ضمن برنامجها الاسبوعي، عقدت مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية ندوتها الحوارية التي كانت بعنوان (نعي الثقافة، قراءة في الانساق المفارقة للواقع) للباحث السيد (ابراهيم حمد حسن) ، قدم الندوة الدكتور عبد الحسين طاهر.
وبما أن العنوان هو "ثريا النص" التي نستطيع من خلالها أن نقرأ ثيمته ، فإن موت الثقافة هو ما ذهب له الباحث، لأن فعل النعي، لا بد أن يكون لاحقا للموت، وهو بالتأكيد ليس موتاً حقيقياً، بل هو موت مجازي، يؤشر على الدور السلبي الذي مارسه المثقف العراقي، وهو يواجه الانحدار الخطير الذي تعرض له المجتمع العراقي، وبدلا من أن يضع المثقف اصبعه على الاسئلة الحقيقية، ويبدع الاجابات، نراه ينخرط في ذلك الجدل البيزنطي الذي يتحدث عن واقع آخر، لا وجود له إلا في خياله وأوهامه. 
يقول السيد الباحث: لا اكتمكم سراً حينما اقول: هذا ما استطعت كتابته بعد أن شعرتُ بضرورة الكتابة عن التي وصلتنا، وهي في غنىً عنا، وهجرناها، ونحن بأمس الحاجة إليها، أرجو أن لا تظنوا بي سوءاً فأنا لم أقصد السياسة! لا إنها الثقافة التي فارقت الحياة أو تكاد أن تفعل، ولكنها يمكن أن تُبعث من جديد عندما نُدرك قيمة الحياة بلا ثقافة.

وقد شخص الباحث تجربتين ثقافيتين كبيرتين بوصفها مثالا عن موت الثقافة المجازي، وهما مثالان صارخان من وجهة نظره، أحدهما تجربة محلية، في محافظة ميسان، هي رابطة حوار الثقافية، والأخرى تجربة عراقية، يمثلها اتحاد الأدباء والكتاب في نسخته التي ظهرت بعد 2003، وملخص ما قاله عن التجربتين بعد أن طرح السؤال الآتي: مَنْ الذي يتحمل مسؤولية فقدان الثقافة قدرتها على التأثير في واقعنا الاجتماعي؟ 

وفي طريقنا للإجابة عن سؤالنا المركزي، سأحكي لكم عن أحد الانساق الثقافية الذي حاول أن يلحق الأذى بالحماقة، لأن الثقافة بحسب نيتشه "هي إلحاق الأذى بالحماقة"، حكاية رابطة ثقافية إسلامية اسمها حوار، يقول احد أعضائها: "كان الهم الأول في ذهن مؤسس حوار بناء إنسان يحمل الإسلام هماً وثقافة، مثقف إسلامي رسالي" ويضيف "ولتكن البداية محمد باقر الصدر دليل عمل الرابطة، والمحطة الناشطة فيها". ولكن المشاريع الثقافية مهما كانت الهموم التي تتبناها نبيلة، وتمتلك دليلاً نقياً كالصدر، تبقى عرضة لخطر الانحراف عن أهدافها المرسومة، إن لم تمتلك القدرة على المطاولة، لأن الثقافة مشروع مرثوني يفشل من لا يمتلك لياقة ثقافية بقدر التحدي الذي ورط نفسه فيه، وهذا ما حصل مع حوار كمشروع ثقافي جماعي بخلاف بعض أفرادها بوصفهم مشاريع ثقافية فردية، فقد حقق بعضهم النجاح رغماً عن انف الحماقة. 

