نقد الجهل المحض مقال عن الجرائم الثقافية في ميشا

 

صادق ناصر الصكَر

عندما يشعر المرء بانه يواصل محنة البقاء خارج الزمن , فان ألعاب التسمية ستبدو امامه بلاغة فائضة  لا تعني شيئاً امام أندحاره المروع , ولذلك فأن استعارة تسمية الغابرين القديمة لمملكة مزعومة , هي ميشا , للتعبير عن المكان الحالي , ميسان ،

قد تبدو مقبولة كمناورة دلالية اخيرة للخروج من احلام اليقظة التي تستنبت طمأنينة راكدة بعبور الأزمنة بينما أقف كالمشلول ، حيث الكدر و الضيق ، بعيداً عن صيرورة الحياة الجديدة . وكلما أبتعد المرء عن هموم التقانة و الثقافة وانثيالات التحديث ، الغائبة اصلاً عن ميشا , وعندما تتناسل جيوب الفراغ في الحياة العرضانية اليابسة لجمهور ميشا ، فأن التوق إلى سرد القصص ، لتزجية الوقت الدبق ، سيكون أكثر الحاحاً ... وها هي ذي اخر الحكايات : يقال ، والعهدة على القائل ، ان واحداً من ابناء هذه المملكة السوداء و المنحوسة ، وهو طبيب بيطري نابه ، وبدلاً من الأهتمام بحيوانات ميشا الأليفة و طيورها المرعوبة من مرض غامض وعوضاً عن قراءة خطاب العيادة ، فأنه قد صرخ – بعد زمن من التجوال في ازقة المدينة – بأنه الداعية المقدس لحلاق وديع ، متأنق وجذاب ، أطلق لحية تشبه لحية كارل ماركس وهو يعلن بأنه المهدي المنتظر . قتل الأول ، بعد موت الكثير من الطيور بقليل ، وهرب الثاني ، الأكثر قداسة حسب خطاب القتيل ، وما زال الدهماء ومرشد وهم يتعقبون المخلص الغائب !! ، وأذا ألقي القبض على حلاق ميشا الهارب فأن عدد مدعي المهدوية في هذه المدينة سينقص واحداً وهو ما سيفتح شهية الكثير من التالفين لسد النقص الحاصل . وأذا كانت ظاهرة أدعاء المهدوية لا تمثل حدثاً عجائبياً في حياة الجماعات السابحة في الرثاثة المجتمعية ، كما هو الحال في ميشا ، فأن تلك الظاهرة – ذيوعها وتطرف مريدو أقطابها وأستفزازهم اليومي لمرجعيات المؤسسة الدينية – ستصلح للتوظيف كعتبة سوسيولوجية لمقاربة الرأسمال الترميزي للجماعات انفة الذكر . 

     يذكر المفكر الفرنسي الكبير بيير بورديو في كتابه المتميز " الحس العملي " أن الرأسمال الترميزي يشمل جملة الأفكار و العقائد و العادات الاجتماعية التي تشكل قوى محركة و ناظمة وبديلة عن قوة التحريك الاقتصادي بالمعنى الصناعي الحديث ، فأذا كانت الجماعة البشرية ، حسب مطاع صفدي هذه المرة ، تعاني من الغياب التام للرأسمال الواقعي المتمثل في التقنية وأفكار الصحوة ومؤسسات الثقافة و المحركات الاجتماعية المعقلنة ، فأننا يجب ان نتوقع عودة كل مكبوتات الرأسمال الترميزي إلى الوجود ومنها المكبوتات السحرية والظلامية و الخلاصية الغاضبة بوصفها أحتجاجاً على الواقع حين يكون واقعاً هشاً يشبه تخطيفات الأشباح ، أي عندما يكون واقعاً مغموراً بالبؤس وغاطساً في محاجات ذلك البؤس حيث المناحة و الضغينة والجهل المحض ... أما طقسنات عودة المكبوت فأنها ستتوزع ، على اقل تقدير ، بين اشدها اثارة للاسى و للضحك الاسود ، كخروج المخلصين المنتظرين من العيادات و صالونات الحلاقة و البساتين المهجورة على اطراف ميشا ، او اكثرها اثارة للرعب مثل قمع الفكر و المسائلة النقدية وتكميم افواه منتجي النقود ، وفي كلا الحالتين فأننا سنكون على موعد قريب مع العديد من الجرائم الثقافية . وأذا كانت الفاشية ، بكليانيتها التي لا تطيق مشاغبات البعض من المكبوتات ، وهذه حقيقة تزداد سطوعاً يوماً بعد يوم ، قد أرغمت الكثير من وحوش الرأسمال الترميزي على النوم ، فها هي الوحوش وقد أستيقظت لان الفاشيست ،بعنفهم المطلق ، وهذا هو اخر ما تعلمه المثقفون في ميشا لم يطلقوا النار على العقل فقط ، بل انهم – إلى جوار ذلك – كانوا يقومون بخنق هوامات و ضغائن الدهماء ، شركائهم في تحطيم العقل و تخريب الحياة ( أفترقت الفاشية عن شريكها و أشبعته ضرباً لا شيء الا لانها كانت تعلم بانه سيقوم بتسميم الحياة بالمقلوب ) ... وبعد أن تهاوى الحاجز الايديولوجي الفاشي تحت اقدام اليانكي ، ولان الثقافة في العراق عموماً ، وفي ميشا المهملة و البعيدة حسب الخرائطية الطائفية و المناطقية البغيضة للفاشية بشكل خاص ، لم تتمكن بعد من تأسيس تقاليدها النقدية ، فقد وجدت ثقافة ميشا نفسها وجهاً لوجه امام صحوة الوحوش النائمة او ما يطلق عليها مطاع صفدي : عودة كل هذا  المكبوت الذاتوي إلى حلبات التفعيل العياني ، وبعد أندلاع الحروب بين ضباع الأسطرة في ذلك المكبوت وأحتقاناتها المخيفة ألتي ألتهمت أبناءها الشرعيين دون رحمة وبلا شفقة ( كما حدث ، على سبيل المثال لا غير ، مع مطاردة حلاق ميشا وأغتيال داعيته البائس ) ... بعد كل ذلك ، ومع أنبلاج هذا الفجر الأسود ، من سينقذ الثقافة المغدورة من غضب الدهماء وجهلها المحض . قد يبدو هذا الحديث نخبوياً أو نوعاً من التعبير عن عقد الشعور بالتفوق على اعداء انتهت المعركة بانتصارهم او محاولة يائسة للايحاء بتضحوية زائفة ، قد يبدو هذا الحديث كذلك وهو يوزع الأدوار و يفترض محاصصة ، ذات هواجس أرستقراطية ، بين الفاعلين الأجتماعيين : المثقف بوصفه الكائن المنذور للجمال و الحقيقة والأجهاز على سلالات الأوهام ومنح الأشياء والأحداث ما تستحقه من المفهمة والأعراض عن التفاهات ، من جهة ، والرعاع الذين اشتكى علي ابن ابي طالب (عليه السلام ) من خوائهم وسلبيتهم وعقولهم الغفل ، من جهة اخرى ، ولكن اليست هذه هي الأمور ، كما تحدث الأن وهنا في ميشا !! . من يمتلك الجرأة على الخداع لأتحاف ثقافة ميشا ومعجم تاريخها بكذبة اخرى , حتى لو كان البائع هو غرامشي , عن الثقافة الشعبية التي يجب ان تكون معشوقة المثقفين !! ... كان يمكن لهذه الدراسة ان تكون بحثاً في القصص ألتي تحمل تواقيع قصاصي ميشا أو تتبعاً لأنثيالات نصوص شعرائها أو تنقيباً في المدونات النقدية الملتحقة بركب القصص و القصائد ، ولكن النقد الثقافي ، المرتجى و المؤمل ، سيأخذ شكل الخطاب المعوج أذا أكتفى بدروسه النصّانية ، كما هو الامر حتى اليوم ، دون أن يكلف نفسه عناء البحث في الأنساق الثقافية والاجتماعية المتحكمة باقلام المبدعين . أننا لا نكتب ولا نفكر في فضاء الحرية بل في فضاء المراقبة و العقاب ، ونحن ندون النصوص تحت العباءة الغليظة للزمن الثقافي الميت و ألذي تتناهبه أكراهات شمول المكبوت المستعاد ، ولذلك فأن محاولة نسيان هذه الحقيقة المرة ، وأنا أكتب عن الثقافة في ميشا ، سيكون ضرباً من ضروب الهروب إلى الأمام ، لا أكثر ولا أقل . أعلم تماماً أن الكتابة عن ثقافة ميشا لن تعدو كونها كتابة مبتورة أذا لم تتضمن ، على سبيل المثال لا الحصر ، بحثاً في دلالة المنطوق في شعر جمال جاسم أمين و جمال الهاشمي و نصير الشيخ وعلي سعدون وفراس طه الصكَر و حسين الهاشمي وماجد الحسن و حسن السلمان ورعد زامل وهاشم لعيبي و غسان محمد ، أو نصوص التشكيل و القص لدى حسن الياسري و سالم حميد واحمد صبري ولطفي العبيدي ، أو نقود ودراسات محمد قاسم الياسري او أبحاث علي حسين هذيلي وحسين جلوب و سمير الشيخ وروايات محمد الحمراني وسلام نوري ، ولكنني ، عبر كل ذلك ، سأقف على حافة القيامة ، كما هو الزمن الموبوء بالتفاهات الفاشية في أدب زهير الجزائري ، لأنني على يقين ان كل هذه النصوص القادمة من هذه الحفرة التي بلا ذاكرة وبلا تاريخ ستكون اشبه بومضات العدم اذا لم اتكلم عن ايام القبض التي افلتت منها تلك النصوص ... ايام القبض ، حيث لابسط ، والتي لا تستحق تسمية اخرى سوى كونها ايام الجرائم الثقافية !! ان الثقافة المكتوبة والمرئية في ميشا ، ومع تعاطفي مع مخاتلات منتجيها ، وهي ثقافة الخوف من التكفير والنبذ والاقصاء لانها لا تدون سطراً واحداً قبل ان تفكر بالكثير من العواقب ولهذا ترى ان الكاتب و الشاعر و المسرحي و القاص والاعلامي و المؤرخ و الباحث لا يكتب شيئاً عن فضائح و عيوب الراسمال الترميزي الطافح في أنماط المخيال و السلوك الجمعي في ميشا ولذا فأن أشتغالاتهم تتمحور حول نصوص الحياد أو الغموض او ، أذا استلزم الامر ، الاستغراق ، ربما دون وعي ، في محاولات تجميل القبيح ( أنتشرت ، في الاونة الاخيرة ، وفي أوساط المثقفين في ميشا هواية الكتابة عن جماليات الامكنة لا لشيء ، اذا اردنا الاحتكام لعلم نفس الابداع ، الا لانهم يخشون الكتابة عن سكان تلك الامكنة لتصبح نصوص جماليات المكان نوعاً من الحنين المقموع لحضور الانسان الجميل ) . أن الثقافة لا تحتمل مشارط التجزئة ، وكل المشاريع الابداعية لها حق الوجود ، الوجود للذات ، ولكن المثقف القابع في تلافيف المدن المسكونة بأرواحيات العبث وهيمنة ثقافات الدرجة الرابعة وخطابات الهذر والأخلاقويات الزهدية الزائفة لصناع الهيجان و الجهل المحض ، سيكون مثقفاً فصامياً أذا ماصدّق الكذبة التي تقول ان نصاً مصمتاً عن ثقافة المدينة هو الخيار المناسب ، لضمان الحضور الثقافي بدلاً من التورط في اماطة اللثام عن تهافت المفاصل الكبرى في دوغمائيات جمهور ميشا لا امنح لنفسي الحق في دعوة مثقفي ميشا للأنخراط في متاهات الطوبى الخاصة بالتصحيح ، ولا أريد لاي منهم أن يكون واحداً من شهداء الكلمة نيابة عن أحد , ولكن لا تصدقوهم بعد الان ، أنهم يكذبون ، وأعني بالكذب هنا تلك المواربة الأبداعية و الفكرية المصحوبة ، في أحايين كثيرة ، بتأنيب ضمير موجع للأفلات من ضريبة المثاقفة الباهضة ... بلغة اخرى ، فأن الأحتجاج على هذه المواسم الثقافية السيئة لا يحتمل سوى أمرين : أما أن يتشبث المثقف بوعيه النقدي الحاد لتفكيك ثقافة ميشا و الكتابة عن أنساقها لتعويم النافع وتبديد الأكاذيب ، وأما أن يتلبس لبوس واحدة من مكبوتات الرأسمال الترميزي ، أي مطابقة الوضع مع حلاق ميشا بالأعلان عن المهدوية لأقناع الناس ( أي أيهامهم ) ببداهة الأختباء !! . ( بخصوص الأختباء ، فأن الدهماء  - كما علمتنا التجارب – تبذل جهداً خارقياً لأرغاب المثقف على الصمت ولكنها ، وتلك واحدة من مفارقات مكبوتات الراسمال الترميزي ، لا تحترم هذا الصمت . أنها تتضاحك عليه ... وتلك هي أبشع جرائمها الثقافية !! ) . 

