فكرنا لنضع هذا البحث المتواضع بالمستوى المطلوب ليكون لنا زاداً في أولانا وأخرانا )وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(([1]).

الأيدولوجيّة :

     مصطلح لاتيني في الأصل يعني علم الأفكار، وهو علمٌ يدرس مدى صحّة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس. هذه الأفكار التي تُبنى منها النظريات والفرضيات، التي تتلاءم مع العمليّات العقليّة لأعضاء المجتمع. وقد انتشر استعمال هذا الاصطلاح بحيث أصبح لا يعني علم الأفكار فحسب، بل النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يُعبّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع والإنسان. والأيديولوجيّة هي فكرة يتقيّد بها المفكرون إلى درجة كبيرة، بحيث تؤثّر على حديثهم وسلوكهم ، وتحدّد إطار علاقاتهم بالفئات الاجتماعية المختلفة([2]).

     لقد أصبحت الأيديولوجية عبارة عن نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات التي يؤمن بها جماعة معيّنة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وتبررها في نفس الوقت، وهي عقيدة شاملة والمظلّة الأخلاقيّة والعقائديّة الكُبرى لتنظيم المُجتمع([3])، ولو تأمّلنا مليّاً في آيدلوجيّة الإلحاد لوجدناه فكراً بعيداً عن الحقيقة قد أصابه الاعتوار.

آيدلوجيّة نظريّات نشوء الكون :

هنالك نظريّات أربع حول نشوء هذا الكون:

الأولى: اللاأدرية (لا ندري من خلق الكون).

الثانية: الدهريّة (لا بداية لهذا الكون بل هو أزلي).

الثالثة: المادية (الكون أوجدته الصدفة).

الرابعة: الموحدون : (هذا الكون له خالق أزلي حكيم).

أوّلاً: النظريّة اللاأدرية :

وهي نظريّة واضحة من اسمها تعني عدم العلم والمعرفة والدراية، فهؤلاء اللاأدريّون صنفان قدماء ومعاصرون:

  1. لاأدريّون (عند القدماء) : فرقة سوفسطائية تقول بالتوقّف في وجود كلّ شيء وعلمه!
  2. لاأدريّون (عند المحدثين) على إنكار قيمة العقل وقدرته على المعرفة، أو على إنكار معرفة المطلق، أو على القول ببطلان علم ما بعد الطبيعة، فإذا عرضت على أحد اللاأدرييّن مسألة من مسائل هذا العلم لم يتكلّم عليها بنفي أو إثبات، بل توقّف عن الحكم فيها، لاعتقاده أنّها لا تقبل الحلّ. فكلّ فيلسوف ينكر المعرفة أو يقول بوجود حقائق لا سبيل إلى معرفتها فهو من اللاأدرية([4]).

     وقد وجدنا في بعض الكتب العلميّة: اللاأدرية هم الذين ينكرون العلم بثبوت شيء أو عدمه، ويزعمون أنّه شاك وشاك، في أنّه شاك، وهلمّ جرا([5]).

     وعلى هذا الأساس فأصحاب هذه النظرية لا يدرون من خلقهم ومن خلق الكون والى أين مصيرهم.

تاريخ اللاأدرية :

     الآراء اللاأدرية قديمة قدم الشكوكيّة الفلسفيّة، إلاّ أنّها قد استخدم المصطلح للمرة الأولى من قبل عالِم الطبيعيات البريطاني (توماس هنري هكْسلِي) في عام 1869م، وخلال أواسط القرن العشرين، جادل عالم اللاهوت الألماني الأمريكي (بول تِيلتش) بأنّ فترة من اللاأدرية، تتّخذ صورة الشكّ، تُعَدُّ مرحلة ضروريّة، قبل تمكُّن الإنسان من الإيمان([6]).

     وأصحاب هذه النظريّة أغلقوا الباب في هذا المجال الذي لا يمكن غلقه، لأنّ الأسئلة التي تتقافز في ذهن الإنسان نريد لها جوابا، والجواب بلا أدري بالنسبة للمسائل الضروريّة انتحار للذات والعقل.

نقد اللاأدرية :

  لو أردنا نقل الانتقادات التي وجّهت لهذه النظريّة لطال بنا المقام لكن على وجه الإيجاز نذكر منها:

  1. الإنسان عاقل مفكّر يدفعه حبّ المعرفة لأن يعرف كيف خُلق ومتى خُلق الكون ومَن الذي خلقه.
  2. اللاأدرية تجميد العقل والفكر والمعرفة.
  3. اعتبر بعض المفكرين الموحدين أنّها تحدّ من قدرة العقل على معرفة الحقيقة الماديّة.
  4. انتقد بعض المُلحدين استخدام مصطلح اللاأدرية بوصفه لا يُمكن تمييزه عمليًا عن الإلحاد، ما يُؤدي إلى انتقادات متكررة من أولئك الذين يتبنون هذا المصطلح لتجنب التسمية الملحدة.
  5. تناقض اللاأدريّون: من جهة أنّهم متيقنون أنهم لا يدرون، وجزموا في توقفكم، فالجزم بالتوقف يخالف اللادريّة، والمفروض لا يدرون، وهم يدرون بأنّهم لا يدرون، لذلك قالوا: إنّ توقفنا لا يفيدنا قطعاً بل يفيدنا شكاً، فنحن نشكّ ونشكّ أيضاً في أننّا نشكّ، وهلمّ جرا، فلا تنتهي بنا الحال إلى قطع شيء أصلاً، ويتمّ مقصودنا بلا تناقض، ونحن نقول: هذا هو التسلسل الباطل بعينه.

ثانياً: النظريّة الدهريّة(أزليّة الكون) :

   إنّ هذه النظريّة تحاول الإجابة على أسئلتنا السالفة الذكر من أنّه من أنشأ الكون وأوجده؟ يأتي الجواب من هذه النظريّة بأزليّة الكون وقِدَم المادة، فالكون أزليّ لا خالق له، والأزلي الذي لا بداية له، فأصحاب نظريّة أزليّة الكون يعتقدون أنّ المادة أزليّة وسرمديّة وأنّها (لا تفنى ولا تستحدث)، وقد ذكرهم القرآن الكريم:)وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر([7])(، ويمكن القول بأنّ الأطروحات الأساسيّة للفلسفة الماديّة هي ما يلي:

  1. لا يوجد إلاّ المادة، ولا توجد أيّة صفات سوى الصفات الماديّة، فالمادة أزليّة، فهي لا تفنى ولا تُستحدَث من العدم. وهي الأصل الراسخ لكلّ الموجودات، وهي الجوهر الواحد والمبدأ الوحيد الأوّل والأخير الذي تُردُّ إليه جميع ظواهر الحياة الماديّة والإنسانيّة والحوادث التاريخيّة.
  2. لا توجد أيّة صفات سوى الصفات الماديّة، وطبيعة كلّ شيء وخصائصه إنّما هي نتيجة تركيب لبعض ذرات هذه المادة تمّ بشكل آلي ومن تلقاء نفسه من خلال الحركة الأزليّة للمادّة.
  3. عادةً ما تُقرن المادّة بالحركة، فالمادة والحركة لهما وحدهما وجود وحقيقة نهائيّة، ولكنّ الحركة كامنة في المادة، ومن ثمّ فإنّ المادة ليس لها سبب أو محرّك أوّل.
  4. حركة المادة حركة آليّة محايدة ليس لها قصد أو غاية أو معنى، وهي خاضعة لقوانين طبيعية لا تختلف ولا تتغيَّر أو خاضعة لقانون الصدفة.
  5. كلّ تَغيُّر، مهما اختلف مجاله، له أساس مادي، وكلّ الظواهر تتغيَّر وتختفي وتذوب في مادة كونيّة أزليّة. والتطوّر، بما في ذلك التطوّر في المجتمعات الإنسانيّة، هو نتيجة تطوّر متصل في القوى الماديّة، ولا علاقة له بالقيم الغائيّة الإنسانيّة([8]).