وأما حكايتنا الأهم من سابقاتها- يقول السيد الباحث- فهي حكاية عنوانها العريض (اتحاد الادباء والكتاب) الذين يشعر المرء، وهو يقرأ سلوكهم الجمعي ان طهارتهم الثقافية لا تسمح لهم بتلويث تاريخهم المتميز والنقي من اي محاولة للاندكاك بالواقع. وإن تسامحنا في الكيفية التي يستنشق فيها اتحاد أدبائنا رائحة الحرائق السياسية التي تشتعل بجوارهم كيف يمكن لمن يرى رؤية سارتر "إن الإلزام الأخلاقي في قلب الإلزام الجمالي" أن يكون متسامحاً مع الكم الهائل للجرائم الثقافية التي كشفتها حفريات مثقفين كبار، في جسد الثقافة العراقية، والتي اقترفها المثقف العراقي أحياناً، دون وعيه لحاكميه أنساق الغذامي اللعينة، وأحياناً بوعي تام كالذي يفعله الروائي علي بدر- مثلا- الذي يكتب بلؤم استشراقي. نحن بحاجة، مرة أخرى، للأسئلة التي قد يتوهم بعضهم إنها تحاول التشفي بالمثقفين والسخرية منهم، والحق إنها أسئلة تختصر الطريق الشائك بعقدنا الاجتماعية، وتحاول الإمساك بالمثقف، ومطالبته بالكف عن "برمائيته" سيئة الصيت ليكون مثقفاً فقط، يؤمن بأن الثقافة التزام، ومنهج حياة، واستعداد دائم لدفع ضريبة الإيمان بقدرة الكلمات على التغيير، شرط ان لا تتعرض للخيانة خصوصاً ممن يتبجح بها ردحاً من الزمن بوصفه مثقفا، وعليه ان يُمارس دوره الطبيعي في صناعة الحياة، ولا يكتفي بتعليم الجيل الناشئ كيف يشتم الحياة، لأننا نمتلك رصيداً كافياً من اليأس بقدرة الثقافة على فعل شيء ٍ ما، وعليه تجديد آلياته في التواصل مع الجماهير وردم الفجوة التي ما زالت تتسع بينهما. 

ان مشكلة المثقف- بحسب علي حرب- تكمن في افكاره بالدرجة الاولى، ولذلك نحن بحاجة الى مؤسسات ثقافية تغادر الحياد السلبي، وتتخلى عن مقولة الفن لأجل الفن، وان التزامها الثقافي لا يمنحها الحق في مسك العصى من المنتصف، وتتخلص من قناعتها انها تبصر جيداً، فليس ذنبي- يقول سارتر- "اذا كان الواقع ماركسياً"، وواقعنا يتحدث اننا مجتمع اسلامي قادر على تخطي جعجعة الليبرالية ومقولاتها كما فعل بسابقتها الماركسية الأنضج معرفياً، وبعيداً عن التفاصيل التي يكمن فيها الاختلاف الايديولوجي الهابط الذي يتربص بنا جميعاً لحظة انخراطنا في صراعات أحياناً حتى الايديولوجيا بريئة منها مع ذلك تداعيات هكذا صراعات ثقافية تصل حد القطيعة الاجتماعية التي ترسم مشهدا سوسيولوجيا بائسا للمثقفين. 

إن كارثتنا التي لا نعرف كيف وجدت؟ ومتى تنتهي؟ ينبغي أن يكون المثقف حاضراً فيها ليحدثنا عن ( الكيف؟ والمتى؟ ) التي تتعلق بالكارثة، ولكي لا نحمل المثقف ما لا يجب عليه يجب أن نتفق أن دوره الرسولي والدعوي والقائد المخذول اجتماعياً والأب الذي عقه الأبناء أصبحت مقولات لا تجدي نفعاً في مقابل مقولات اقل تواضعاً وموضوعية تتعامل مع المثقف قبل كل شيء بوصفه جزءاً من الكيان موضع التشريح الثقافي، وتناط به مهام لا تناسب غيره، وتخليه عن تلك المهام لا يعني أن عجلة الحياة ستعلن ايقاف العمل مؤقتاً بل إنها ستستمر لكن بطريقة لا تعجب الجميع وأولهم المثقف، وربما حكايات المثقف والثقافة، روت لنا الكثير من الفشل، والمشاريع التي اخفقت في مهامها، لكنها لم تستطع ان تنفي حقيقة "إن الكلمة اداة جبارة" وعلى المثقفين ان لا ينشغلوا بإثبات صوابية ما ذهب اليه فرويد، وإنما عليهم تشخيص اللغة المناسبة للحظة التاريخية الراهنة، ويبقى امتياز قرار العودة للواقع، وترك الأنساق المفارقة له حق من حقوق المثقف الذي قد تستطيع الظروف المحيطة به إجباره على فعل شيء ما، إلا قراره في أن يكون في قلب الحدث من عدمه قرار يتعلق بإرادة المثقف فقط دون الشراكة مع أحد. 



وحضر الندوة نخبة من باحثين ومثقفين يهتموا في الشأن الثقافي الميساني وشاركوا وأغنوا الندوة حوارا ًعلميا ًهادفاً يساهم في أحياء الثقافة ودورها المهم في بناء المجتمع ومجابهة التحديات التي يعاني منها المجتمع