والجرائم الثقافية في ميشا هي حلقات الممنوعات المتكاثرة و الضاغطة حول الممارسة الثقافية ، فتشكيل الوعي الجمعي ، تنميطه ، عادة ما يحدث بوسائل هي ، في غالبيتها العظمى ، بدائية ، كما أن الخطاب الطوباوي التهييجي المهيمن ، وهو خطاب يحاول أكتساب الشرعية من الأيديولوجي المقدس ، بقي مخلصاً لوصايا النفس المبتورة في تشويه العقل والركون إلى رتابة الضجر الخانقة . أنني لا أصطنع المواجهات الوهمية ولا أحيل صراعات الديكة إلى مبارزات ساخنة بين فرسان لاوجود لهم كما أنني لا اجد رغبة ، اصلاً ، في تهويل الامور او تبشيعها ... أنا أكتب ، حسب غوته ، عين على الكتاب وعينان على الحياة ، وما يحدث في الحياة يؤكد ، المرة تلو الاخرى ، أن الثقافة الحقيقية أي ثقافة نقد وتعرية الجهل المحض المتناثر على كل الجدران في ميشا لن يرى النور أذا لم يحظَ النقد الثقافي الصارم ، النقد المكتوب بلارحمة ، بالحد الادنى – على الاقل – من الاعتراف لدى الاحترابيون في ميشا . ان مهمة النقد الثقافي ، كما يقول ليتش ، هي تحليل الجذور الاجتماعية للأحداث المجتمعية و المؤسسات و النصوص ومهادها ومهاويها وتفريعاتها الايديولوجية ، وبدون ان نمتلك الحق في اقامة المؤتمرات و الندوات وحرية نشر المكتوب لممارسة النقد الثقافي بالمعنى الذي حدده ليتش ، لالمجرد الايهام بوجود حركة ثقافية ، لتفكيك الانساق الفكروية الصدئة والدخول النقدي إلى القلاع والثكنات الايديولوجية المشيدة في المدينة والمسؤولة عن تفريخ الكثير من الاوهام ... بدون ذلك ، فأن الثقافة في ميشا ستواصل عزلتها الموروثة ، حيث لن تكون اكثر من سلال من القصائد و القصص والمقالات المنقولة ، وعلى ذات الطريق القديم ، إلى العاصمة دون أن يفكر أصحاب تلك السلال بالمساهمة في ردع الوحوش العائدة . أن العقل ، في ميشا ، يتراجع أمام شراسة الدهماء وخطابها شبه الوثني ، فأذا كانت الأنماط الثقافية المنتخبة تبيح للمثقف أن يعقد نوعاً من المصالحة مع أستتباعات تراجع العقل الكارثية وأن يؤسس لألفة ناشزة مع هذا النكوص القيمي الشمولي ، فأن الجرائم الثقافية – حينذاك – ستأخذ ملامح الأقدار الماورائية . والجرائم الثقافية في ميشا عادة ما تكون مكشوفة وظاهرة ( وما الحاجة إلى العتمة في مملكة سوداء !! ) ، فالتشهير و القدح وسياسات النبذ الاجتماعي هي ادوات الذبح ، الأكثر رهافة ، في جرائم ميشا الثقافية ، ولكي لا أتحدث بالنيابة عن احد ، فسأكتفي بواحدة من حكاياتي الثقافية في هذه المدينة المدفونة تحت الغبار الغليظ للتخلف .... بعد كتابتي لدراستين ، تضمنت الاولى مقاربة نقدية تحمل سمات علم اجتماع المعرفة للتاريخ الثقافي الخاص بنشوء وتكون وصعود وهيمنة احدى الجماعات الايديولوجية المتشددة في ميشا ( وقد نشرت هذه الدراسة في احدى المجلات ) ، وكانت الثانية بحثاً تزينه الاسماء الفقهية اللامعة في البعض من المظاهر السلبية في مراسيم عاشوراء الحسين (ع) ، ولم تنتظر الدهماء طويلاً ، فقد أمتلأت جيوبي بالأوراق والبيانات ألتي نقلها لي الاصدقاء من شوارع وأسواق ميشا ، وهي أوراق بلا توقيع تحرض الناس على من أسمته بالخنزير وما إلى ذلك من ذوات الأربع ، وهي حادثة أكدت لي ، بعنفها وجماعيتها ، ما كنت قد تعلمته