على هذا الأساس يجب أن نعرّف المادّة، فالمادّة عند الماديّين وصلت إلى ثلاثة وعشرين تعريفًا([9])، نذكر بعضها:

الأوّل: عرّف "لينين" المادّة بقوله:« هي مقولة فلسفيّة تخدم في تعيين الواقع الموضوعي المعطى للإنسان في إحساساته التي تنسخه، تصوّره، تعكسه، والموجود بصورة مستقلة عن الإحساسات»([10])، ويردّ عليه:

  1. هل التصورات والإحساسات والروح والألم ماديّة أم لا؟
  2. الآن لينين يقول ليست ماديّة، إذن توجد أشياء كثيرة ليست ماديّة، فمِن أين جاءت؟!. هذا إشكال لم يجب عليه الماديّون.

الثاني: تعريف انجلز للمادة: «المادة من دون حركة، أمر غير معقول، بقدر ما هي الحركة من دون المادة، وإذن فالحركة محال خلقها وإفناؤها قدر ما هو محال ذلك بالنسبة للمادّة نفسها»، ويردّ عليه:

  1. هل الحركة أو جدت المادّة، أو المادّة أوجدت الحركة؟
  2. وجدت المادة متحركة أم الحركة ماديّة؟
  3. إذا كانت المادّة في حركة مستمرّة وتجدّد دائم، فهي حادثة يعني ليست أزلية, لأنّ المادّة لمّا كانت متجدّدة فهي حادثة حتماً, لأنّ التغيّر المستمرّ يعني: الحدوث على طول الخطّ، وكلّ متجدّد حادث من ألأمور التي يدركها العقل.

الثالث : المادة هي: «كل ما تقع عليه الحواس، وأصولها أربعة, الماء والهواء والتراب والنار»،  ويردّ عليه:

  1. الفكر والذهن والروح والألم والمشاعر والأحاسيس ليست من هذه الأمور الأربعة!.
  2. ولا تقع عليها الحواس.

الرابع : المادة هي: «الوجود الموضوعي خارج الذهن»، ويردّ عليه:

  1. لمّا كانت المادة هي الأصل في كلّ شيء وكلّ موجود خارج الذهن هو المادة، على هذا الأساس الذهن من أيّ شيء؟
  2. هل الذهن وجود أم عدم؟ إذا كان وجود فهو ليس من المادة، وإذا كان عدم هذا خلاف الوجدان.

الخامس : « إن النشاط الذهني أو الفكر خاصيّة مميّزة للمادّة، ولكنّها ليست شكلاً من أشكال المادة، وفي المسألة الأساسية في الفلسفة يطرح الفكر كضد للمادة والروح كضد للطبيعة، فالمادة هي أيّ شيء يوجد خارج العقل ولا يتوقّف عليه، وبالتالي: من الخطأ الجسيم اعتبار الفكر جزءًا من المادة، وفي الوقت الحالي يعتبر التوحيد بين الفكر والمادة من مفاهيم المادية المنحطة»، ويردّ عليه:

  1. تهافت واضح في هذا الكلام (الفكر كضد للمادة)، مع (الفكر والمادة من المفاهيم المادية المنحطة)، كيف أن الفكر ضد المادة، وفي الوقت نفسه الفكر من مفاهيم المادة؟!والضدّان لا يجتمعان.
  2. إنّ الماديين يقولون لا شيء غير المادة، ويعترفون بوجود الفكر، والفكر بالوجدان ليس بمادي.

آيدلوجيّة أزليّة المادّة عند الماديّين :

      زعم الماديّون أنّ المادة لا تفنى ولا تستحدث، وقد كان علماء الفيزياء- قديماً- يعتقدون بلزوم الصفة المادية للعالم الخارجي، ويقولون: إنّ جميع ما في الكون يتكوّن من أجزاء صغيرة لا تقبل التغيير ولا الانقسام وهي الذرّات.

     ولكنّ الاكتشافات الحديثة في مجال الفيزياء برهنت على خطأ المفهوم المادّي، وأثبتت أنّ الذرة قابلة للانقسام, لأنّها مركبة من أجزاء أدقّ منها هي: الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات.

     وثبت أيضاً أنّ المادة في الحقيقة طاقة متكاثفة، تبيّن أن قانون حفظ المادة القائل: (إنّ المادة لا تفنى‏ ولا تستحدث) ليس صحيحاً, فقد أصبح من الممكن تحليل الذرّة إلى طاقة، فتزول عنها الصفة المادية، مثلما يتحلّل الماء إلى أوكسجين وهيدروجين. وبدا واضحاً لعلماء الفيزياء أنّ المفهوم المادّي للعالم يتعارض مع العلم والبراهين التجريبيّة، فاتّجه بعضهم نحو المثاليّة، وأنكر الوجود الخارجي، وقال: مادام العلم قد بيّن خطأ المفهوم المادّي للعالم، فهذا دليل على أنّ الذرّات أو الوحدات الأساسيّة للمادة، ما هي الّا صوراً ذهنية لا تعكس وجوداً واقعياً خارج الذهن([11]).

 

تاريخيّة أزلية الكون:

      إنّ الذين قالوا بأزليّة الكون قسمان، قدامى يسمّون بالدهرية، ومعاصرون يسمّون بالمادية:

  1. الماديّون القدماء: يسمّون بالدهريّة هو اعتقاد فكري ظهر في فترة ما قبل الإسلام، ويشتقّ المصطلح من الدهر لاعتبارها الزمان أو الدهر السّبب الأوّل للوجود وأنّه غير مخلوق ولا نهائي، وتعتبر الدهريّة أن المادّة لا فناء لها([12]).
  2. الماديّون المعاصرون: كالماركسية الشيوعيّة التي ظهرت بعد أن وضع (كارل ماركس) وفريديريك انجلز، كتاب البيان الشيوعي، سنة 1848، ابتدأ العالم يدرك كلمة الماركسيّة ولكنّها لم تكن بعد قد تبلورت، أصبح ذلك سنة 1917 مع ثورة البلاشفة في روسيا، ومن ثَمّ، أصبحت (الماركسية اللينينية)، بالخصوص اتجاها سياسيا عالميّا يسعى إلى إرسائه جزء من الدول المساندة لهذه الإيديولوجيا، القائلون:" الفلسفة المادية فقد توصّلت - منذ أقدم العصور - إلى القول في معرض الإجابة على مسألة ماهيّة العالم: إنّ الكون ليس مخلوقاً، لا للآلهة ولا للبشر، وإنّما وجوده سرمدي أزلي أبدي، ينتقل فقط من حالة إلى أخرى، الأشياء والظواهر والعمليات تكون وتفسد، ولكن العالم نفسه لا يختفي أبدا، وإذا كان العالم موجوداً الآن فإنّه لن يكف عن الوجود مستقبلاً، مثلما لم يكن زمن لم يكن فيه العالم موجوداً، وإلاّ تظل عالقة المسائل التي لا جواب عليها: إلى أين انتهى العالم؟ ومن أين أتى؟([13]).

اعتقاد الماديين في أنّ الكون مادي بحت وأنّه أزلي من أجل إجابة الذهن البشري عن           السؤال :(إلى أين انتهى العالم، ومن أين أتى؟)، فان هذا السبب لنشوء هذه النظرية.

