الانتفاضة الشعبانية  دروس وعبر شاهدة على التاريخ

غازي جلوب الزركاني  

يبقى التاريخ بأعتباره أيام .. وأناس .. ودول أبي على التغيير والتحول كونه ببساطة حوادث ووقائع مضت وأنصرمت .. وليس لنا أزاء هذه الحقيقة ألا سبيل الذكرى والأعتبار .. فمن شاء ذكر ومن شاء أعتبر ونحن العرب كأمة شاءت لنفسها أن تتبرأ عن مصدر قوتها وعناوين وحدتها لتعيش على هامش التاريخ بل هي على أعتاب أن تودع وتغادر التاريخ لتقف طوابير تستجدي كل شيء لتحيى حياة الذل والعار والخنوع وهذه الأيام مرة علينا ذكرى أنتفاضة الشعب العراقي في شعبان / آذار من عام 1991 م والتي شكلت أنعطافة جديدة في مسيرة تاريخ هذه الأمة في صراعها مع الأنظمة البوليسية والطاغوتية التي أبتلت بها المنطقة بالرغم من كل المسوح وعمليات التجميل الأسلامية والقومية والوطنية التي أضفتها حكومات تلك الأنظمة البوليسية تلك الأنظمة التي أحالت كل الخيرات ـ البشرية والطبيعية ـ التي حباها بها الله تعالى ناراً وحديدا ً لتحرق الأخضر واليابس , والأمال والأحلام .

وتبقى الحروب الداخلية التي خاضها النظام وقائده الضرورة ضد الشعب والأمة في العراق وضد قواه السياسية الأسلامية الوطنية والتصفية الجسدية لمعارضيه من أخوان ورفاق دربه مرورا ً الى القتل والتهجير والتشريد لرموز الأمة من علماء ومفكرين ومثقفين ورموز قوميين ووطنين الى تصفية أناس فقراء وبسطاء وليس لهم ذنب سوى أن أجهزة النظام صنفهم الى جانب أعداء الوطن والقائد .كل ذلك شكل واعزا ً ودافعا ً صامتا ً لقيام الثورة في شعبان .

كما تبقى الحروب العبثية التي أشعل فتيلها النظام مع جيرانه العرب وغيرهم والتي أتت على أبناء العراق , وخيرات العراق , وطموحاته وأماله في الحياة الحرة الكريمة , لهي السبب الأخر الذي دفع بالعراقيين للخروج على النظام السابق مطالين بضرورة أسقاط النظام وضرورة عودة العراق الى حضن أمته والعالم .

لكن تبقى واقعة ساحة سعد في البصرة عندما أقدم جندي عراقي عائد من حرب الكويت مصوبا ً فوهة دبابته نحو جدارية صورة صدام في تلك الساحة ليحيلها الى رميم تذروه الرياح وهي القشة التي قصمت ظهر البعير كما كانت هذه الحادثة الشرارة التي أضرمت النار بالهشيم في كل أنحاء العراق ومدنه ونواحيه وقراه .

هكذا تحولت الأنتفاضة من البصرة الى مدن العراق كافة في العماره وذي قار والديوانية والكوت والى شمال العراق في السليمانية وكركوك وأربيل ودهوك كما بقت بغداد تحت مرمى سلاح أمن النظام الخاص وقوات الحرس الجمهوري الموالية والوفية للنظام والقائد الهمام . أما أغلب المحافظات التي يقطنها أخواننا السنة ظلت تترقب وتتأهب لما يحصل قريبا ً . وبالنتيجة خرجت الأمة في العراق من أدناها الى أقصاها شيب وشباب ورجال ونساء , عرب , كرد , تركمان ومن كل الطوائف والأقليات ليدكوا جدار الخوف الذي شيده الجلاد بأشلاء وجماجم أبناء الأمة وبأموال كابونات النفط وبصمت وشراكة القوى الكبرى وتأمر العرب الطائفيون .

خرجت الأمة برغم زيف وكذب وخذلان القوى الكبرى ـ خصوصا ًـ أمريكا التي تنكرت لدعوتها في نصرة الشعب العراقي وثورته على النظام كما تنكرت لكل دعواتها في أعمال حقوق الأنسان في العراق .

خرجت الأمة لتفضح نفاق وطائفية النظام العربي وعنصريته والذي لم يساهم , وقوى التحالف على تقديم أي دعم يذكر للأنتفاضة ً حتى على الصعيد المعنوي من خلال أستقبال وحوار بعض رموز الأنتفاضة , وعمل الأخوة العرب ـ خصوصا ً الخليجيون ـ على التعتيم الأعلامي  المقصود على الأنتفاضة بل وتصوير الأنتفاضة على أنها محاولة أيرانية لقلب النظام . كما ساهمت قوى التحالف مع عرب الخليج على تمكين النظام عسكريا ً من خلال السماح لطيرانه المروحي أن يعلو سماء العراق والسماح للقوات العراقية المحاصرة بالخفجي بالعودة الى أرض الوطن لقمع الأنتفاضة . خرجت الأمة لتفضح وجه النظام الكالح الذي طالما تمسّح بمسوح التقوى والأيمان وتشدق بحب الجماهير له وألتفافها حول قائد الضرورة ذلك الوجه الذي عمل على تحسينه فنانو ومفكرو العرب لينعموا بكابونات نفط شعب العراق على حساب الأمانة والكلمة الصادقة المسؤولة.

خرجت الأمة ـ ويا للأسف ـ والمعارضة العراقية ـ ألا ما ندرـ بجناحيها الأسلامي والوطني غارقة في أوهام السلطة وكراسيها , قد أرهقها الصراع الأخواني والداخلي , وأودى بحيائها حب الدنيا والأمل , تجيد لعبة التغيير مع العافية , وتمتهن لفظ أبنائها المجاهدين البررة .

وأمام هذه التحديات الجمة من الضعف في الخبرة والأداء والخطاب , والوهن في الأمكانيات والنصرة والتواصل التي واكبت الأنتفاضة منذ أنطلاقتها حتى عودة النظام كالذئب الجريح ليجهز على الأمة المنتفضة التي قل ناصرها وكثر واترها متسلحا ً بمعونة الأخوة الأعداء ومشورة الحلفاء على وؤد هذه الحركة , وأرتكبت بحقها أفضع حماقاته وأبشع جرائمه التي يأنف عن أرتكابها عتات الأجرام هتلر وموسليني وستالين يرتكبها النظام وأزلامه أمام مسمع ومرآى ـ بل على مقربة من التحالف الدولي المشين الذي طالما تشدق بمقولات الجريات والحقوق .

رحم الله تعالى تلك النفوس التي زهقت صابرة محتسبة في أمنية الرضوانية وأبو غريب ومواقع الفيالق وفي أزقة وشوارع بلادنا العزيزة في الأرياف والمدن والجبال والأهوار والقصبات وما حواه تراب الوطن من أشلاء أبنائه في المقابر الجماعية  ـ وندعو الله تعالى أن يتغمد تلك الأرواح الطاهرة في واسع رحمته أنه الحنان المنان ذو الجلال الأكرام .