من قبل وأعني بذلك أن تجريم المثقف ليس فعلاً وحدانياً يتكفل به جهابذة التجهيل ، أولئك ألذين يحركون الدهماء بكلمات سلطوية تحمل رائحة الجهل الغاضب ، بل هو نتيجة محتومة لفضاء عام هو الجهل المحض ، وهو خواء فكري وأفلاس قيمي وأنحدار حضاري " يقع في كل مكان ، يواجه كل عين ، ويتسلط على كل لسان ، لم يعد لهُ وجه محدد يعرف به ، ولا اسم واحد ينادى به . أن شموله أوسع من أي تحديد  . وأن ظهوره أوضح من أي تعريف . يهاجم الحواس الخمس لكنه في الوقت ذاته لايمكن الدلالة عليه " . هذا الجهل يخترق نسيج الاشياء ، يسخر من علامات المرور ، ويمقت نظافة الزقاق ، ويحلم بالوعود و الماورائيات ولا يستوحش الخشونة ينسى الكتب و يفكر بوساطة لقبضة المرفوعة ويعشق الفضائح وحكايات الخدر عشقاً جهنمياً ، أنه يدوخ مع مكبوتاته ولكنه لا يطيق كلمة المثقف عندما يذكره بكل ذلك . ثم أن المسألة ليست مجهرية لكي يقال لنا ان ميشا هي مدينة المبدعين ، أذ ماجدوى حضور هؤلاء المبدعين اذا كانت ثقافة القطيع هي الغالبة في نهاية ألمطاف وهي ثقافة سلفية لاعقلانية ستزداد تجذراً في ميشا أذا قدر لنا أن نتحدث ، على الجانب الاخر ، عن فضائح المثقفين ومشاريعهم الخنادقية في البناء و ألتاسيس ، أذ من يستطيع أن يضمن أن أياً منهم قد أنجز قطيعته مع أنساق الهدم والموات ، لأنه أذا كان الاخصاء النقدي للمثقفين ، سواءً أكانوا تكنوقراط أو منتجي نصوص ، هي جريمة الجماعة ذات الرؤى المهروسة و المعجونة بالجهل المحض بحق أولئك المثقفين ، فأن جريمة المثقف – في أحايين كثيرة – هي الذاتانية المفرطة والنرجسية والاستعلاء بوصفه ، حسب مقاسات خطاب عمودي ، المنفذ الرؤيوي الوحيد للخروج من الدوامة . وأذا كان بأمكاني أن أقول شيئاً ما عن ثقافة ميشا كما تتمظهر في القدرة على أنتاج النصوص المكتوبة ( لأن الثقافة وحسب النظريات التواصلية الأكثر حداثة ، وكما يعلم الجميع ، ليست حكراً على من يكتب بل هي حقل مشاع يتقاسمه المهندس المبدع مع الرسام و الفيزياوي الحاذق مع الشاعر و الكيمياوي مع الفقية و الطبيب مع الفيلسوف ... الخ ) ، فأنني سأكون ملزماً بالأعلان عن التالي : في ميشا ، وسط هذا الدغل الواسع من الشؤم الثقافي ، فأنه يوجد لدينا من يكتب ومن يؤمن ، وهذا هو المهم ، بالكتابة كأستراتيجية للأنعتاق وتحرير الروح وتمزيق خيوط العنكبوت الثقافي الذي طالما اشار اليه الناقد العراقي الكبير محمد قاسم الياسري ، بل أن البعض من أولئك الكتاب قد تمكنوا من أختراق هيبة المركز المحتكر تاريخياً للجماعات الثقافية والاقلام الوحدانية القابعة في العاصمة ، ولكن المشهد الثقافي ، هنا في ميشا ، ومع وجود هذه الفسحة ألتي نستحقها من التفاؤل ، يبقى مشهداً منقوصاً ومثلوماً لأن حركة صناعة البطولية نحو المركز لم تكن كافية ، حسب جمهور ميشا، للأيمان بهم ، وتلك جريمة اخرى ، أي تاجيل الاعتراف بحضور المثقف إلى اشعار اخر ( أذا لم نقل رفض ذلك الاعتراف بالمرة ) ولحين تقديم المثقف اوراق اعتماده بوصفه مطابقياً تكرارياً لأنساق ثقافية لا تعني المطابقة معها سوى الموت ( الأنساق ، هنا ، ليست مفردة أطلاقية بلا ضفاف كما قد يستنتج البعض من مروجي رؤى وافكار ما بعد الحداثية ذات المخالب العدمية ... أنظر ، على سبيل المثال ، الاسلام المحمدي النقي بأعتباره فكراً توحيدياً تقدمياً لقيادة الحياة مقارنة بأرتكاسات الجماعات الاسلامية المرتهنة ، هي وجمهورها ، لظلامية مكبوتات رأسمالها الترميزي ، او ما تبقى من أشراقات اليسار القادمة من أجمل لحظات النثر الماركسي ، نثر الحياة كما قامت بتخطيطه يراع ماركس ،  مقارنة بالدوغما اللينينية ذات الهوس الحزبي القاتل ) . لم يكن بوسعي سوى أن أطلق واحدة من أكثر ضحكاتي تشاؤماً وأنا أقرأ ما كتبله جان بودريار ، أحد أهم فلاسفة ما بعد الحداثة ، كتب يقول وهو يصف الحياة الثقافية الفرنسية المطعونة في هويتها : " ليست تصرفاتنا الحماسية ، التذكارية بكل وضوح ، ألا جزءاً من هذا الجلد الجماعي . ونحن في فرنسا ، خاصة ، أناس تالفون : أذ يخيم طقس مأتمي حقيقي وتعزيات على حياتنا العامة . جميع نصبنا هي أضرحة ، الهرم ، القوس ، ومتحف اورسي ، وغرفة المدفن الكبير ، وهذه المكتبة الكبرى ، أنها النصب التذكارية للثقافة " . أذا كان بودريار يصف الثقافة في بلد الانوار بهذه الكلمات التأبينية ، فبأي طريقة يمكن أن نكتب ، نحن ، عن ميشا ألتي تعيد أنتاج اسوأ أزمنتها الثقافية حيث السلطة التوتاليتارية لأنظمة التجهيل الشمولي و الطواعية المطلقة لأرغامات الحياة الشاحبة المسكونة باطياف الجهل المحض . ولكن الأحساس ، الذي يشبه الحنين إلى الألفة المبعثرة تحت عجلات البرابرة ، الأحساس بالعودة ألتي لا فكاك منها إلى الذات المنكوبة وأستنهاض ما تبقى فيها من قدرة على المقاومة و العصيان ، هو ألذي يدعوني إلى استعارة كلمات اخرى تحمل توقيع فيلسوف عملاق لايقل شأناً عن مواطنه بودريار ، انه جيل دولوز . أني اتذكر أن هذا المفكر اللامع ألذي ألقى بنفسه من الطابق الخامس لاحدى البنايات في باريس احتجاجاً على زمن الامركة الحافل بالجرائم الثقافية الكبرى ، قد كتب قائلاً : " أن الفلسفة لا تتبلور في الحدائق الكبرى أو الطرق ، وأنما داخل المدن و الشوارع ، بما في ذلك أكثر شيء أصطناعاً فيها " ، وهو بذلك ، وبطريقته الخاصة ، كان يقوم بأعادة الاشياء كلها إلى مسقط الرأس ، حسب تعبير مارشال بيرمان ، وهذا هو معنى الحديث الطويل المنتظر عن ضرورة الأستبسال في ترميم ما تصدع في ثقافة ميشا حتى لو أستلزم الأمر صراعاًً شرساً مع وحوشها المستيقظة ، تلك المستحاثات و المتعضيات ألتي ستخسر كل شيء عندما تبدا رؤوسنا بالتفكير . ليس لنا خلاص من اقدارنا في مكابدة الحياة القاسية في هذه المدينة المنسية ولكننا يجب أن نزرع شوارع ميشا وازقتها وكل دروبها الموحلة بالكلمة المباركة ، بالنصوص / الأفخاخ لاصطياد الأوهام والأكاذيب والأساطير الداعية لذلك النسيان المر . يوماً ما سيتذكر الناس ، حتى أولئك الموهومين الذين يخرج من أنوفهم ذباب المكبوت وهم يدخنون أفيون الجهل المحض ، أن سبعة ثامنهم الكلب الوديع ، حارس الأشياء الجميلة ، قد نددوا بكل هذا الهراء وبأنهم قد رددوا على مسمع ومرأى من صناع الجرائم الثقافية نشيد نوفاليس : ليست الثقافة في الحقيقة ألا الحنين إلى الوطن ، إلى مسقط الرأس ، ألا نوع من الحاجة الملحة لأن تحس بأنك في بيتك أينما كنت إلى أين ، أذن ، نحن ذاهبون ؟ إلى بيتنا على الدوام ... إلى ميشا .