سبب نشوء الماركسيّة الشيوعيّة :

    إنّ الماركسية الشيوعية ترفض نظرية اللاأدريّة، لأنّها غير منطقية ولا معقولة، وفي نفس الوقت لا بدّ من الإجابة على السؤال المهم الذي اشغل بال البشريّة على طيلة تاريخها هو :

ومن أين أتى؟ إلى أين انتهى العالم؟ فوجدوا الحلّ لهذه المعضلة، فقالوا بأزليّة المادّة، وسرمديّتها.

لكنّ الحقيقة ليست كذلك، فالشيوعيّة الماركسيّة أرادت عزل الموحدين من الساحة تماما والتخلّص من هيمنة الكنيسة، لذا يجب علينا أن نعطي تعريفا للشيوعيّة الماركسيّة وهويّتها.

الشيوعيّة :هي تنظيمٌ قيادته يهوديّة، ذو هيمنة عقائديّة، ووسائل تستدرج، مغرية بالشهوة الإباحيّة، والنفعية الميكافيلية([14])، وتسيطر بالاستبداد المطلق المقرون بالعنف الدموي، والإرهاب المعطل لطاقات الحريّة العمليّة والفكريّة.

     والهدف الغائي من هذا التنظيم تحقيق جانب من المخطط اليهودي العالمي الرامي إلى تدمير الأمم والشعوب والأديان وكلّ قيم المجتمع البشري، تمهيداً لإقامة الدولة اليهوديّة العالميّة، التي يحلم قادة اليهود بأنّهم سيصلون إليها عن طريق مخططاتهم التي يعملون على تنفيذها وتقوم على الإلحاد، وتنظر إلى الكون والحياة من منظور مادي، وتسعى إلى تحقيق أهدافها بالحديد والنار، وبكلّ ما تملكه من وسائل، ويبدو أنّهم قد وصلوا لمبتغاهم لاسيما في هذه الإيّام التي أعلنت بها أمريكا أنّ القدس عاصمة الكيان الصهيوني.

     وأمّا الشيوعيّة الماركسيّة الاقتصاديّة فتعريفها: هي حركة فكريّة، واقتصاديّة، يهوديّة، إباحيّة، وضعها (كارل ماركس) تقوم على الإلحاد، وإلغاء الملكيّة الفرديّة، وإلغاء التوارث، وإشراك الناس كلّهم في الإنتاج على حد سواء([15])، ثمّ إنّها من جهة أخرى مذهب اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، وفكري مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض([16]).

نقد نظرية أزليّة الكون :

     تزعم هذه النظريّة أنّ الكون وما فيه أزلي لا بداية له، وأبدي لا نهاية له يعني سرمدي، والعقل يقول:

أوّلاً: القسمة العقليّة في هذا الصدد لا تخرج عن ثلاثة أمور:

  1. هذه المخلوقات وجدت صدفة من غير مُحدث ولا خالق.
  2. هذه المخلوقات لها خالق خلقها، ومُحْدِثٌ أحدثها وأوجدها.
  3. هذه المخلوقات هي المحدثة لنفسها الخالقة لذاتها.

     كلامنا هنا في هذه النقطة الثالثة، لو سألنا العقل أيّها العقل هل تقنع أنّ الشيء يخلق ذاته؟ الجواب:

  1. يقول العقل لا يمكن أن اصدّق (أن يكون الشيء نفسه علّة لوجوده)، لأنّ العلّة يجب أن تكون قبل المعلول ولو كان الشيء علّة لنفسه فلابدّ أن يكون موجوداً قبل وجوده ممّا يستلزم إجتماع (الوجود) و (لا وجود)، وهو مستحيل، يسمّى علميّا تناقض، والدليل على عدم اجتماع النقيضين من القضايا التي لا تحتاج إلى تفكير، لأنّها مستحيلة ذاتا ولا يمكن عقلا ولا تجربة.
  2. وإذا قلت هو العلة على وجوده بذاته، فصار علّة ومعلول في نفس الوقت، وهذا الدور بعينه، وهو مستحيل.

مثال على الدور: عندك بيت مقفل تريد الدخول فيه، والمفتاح داخل البيت, لكي تدخل إلى البيت، عليك أخذ المفتاح من داخل البيت، ولكي تأخذ المفتاح من داخل البيت عليك أن تفتح الباب بالمفتاح.

فالدخول إلى البيت متوقف على المفتاح، وأخذ المفتاح متوقف على الدخول إلى البيت، وهذا مستحيل.

  1. ثم إنّنا نعلم لم نكن ثم صرنا من غيرنا وليس من أنفسنا والى ما لا نهاية، هذا (تسلسل) يعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية وهذا باطل عقلا، لأنّ كلّ مصنوع يحتاج إلى صانع، ولو استمرّت هذه السلسلة إلى ما لا نهاية ولم تنته بغني لا يفتقر فانّه يعني أنّ مجموعة من المحتاجين يكونون غير محتاجين، في حين أنّ ما لا نهاية من الفقراء والمحتاجين محتاجون حتماً.

مثال على التسلسل: البيضة رقم 1من الدجاجة رقم 1، والدجاجة رقم 1 من البيضة                رقم2 ، والبيضة رقم 2 من الدجاجة رقم3، والدجاجة رقم 3 من البيضة رقم3، والبيضة رقم3، من الدجاجة رقم 4، والدجاجة رقم4 من البيضة رقم 5. .....إلى ما لا نهاية، هذا غير معقول, فلا بدّ من وجود قوّة من الأوّل خلقت أمّا البيضة فتولّدت منها الدجاجة، أو خلقت الدجاجة, فباضت البيضة، فهذا غير معقول.

ثانياً: الماديّون لم يقدموا لنا الدليل العلمي على أنّ المادة هي الخالق، متى شوهدت المادّة وهى تخلق؟ وكيف تخلق؟

ثالثا: إنّ كلّ ما يخضع للحسّ والتجربة، ويسمّى مادّة مركبة من مادّة وصورة ، لا يصح أن تكون منشأً لنفسها ولا حتى للظواهر المرتبطة بها ولا يمكن لكلٍ من المادة والصورة أن توجد مستقلة عن الأخرى، فهل الصورة كوّنت المادّة، أو المادّة كونت الصورة؟ فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعمليّة التركيب، تلك التي تحقّق للموجودات الماديّة وجودها، وذلك لأنّ المركب الجامع للمادة والصورة محتاج إليهما وكلّ جزء محتاج إلى الآخر، فلا يوجد من بينهم ما هو غني بذاته ووجوده، فيبقى الافتقار حاكماً وقاضياً بوجود علّة غنيّة تُعدُّ محطة تنتهي إليها قافلة الموجودات الإمكانيّة لتضخّها بالوجود والتحقّق. ومثال ذلك: العلوم الطبيعيّة تبرهن على إمكان تحويل العناصر بعضها إلى بعض، وهذه حقيقة علميّة تتناولها الفلسفة كمادة لبحثها وتطبق عليها القانون العقلي القائل بأنَّ الوصف الذاتي لا يتخلّف عن الشيء، فنستنتج أن صورة العنصر البسيط كالصورة الذهبيّة ليست ذاتيةّ لمادة الذهب، وإلاّ لما زالت عنها وإنّما هي صفة عارضة، ثم تمضي الفلسفة أكثر من ذلك فتطبق القانون القائل: إنّ لكلّ صفة عرضيّة علّة خارجيّة، فتصل إلى هذه النتيجة أن المادة لكي تكون ذهبا أو نحاساً أو شيئاً آخر، بحاجة إلى سبب خارجي([17]).

رابعا: الدراسات العلميّة الحديثة وبالأرقام العلميّة أثبتت أنّ هذا الكون لم يكن ثمّ كان، وتولّد من (الانفجار الكوني الكبير)، وتعطي الأبحاث العلميّة الحديثة عمرا دقيقا عن حياة الكون والمخلوقات التي فيه، ونظرية (الانفجار الكوني الكبير)، وهي من النظريات الراسخة في الأوساط العلميّة، بسبب وجود عدد كبير من الاستدلالات الفكريّة والمنطقيّة والتقنيّة لها، وتعتبر هذه النظريّة أكبر حدث كوني تمكّن البشر من تحقيق اكتشافه في القرن العشرين في مجال نشوء الكون.

   تؤكّد معظم البحوث العلميّة حدوث الانفجار العظيم أو الكبير (Big Bang)، ونشوء ما نسمّيه الكون، والذي كانت بدايته ساخنة جدا وذات كثافة عالية جداً، وتقول النظريّة بوجود الفضاء والخلاء قبل أن يوجد الزمن والمكان قبل 15 ـ 20 مليار سنة تقريبا، وتشرح النظريّة وجود كتلة من الطاقة ومن ذرات الغبار (بذرة الكون البدئي ـ البيضة الكونيّة) كنواة أوليّة، جذبت الغبار المتناثر والأتربة الكونيّة حتى أصبحت كتلة كبيرة لم تستطع تحمل ثقلها وكبرها وسعتها، وبسبب الحرارة الشديدة، وبتأثير الضغط الحراري الهائل داخل البذرة أو النواة أدّى إلى انفجارها، وأسفر الانفجار المروّع عن تفتت البيضة، وتناثر أجزاءها في الخلاء، مُكوّنة المجرات التي يتكوّن منها الكون، فتطايرت شظايا الكتلة الهائلة والساخنة جدا إلى كلّ الجهات، وتناثرت جميع الجسيمات والقوى التي تكوّنت منها بتوافق هائل منذ اللحظة الأولى مع كميّات كبيرة من الغازات، ورافق الانفجار أحداثا كونيّة أخرى إلى أن ظهر نظام الكون الحالي الذي يتكوّن من كلّ ما نراه، وما لا نراه في الفضاء الواسع الذي يقدر قطره المرئي 25 الف مليون سنة ضوئيّة، وبإضافة 24 صفرا إلى الرقم، وكانت تتمّ العمليّات والتحوّلات عندما يتحوّل الهايدروجين تدريجيا وببطء إلى العناصر الثقيلة، وعمليّات أخرى لتجديد الهيدروجين في أماكن أخرى للمحافظة على تكوين نجوم جديدة ومجرات جديدة. ويحدث الشيء نفسه داخل كلّ نجم، وعلى مدى ملايين السنين، إذ تؤدّي إلى تكوين الهيليوم والعناصر الأثقل مثل: (الكربون والأكسجين والسليكون والحديد وسائر العناصر). ويحدث الشيء نفسه في الشمس وبصورة مستمرة، إذ يتحوّل الهيدروجين إلى هليوم في قلبها، منتجاً الطاقة والحرارة والضوء. ومعنى ذلك أنّه لا بدّ من أنّ الكون كلّه تقريباً كان مركّباً في البداية من الهيدروجين، فتحوّل تدريجيا مكوّنا المجرّات والنجوم والكواكب، وهو في حالة توسّع مستمر كما تقرّ بذلك معظم النظريّات العلميّة.

   ولكن لا يمكن أن يتوسّع الكون إلى ما لا نهاية، إذ سوف يتباطأ إلى أن يتوقّف تماما، ويستهلك الهيدروجين الموجود فيه ويتفاعل ويبدأ كلّ شيء بعد ذلك بالانقباض والانكماش، وتسمّى هذه نظريّة بالانكماش العظيم (Big Crunch) ، إذ يتحوّل كلّ شيء إلى ظلام دامس، أو إلى جثّة هامدة، ويرجع الكون إلى فراغ خال أسود، وينتهي كلّ شيء، ليعود إلى الصفر كما بدأ، لأنّ كلّ ما له بداية له نهاية.

ثالثاً: الماديّة(الكون أوجدته الصدفة): الصدفة لها معنيان :

  1. الصدفة المطلقة أو المحضة أو البحتة: هي أن توجد حادثة بدون أيّ لزوم منطقي أو واقعي، أي بدون سبب، وبدون علّة، ﻷنّ الحادث يحتاج في وجوده إلى المحدث وإلاّ صار وجوده واجبا بالذات وهو خلاف كونه حادثا.
  2. الصدفة النسبيّة: هي أن تقترن حادثتان بدون أيّ لزوم منطقي أو واقعيّ لهذا الاقتران، أي بدون رابطة سببيّة تحتّم اقتران إحداهما بالأخرى، وهو جائز الوقوع وغير مستحيل عقلاً([18]).

   إنّ أصحاب نظرية الصدفة المطلقة يؤمنون بالصدفة المطلقة التي أوجدت هذا الكون كما قال بيرتراند راسل:« ليس وراء نشأة الإنسان غاية أو تدبير، إنّ نشأته وحياته وآماله ومخاوفه وعواطفه وعقائده، ليست إلاّ نتيجة لاجتماع ذرات جسمه عن طريق المصادفة»([19])، فوجود معلول بدون علّة صدفة مستحيل، ولا يمكن تصوّره ولا يمكن البرهنة عليه بأيّ شكل من الإشكال، ومن يدّعي وجوده عليه أن يقيم الدليل والبرهان، فهل من المعقول وجود موجود بلا واجد، ووجود مخلوق بلا خالق، ووجود مصنوع بلا صانع؟!

   

وأمّا أصحاب نظريّة الصدفة النسبيّة يؤمنون بالصدفة النسبيّة، ولها عدّة مصاديق:

  1. للتعبير عن عدم القصد من وراء الفعل مع إمكانيّة فعل الفعل بقصد، كأن تلتقي بصديق في محل تجاري من غير موعد فتقول لقيته صدفة أي بغير قصد مني أن ألقاه.
  2. للتعبير عن وجود القصد لإحداث الفعل مع عدم توفر القدرة على فعله، كأن يرمي رجل لا يعرف فنون الرماية هدفًا فيصيبه من أول رمية فيقال: إن إصابته للهدف كانت من قبيل الصدفة أي ليست عن استحقاق ومهارة لديه.
  3. للتعبير عن عدم وجود رابط بين حدثين متزامنين أو متلاحقين أي انتفاء ما يسمى برابط السببيّة بينهما سواء كان هذا الرابط مباشرًا باعتبار أحدهما (سبب) والآخر (نتيجة)، أو غير مباشر باعتبار أنّ كليهما نتيجة مشتركة لسبب ثالث غير ظاهر.

مثال: لو مات إنسان في بيته، وسماع صراخ امرأة تسكن المنزل المجاور له لسبب آخر فنقول: إنّ تزامن صراخ المرأة مع موت الرجل أو حدوثه بعد الموت مباشرة كان من قبيل الصدفة، وليس بسبب حدث الموت.

نقد نظريّة الصدفة :

     لو سألنا العقل هل تقبل أنّ الكون وما فيه جاءت به الصدفة؟ لأجابنا:

أولاً: إنّ الصدفة مفهوم انتزاعي لا وجود له حقيقة بالخارج إلاّ بوجود فاعل، فالفاعل الذي قام بفعل بدون قصد يسمى صدفة، فالفاعل أقدم من الصدفة زمانا، والفاعل هو علّة لإحداث الصدفة، فكيف تكون الصدفة هي التي جاءت بالكون، وهي متولّدة من الكون؟!.

ثانياً: لو تنزّلنا وقبلنا بالصدفة المطلقة، أي وجود سبب بلا مسبب، لكن هذه الصدفة شيء موجود في الذهن لا واقع له في الخارج، وأهل الصدفة لا يعترفون إلاّ بما كان ماديّا ومن المادّة، وهذا إشكال في غاية التعقيد يواجهه الماديّون.

ثالثاً: يعتقد الماديّون بإمكان وقوع الصدفة ،حيث يقولون: لو جلست ستة من القرود على آلات كاتبة وظلت تضرب على حروفها ملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات ظلت تدور المادة لبلايين السنين، ويردّ عليهم:

  1. إنّ هذا النوع من الصدفة النسبية نحن لا ننكره ومن الممكن وقوعه، أنّ كتابة القصيدة من قبل القرود جاءت عبر تفاعلات عدّة أسباب وعلل لإنتاجها فالقرود والضرب على الآلة الكاتبة والآلة نفسها والحبر والورق والزمن كلّها أسباب تشترك لإنتاج هذه القصيدة - إن وقع ذلك صدفة - فلا نستطيع أن نقول إنّ القصيدة طبعت من وحدها صدفة دون سبب، فالسبب موجود والعلة موجودة وهي القرود، لكن الصدفة في خلق الكون ليس من هذا القبيل حيث لا يوجد أي سبب ولا أي علّة في خلق الكون، هذا الذي نقول عنه غير معقول بل مستحيل.
  2. لو تنزّلنا جدلا وقبلنا هذا المثال، أنّ الصدفة ربما تتكرّر ولكنّها ليست دائمة على طول الخط، وما نشاهده من القوانين الثابتة في الكون، هذا دليل قاطع على عدم وقوع الصدفة في خلق الكون وكذلك في القوانين التكوينيّة الثابتة التي لا تتغير.

رابعاً: أشكل أهل الصدفة على الموحدين بأنّهم أيضا يقولون بالصدفة، وأيضا يقولون بوجود شيء بدون علّة، وهو إله الموحدين فإنّه صار صدفة ومن دون علّه. أجابهم الموحدون:

  1. إنّ التجارب العلميّة لا تعمل إلاّ في حقلها الماديّ المحدود، وغير الماديّات التي هي ما وراء الطبيعة(الميتافزيقية) غير خاضعة للتجارب.
  2. الواجب بذاته ليس ماديّا ولا معلولا فلا يتصوّر بحقّه الصدفة إطلاقا، بل هو علّة العلل.

رابعاً: نظرية التوحيد( هذا الكون له خالق أزلي حكيم) :

    ذكرنا آنفاً أنّ النّظريّات الثلاثة(اللاأدريّة-الأزليّة-الصدفة) غير مقنعة للعقل أبداً، وبقي السؤال خالٍ من الجواب، وانحصر الطريق هنا بالطريق الرابع، وهو أنّ للكون خالقاً وموجداً وعلّة وهو الخالق الحكيم القدير الأزلي السرمدي.

   قال الموحّدون: إنّ الأدلّة على وجود الخالق بعدد أنفاس الخلائق، وبعدّة طرق وبراهين:

الدليل الأول: الحصر العقلي، فالقسمة العقليّة في نشأة الكون لا تخرج عن ثلاثة أمور:

  1. إمّا أن تُوْجَدَ هذه المخلوقات صدفة من غير مُحدث ولا خالق، وهذا ما قد بان بطلانه آنفاً.
  2. وإمّا أن تكون هي المحدثة لنفسها الخالقة لذاتها، وهذا ما قد بان بطلانه أيضاً.
  3. أو أنّ هذه المخلوقات لها خالق خلقها، ومُحْدِثٌ أحدثها وأوجدها.

     وحيث لم يكن قسما رابعا(لم نجعل نظرية اللاأدرية جوابا حتى تكون قسما رابعا) في هذه القضيّة الحصريّة، تعيّن الطريق الثالث وهو وجود خالق حكيم، وهو الله.

     وهنا يرد إشكال، وهو أنّنا لم نخرج خارج هذا الكون حتى علمنا أنّه لايوجد أيّ شيء غير هذا الكون، فلا علم لنا بما وراء الطبيعة لكي نحصر الطريق بدليل الموحدين.

     ويرد عليه: كثير من الأمور لانراها لكن نرى آثارها، حتى ولو خرجنا خارج هذا الكون وشاهدنا أي مخلوق سنقطع أنّ له خالق.

الدليل الثاني: الإمكان، وتنقسم الأشياء جميعاً من حيث الوجود والعدم إلى ثلاثة أقسام:

  1. إمّا مستحيلة: أي مستحيلة الوقوع مثل: اجتماع النقيضين.
  2. أو ممكنة: يعني هناك مَن أوجدها وهي لم توجد نفسها، مثل خلق الإنسان.
  3. أو واجبة: يعني موجودة بذاتها ولم يوجدها أحد، وهي العلّة الأولى، التي لا موجد لها.

     وتوضيح ذلك: إنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو إمّا أن يقتضي الوجود لذاته ، أي ينبع الوجود من ذاته ، فهو (واجب الوجود)، وإمّا يقتضي العدم لذاته، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه، فهو (ممتنع الوجود) يعني مستحيل، وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء (أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين ، أعني : العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم ، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته بـ(ممكن الوجود)، وعندما نتصوّر الأشياء والظواهر الكونيّة نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيّتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود ، فلابدّ أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك، وهو الذي أخرجها من كتم العدم إلى حيز الموجودات، وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن سيحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلّة الوجود ويطرد عنه صفة العدم.

     وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل في صفة (الإمكان) سوف يحتاج إلى عامل آخر ليوجده والثاني يحتاج إلى ثالث ليوجده والثالث يحتاج الى رابع...، وهكذا دواليك بحيث يلزم (التسلسل) وهو باطل عقلا.

     وأمّا لو كان العامل الخارجي الذي هو علّة لوجود الأشياء ـ معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء التي أوجدها، يعني هو أوجدها وهي أوجدته لزم (الدور) المستحيل في منطق العقول، ولمّا كان التسلسل والدور باطلين عقلاً لزم أن نذعن بأنّ كلّ حادث ممكن ينتهي إلى موجد (غني بالذات) و(قائم بنفسه) غير قائم بغيره، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.

قال الموحدون: إنّ هذا الواجب بالذات والغني هو خالق هذا الكون ليس هي (الصدفة)، لأنّها ممكنة ومخلوقة، وليس الكون أوجد نفسه بنفسه لأنّه يقتضي الدور والتسلسل الباطلين، فانحصر الطريق ولم يبقَ إلاّ واجب الوجود وهو الله.

إشكالات:

  1. إذا كان لكلّ موجود علّة وسبب لإيجاده، فمَن أوجد الله؟
  2. إذا كنتم تقولون السببيّة العلّة ، فنقول بأنّ المادّة ليس لها سبب.
  3. إذا قلنا المادّة بلا سبب يكون قولنا أكثر قبولاً ومنطقيّة من قولكم, فإذا كان الله المُفترض أكثر تعقيداً من المادة بلا سبب, فالأولى أن تكون المادة البسيطة بلا سبب؟
  4. لو كان الله موجود لماذا لا نراه؟

أجاب الموحدون:

  1. قد مرّ أنّ الأشياء إمّا:(ممكنة-أو مستحيلة-أو واجبة)، أن الله هو واجب، والواجب هو علّة العلل وهو الأوّل والمبدأ، وهو القاهر.
  2. أمّا المادّة فهي ممكنة فقيرة للعلّة، ودليلنا أنّها فقيرة لولا وجودنا لما حصلت الصدفة في كثير من الأحيان، فالصدفة حادثة وليست قديمة.
  3. لا يوجد وجه تشابه بين الواجب بالذات القائم بنفسه، وبين الممكن حتى نقول بالأولويّة، الصدفة ممكنة، والله واجب.
  4. الإجابة على سبب عدم رؤية الله تعالى:

أ: كثير من الأمور مهمة جدّا في حياتنا متوقّف عليها ذات الإنسان والحيوان والنبات بل جميع المخلوقات، يعتقد بوجودها جميع البشر لكن من المستحيل مشاهدتها، مثل الروح، النفس، الألم، الذهن وأمثال ذلك.

ب: رؤية الله بالعقل وليس بالبصر، فآثاره تدلّ على وجوده.

ج: امتناع الرؤية البصريّة على الله لأنّه ليس مادّة قابلة للرؤية، ولو فرضنا أمكان رؤيته، استلزم فقره للمكان والحيز الذي يشغله وهو غني عن كلّ شيء.

 

الدليل الثالث: الفطرة:

         وهو طريق القلب ودليل الفؤاد فكلّ فرد ينجذب إلى اللّه ويميل إليه قلبيّاً وبصورة لا إراديّة، سواء في فترة من حياته، أم في كلّ فترات حياته دون انقطاع وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كلّ فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود اللّه، و من أوضح الأدلّة على فطريّة المعرفة بالله عزّ وجلّ، ذلك الدافع القوي الذي يُلجئ الإنسان عند المصائب والمخاطر إلى نداء الله تعالى، والاستغاثة به كائناً من كان ذلك الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن ففي الشدّة تبدو فطرة الناس جميعاً كما هي في أصلها الذي خلقها الله عليه، وهناك أسئلة تدور في ذهن الإنسان و تلحّ عليه في داخله لا يستطيع دفعها عن أصل الوجود و نهايته وسببه، وعن الموت وأسراره، وعن الروح وأسرارها مما يدلّ على وجود فطرة كافية في النفوس تبرز هذه الأسئلة عن الإله والوجود فمن الذي فطر النفوس على إبراز هذه الأسئلة عن الإله ؟!

إشكالات على الفطرة:

  1. لو كانت معرفة الله فطرية لما أنكره أحد.
  2. هناك الكثير من البشر يعبدون الحجر والبقر والشجر ويقولون أنّ أنفسهم تسكن لها وتطمئن.
  3. نفوس العقلاء تتطلّع إلى الاستدلال على وجود الله فلو كان أمرا فطريّا لما تطلّع للاستدلال عليه.
  4. الفطرة دليل ليس علمي ولا منطقي.

أجاب الموحدون:

  1. انحراف الفطرة أمر طارئ فالإنسان قد تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف عن المعبود الحق و البشر جميعا في كلّ العصور تجدهم يبحثون عن اله يعبدونه و هذا استجابة لنداء مرتكز وموجود في داخلهم وهذا يفسر اتخاذ من لم يصلهم منهج واضح عن الخالق بآلهة من كل صنف يعبدونهم.
  2. هذا دليل على الجوع الفطري الموجود في أعماق كلّ الإنسان أنّه بحاجة للتعلق بإله, لكن وهؤلاء الوثنيون أخطأوا المصداق وضلّوا الطريق.
  3. إنّنا لا نسلم أنّ جميع العقلاء كذلك، بل جمهور العقلاء مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى، وهم مفطورون على ذلك، ولكن تتطلّع نفوسهم للاستدلال لإبطال دعوى المشككين.

الدليل الرابع: الحدوث:

         فبعد أن ثبت علميّا من (الانفجار الكوني الكبير) أنّ الكون ليس أزلي وليس قديم فهو إذن حادث، وبرهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على (حدوث) الكون وأنّ له بداية، هذا يعني مسبوق بالعدم، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم (أي كان حادثا ليس أزلياً)، فإنّ له محدثاً بالضرورة، لامتناع وجود الحادث دون محدث، وهذا المحدث هو الله.

إشكال: لو سلّمنا لكلّ حادث محدث وأنّ هذا الكون حادث وأحدثه محدث، لكن لا نسلّم أنّه الله، لعلّه شيء غير الله أحدثه لكنّنا لا نعرفه.

أجاب الموحدون:

        قد ثبت، فلا خلاف من أنّ العقل يحكم بعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

    عدم علمك بوجود الله، لا يحقّ لك الإنكار على من وجده بأيّ طريق يحصل منه العلم واليقين أو الاطمئنان، ولا دليل عندك على عدم وجوده، ولا دليل عندك على وجود غيره، فيبقى القول بوجود الله بلا معارض.

الدليل الخامس: النظم:

         وهذا النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة ، أحد العوامل المهمّة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين وأهل العلم إلى أنّ هذا النظام الدقيق في كلّ أرجاء المعمورة والقوانين الصارمة لدليل على وجود مدبر ومدير حكيم.

     و يمكن توضيح دليل النظام الدال على وجود الله من خلال الخطوات التالية:

أوّلاً: الصياغة المنطقية: هذا العالم منظَّم- و كلّ منظَّم يحتاج إلى منظِّم- إذن: هذا العالم يحتاج إلى منظِّم.

ثانياً: مفهوم النظام : مفهوم النظام من المفاهيم الواضحة في ذهن الإنسان، ومن خصائص النظام أنّه يتحقق بين أمور مختلفة سواء كانت أجزاء لمركب، أو أفراداً من ماهية واحدة، أو ماهيات مختلفة، فهناك ترابط وتناسق بين الأجزاء، أو توازن وانسجام بين الأفراد يؤدّي إلى هدف وغاية مخصوصة، هي وجود الشيء على ما هو عليه من النظام الهادف.

ثالثاً: كيفيّة الاستدلال بالنظام : يتألّف دليل النظام من مقدمتين: أحداهما حسيّة و هي : هذا العالم منظَّم ، الأخرى عقلية وهي : كلّ منظَّم يحتاج إلى منظِّم ، و إذا تمّت المقدمتان يثبت المطلوب ، و هو : هذا العالم يحتاج إلى منظِّم .

 - إثبات المقدمة الأولى هذا العالم منظَّم: لا شك في أنّ هناك نظام سائد في الظواهر الطبيعية التي يعرفها الإنسان إمّا بالمشاهدة الحسيّة الظاهرية وإمّا بفضل الأدوات والطرق العلميّة التجريبية ومن هنا فإنّ للعلوم الطبيعية دور واسع في هذا الدليل.

النتيجة : بما أن العالم منظَّم بحسب المشاهدات الحسية والوقائع التجريبية، وبما أنّ كلّ منظَّم يحتاج إلى منظِّم بالبداهة العقلية، إذن فالعالم يحتاج إلى الخالق المنظِّم، و بذلك يثبت المطلوب وهو وجود الله سبحانه.

إشكالات حول النظم:

  1. إنّ الدليل في برهان النظم غير منحصر بالفاعل العليم، ولعلّه من صنع الطبيعة نفسها، واذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
  2. الاستدلال بدليل النظام قائم على التشابه بين الكائنات الطبيعية و المصنوعات البشرية فلأننا شاهدنا أن جميع المصنوعات البشرية لا تخلو من صانع، فإن مصنوعات البشر موجودات صناعية، بينما الكون موجود طبيعي .
  3. إذا كان برهان النظم أن وراء هذا الكون منظم وخالق حكيم وقوي لماذا حدوث هذه الكوارث والزلازل والفيضانات.

أجاب الموحدون:

  1. إن وجود النظام يستلزم وجود كائن ذي علم و إرادة وقوة وحكمة وهندسة وتصميم، والطبيعة غير العاقلة و غير العالمة و غير الحكيمة و الطبيعة من جهة ذاتها لا علم لها فلا يصح أن تكون هي العلة المنظمة، فثبت بذلك انحصار الطريق بخالق حكيم.
  2. إن العقل المدُقّق في حقيقة النظم و المتتبع لعلته، سيحكم فورا بأن مصدر النظام هو خالق حكيم عالم قد أوجد الأجزاء المختلفة كمّا وكيفا، وهذا الحكم الذي يصدر عن العقل لا يستند إلى شيء سوى إلى ماهية النظام وطبيعته الرافضة لتحققه بلا فاعل عالم ومدبر.
  3. الزلازل والكوارث التي تحدث بالعالم لا تنفي وجود منظم حكيم وتلك الكوارث لها أسباب منها:

أ. نحن لا ندعي أنه لا يوجد أفضل من هذا النظام، فربما تكون الآخرة أفضل من هذا النظام.

ب. سبب طغيان الناس بعضهم على بعض فينزل العقاب للردع.

ج. بعض الحوادث فيه ضرر لبعض الناس ولكن فيه منافع جمة لبقية الخلق، كما في الرياح، فيه ضرر لبعض الناس، لكن منافعها لا تعد ولا تحصى.

د. الكثير من الكوارث التي تحدث تابعة لعلل وقوانين منها اكتشفها العلم ووضع لها تدابير ومنها سيكشفها الزمن، إذن ليست فوضى.

الدليل السادس: وجوب دفع الضرر:

        وهو أنّ كلّ عاقل في دنيا الوجود لو احتمل وجود ضرر يبادر ويرتب أثرا على هذا الاحتمال ليدفع الضرر حتى لو كان الاحتمال(المخبر)، ضعيفا، بالخصوص إذا كان المحتمل(الخبر) خطيرا، على هذا الأساس لو آمنّا بوجود خالق لهذا الكون واطعنا أوامره التي فيها تنظيم لحياتنا، ثم تبيّن عدم وجود خالق لم نخسر شيء.

     ولو قلنا بعدم وجود خالق، ثم تبين وجود خالق سوف نخسر خسرانا مبينا، وتنتظرنا جهنم وعذاب أليم.

مثال: لو أنّ شخصا نحتمل احتمالا ضعيفا جدا أنّه صادق، وأخبـــرنا بأنّ هذا القـــــدح فيه ماء مسموم،

     أليس العقل يفرض علينا أن نجتنب شرب هذا الماء لعلّه يكون مسموما فعلا فنهلك ونموت؟!.

     فكيف لا نصدق هذا العدد الكثير من الخلق والأنبياء والمرسلين أصحاب المعجزات كلهم أخبرونا بوجود خالق هو الله مَن آمن به له الجنّة، ومَن كفر له جهنّم؟!.

إشكال:

  1. هل كلّ مَن قال هناك ربّ يجب إن نؤمن به هذا غير معقول؟!

أجاب الموحدون:

  1. من قال نحن نقول كلّ مَن قال هناك ربّ يجب أن تؤمن به؟

إنّما الكلام عن هذا الإله الذي جاءتنا رسله بهذا العدد الهائل ودعوة واحدة وهدف واحد واصل واحد ويصدّق بعضهم بعضا وبينهم مسافات زمانيّة ومكانيّة متطاولة ومتقاربة وقد صدقوا دعواهم بالمعجزات ولم يأتِ مثلهم يدعو إلى إله آخر.

  1. دفع الضرر المحتمل من أهمّ الأدلّة العقليّة المنطقيّة متكوّن من كبرى وصغرى ونتيجة، حسب القياس المنطقي(الاستثنائي)، وهنا نضرب مثالا:

الكبرى: كلّ نار محرقة، الصغرى: وهذه نار ،النتيجة: فهي محرقة، ونطبّق هذه القاعدة على دفع الضرر المحتمل: الكبرى: يحكم العقل أنّ كلّ خطر محتمل يجب دفعه، الصغرى: تكذيب دعوى هذا العدد الهائل من الأنبياء بوجود الله احتمال الخطر وارد، والدخول في جهنم خطر فظيع، النتيجة: يجب الإيمان بوجود الله دفعا للخطر المحتمل.

خلاصة آيدلوجيّة نظرية التوحيد:

        كان سؤالنا الأصلي كيف نشأ الكون ومن فيه؟ فكان جواب الموحدين كما يلي:

  1. بعد بطلان جميع النظريّات السابقة انحصر الطريق بوجود خالق حكيم.
  2. نعلم بالضرورة لكلّ علة معلول، بما أنّ الكون معلول لابدّ له من علّة، والعلّة هي الله، وعند الإشكال عليهم من أوجده، أجابوا أنّه واجب وليس ممكن، فهو قائم بذاته.
  3. دفع الضرر المحتمل واجب عقلا، ومن لم يؤمن بالله، سوف يخلّد في جهنّم.

النتيجة: لا يوجد مانع عقلي على عدم الاعتقاد بالله، بل يوجد مقتضي على وجوب الإيمان بالله، وهو الإجابة المقنعة على سؤالنا من خلق الكون، ودفع الضرر المحتمل وهو الخلود في جهنم.

الإلحاد في العراق:

     ثمّة حركة في العراق تروم شيوع ظاهرة الالحاد فيه، وهذه الحركة البائسة ممتعضة من تمسّك العراقيّون بثوابته الدينيّة ومن علاقته بالله سبحانه وتعالى، فالعراقيّون شعب توحيد، ونحن على يقين أنّ هذا الشعب ليس عليه خطورة ظاهرة الإلحاد، أو خطورة العلمانيّة، فرجل التوحيد له أثر كبير في عقيدتهم والدليل على ذلك تهافت الافئدة وتلبيتها لنداء رجل التوحيد السيّد السيستاني حينما أفتى بفتوى الجهاد الكفائي خرجت الملايين ممتثله له دفاعاً عن العراق وشعبه ومقدساته.

     لاريبَّ أنّ الإلحاد في العراق ليس له مأوى يمكث فيه، فهو ليس بالأمر الجديد على الفكر التوحيدي، ولا ينبغي على العراقيّين الموحدين أن يضيقوا به ، فلطالما انتصر التوحيد على الملاحدة بالحبّ والبرهان.

     إنّ ادّعاء الملحد (جون ريكاردو كول) بأنّ نسبة الالحاد بلغت 32% في العراق، وهي لاشكَّ نسبة مبالغ فيها بصورة كبيرة، بل وغير موضوعيّة خاصّة إذا علمنا أنّ مَن أجراها هو شخص ملحد مبغض للتوحيد، وكذلك الجهة المشرفة على الاستبيان ملحدة كما تسمّي نفسها(جمعيّة الملحدين)، وأمّا معهد غالوب الذي يتّخذ من زيورخ مقرّاً له يناقض تلك الجمعيّة، حيث أجرى دراسة أظهر فيها أنّ العراق من أكثر دول العالم تديّناً مؤمناً بالتوحيد وأنّه خالي تماماً من الالحاد([20]).

     لو أجرينا استنتاجاً لذلك الادّعاء الالحادي، لوجدنا خلاف العقل، فحسب قولهم أنّ نسبة الالحاد في العراق 32% هذا يعني أنّ أكثر من ثلاثة عشر مليوناً ملحداً في العراق، لاسيما وقد قارب عدد نفوس العراق (39) مليوناً، وهذا ادّعاءٌ مخالف للعقل والذوق، فياتُرى مَن خرج ملبّياً لفتوى ذلك الرجل التوحيدي الذي خرج لفتواه العراقيّيون جميعاً من المسلمين وغيرهم؟ وكذلك مَن يذهب لمشاركة زيارة الأربعين في كربلاء؟ فهل المشاركون ملحدون؟

الخاتمة

     كيف نشأ الكون ومن أوجده سؤال لطال ما أشغل فكر البشريّة للإجابة على هذا السؤال قمنا برحلة بحثيّة وتصفحنا بها ما كتبه بنو البشر طلبا للإجابة التي تقنع العقل السليم، وتذعن لها عقول العقلاء فكانت النظريّات كثيرة، ولها آيدولوجيّة مبهمة، وأهمها أربع:

     اللاأدرية، وقد أجابت بلا أدري، وأمّا نظريّة أزليّة الكون هذا ما لا يقبل به العقل، بدليل أنّنا لم نكن ثم كنّا، والعلم كذبها بنظريّة الانفجار الكوني الكبير، وأمّا نظريّة الصدفة فهي مخالفة لّلغة والاستعمال, لأنّه كلّ صدفة تولّدت من فعل فاعل غير قاصد, ويدعي أصحاب الصدفة أنّ الكون صار من غير فاعل، فهذه ليست صدفة، وإنّما شبهة لا يقبل بها العقل.

     وأمّا نظرية وجود خالق، فلها آيدولوجيّة واقعيّة، ولا يوجد مانع عقلي من قبولها، بل يوجد مقتضي على وجوب قبولها، المقتضي هو الإجابة المقنعة على سؤال العقل من خلق الكون، فتبيّن أنّ الله هو الخالق، بل يوجد مانع لعدم القبول وهو احتمال الضرر الناشيء من عدم الإيمان بالخالق وهو ورود جهنم، والعاقل يسعى لدفع الضرر ولو كان محتملا.

المصادر والمراجع

  1. أصول الفلسفة الماركسية اللينينية، لينين،ط1، دار التقدم،روسيا،1977م.
  2. الأسس المنطقية للاستقراء، الشهيد محمد باقر الصدر، ط2،المجمع العلمي والثقافي للشهيد الصدر، العراق،2005م.
  3. الأديان والذاهب المعاصرة، د. ناصر العقل ود. ناصر الغفاري،ط2،الأعلمي،لبنان،2006م .
  4. الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، تعريب : ظفر الإسلام خان راجعة وتحقيق : الدكتور عبد الصبور شاهين،ط1، الجيل،لبنان،2007م.
  5. الله يتجلّى في عصر العلم- كريسي موريسون- ترجمة : محمود صالح الفلكي،ط1، دار القاهرة، مصر،1966م.
  6. تدعيم المنطق، الأستاذ العالم المتكلِّم النظَّار أبي الفداء سعيد فودة، جولة نقدية مع المعارضين لعلم المنطق من المتقدمين،ط1، دار القاهرة، مصر،1999م.
  7. تاج العروس من جواهر القاموس ، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني،ط2، دار الهداية، لبنان،2009م.
  8. تهافت الفلاسفة، محمد بن احمد الطوسي الغزّالي،ط3،دار القاهرة،مصر،2006م.
  9. التعريفات ، علي بن محمد بن علي الجرجاني،ط1، دار الكتاب العربي ،لبنان،2005م.
  10. الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، للعلامة جمال الدين حسن بن يوسف الحلي،ط3 انتشارات بيدار، إيران، 2007م.
  11. شرح أصول الكافي، كتاب العقل والجهل، صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي،ط1، مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگى، إيران، 1996م.
  12. شرح المقاصد في علم الكلام، سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني،ط2، دار المعارف النعمانية، لبنان ، 1981م.
  13. دروس في الحكمة المتعالية، شرح كتاب بداية الحكمة، السيّد كمال الحيدرى،ط1، دار الصادقين للطباعة والنشر، إيران، 1999 م.
  14. العين، الخليل بن احمد،ط2، مؤسسة دار الهجرة، إيران،1987م.
  15. فلسفتنا الميسرة (موسوعة الشهيد الصدر)،علي مطر الهاشمي‏، ،ط1،المجمع العلمي والثقافي للشهيد الصدر،العراق،2009م.
  16. فلسفتنا، محمد باقر الصدر،،ط4، المجمع العلمي والثقافي للشهيد الصدر،العراق،2009م.
  17. قرارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
  18. القاموس السياسي، أحمد عطية،ط1،الأعلمي،لبنان،2011م.
  19. كشف الظنون- حاجي خليفة، ط1،دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان،2006م.
  20. معجم مقاييس اللغة ابن فارس، أبو الحسين أحمد.، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون،ط3، دار الفكر، لبنان، 1979م.
  21. الموسوعة الحرة مادة(لاأدرية).
  22. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري،ط2،دار القاهرة، مصر،2008م.
  23. النّظريّات العلميّة الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقديّة، حسن بن محمد حسن الأسمري-.الأصل رسالة دكتوراه، ط1، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، السّعوديّة،2006م.
  24. مذاهب فكرية معاصرة ،محمد قطب،ط2، دار القاهرة،مصر،2009م.
  25. محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره.
  26. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادرـ محمد النجار،ط1، دار الدعوة، مصر،2008م.

 

 

 

 

([1])هود:88 .

 

 

([2]) دي تراسي،  موسوعة مقاتل من الصحراء - مفهوم الأيديولوجيا:194.

 

 

([3]) الحسيني، مفاهيم علم الاجتماع: 89.

 

 

([4]) وحيد الدين خان الإسلام يتحدى:53.

 

 

([5]) الجرجاني، التعريفات : 1/222.

 

 

([6]) الموسوعة الحرة مادة(لاأدرية).

 

 

([7]) سورة الجاثية:24.

 

 

([8]) عبد الوهاب المسيري ،موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية:ج1ص 135.

 

 

([9]) الأسمري، النظريات العلميّة الحديثة:1/ 337 .

 

 

([10]) لينين، الأعمال المختارة:14/130.

 

 

([11]) الهاشمي، فلسفتنا الميسرة(موسوعة الشهيد الصدر): 47.

 

 

([12]) الطوسي الغزّالي، تهافت الفلاسفة:79.

 

 

([13]) لينين، أصول الفلسفة الماركسية اللينينيّة :42.

 

 

([14]) الميكافيلية: هي أسلوب في المعاملات، يتسم بالخداع والمخاتلة، مبني على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهذا المبدأ يأخذ به أكثر السياسيين، وينسب إلى المفكر الإيطالي ماكيافلي 1469_1527م رائد هذا المبدأ، والذي سجله في كتابه الأمير، وقدمه لأحد ملوك أوروبا الوسطى، ينظر القاموس السياسي لأحمد عطية ص1105_1106.

 

 

([15]) العقل و الغفاري، الأديان والذاهب المعاصرة :92 .

 

 

([16]) قطب، مذاهب فكريّة معاصرة: 409 _410.

 

 

([17]) الشهيد الصدر، فلسفتنا: 92 .

 

 

([18]) الشهيد الصدر،الأسس المنطقية للاستقراء:2/59.

 

 

([19]) كريسي موريسون، الله يتجلّى في عصر العلم:51.

 

 

([20]) المدى بريس.