الحوار والتعددية الفكرية وعلاقتهما بالإرهاب والتطرف في الأمم 

(العراق ما بعد عام2003م انموذجا)

 

م.د حيدر عيسى حيدر

كلية الامام الكاظم (ع) للعلوم الاسلامية الجامعة

تمهيد :

الاختلاف أمر واقع بين الناس في جميع الأمصار والأعصار, بل هو سُنة الله في خلقه, والحوار هو الوسيلة للوصول إلى تفاهمات بين المختلفين, بل هو أهم وسيلة من وسائل المعرفة والإقناع بين الناس مهما كانت ثقافاتهم وتوجهاتهم, فقد كان الحوار وسيلة فعالة والأسلوب الأمثل, الذي كان يؤثر في نفوس الآخرين في سيرة الأنبياء والصالحين .  

وقبولنا - بما نحمل من فكر وأراء خاص في تحديد اتجاهاتنا الفكرية والمعرفية - لفكر الأخر, الذي يحمل اتجاهات مختلفة عما نحمل, أمر صحي وميزة يختص بها الفكر الإنساني وتشكل بمجموعها نظرية المعرفة الإنسانية, وهذا القبول يستبطن الحركة التي تولد التسامح والتقارب بين المجتمع والوعي والنبوغ الإبداع والاختراع العلمي والثقافي لدى الشعوب والأمم, فتلاقح الأفكار وحوارها بين المختلفين في مكان ما أمر ضروري للنهوض بفكر ومعرفة ذاك المكان, ومهما كانت درجة الاختلاف في الأفكار والرؤى, لا تكون مانعاً من التلاقح والحوار وحرية التعدد, فالحوار وحرية التعدد عنصران ايجابيان في فكر وثقافة ومعرفة الشعوب, وخصوصاً إذا التفتنا إلى أن رغبات وطاقة وتحمل الإنسان متفاوتة ومختلفة من شخص لأخر .

 وأما عدم الانفتاح والتعصب والانغلاق على الأخر فهما على عكس الحوار والتعدد, فقد يولدا الفرقة والإرهاب والتطرف والنتيجة المحصلة من وراءهما العنف, حيث يلغي المتعصب فكر الأخر ولا يراه صائباً أبداً, بل يرى دائماً أن ما يحمل من اعتقاد هو الفكر الصائب, وهذا يؤدي أخر المطاف إلى ازدراء واحتقار فكر غيره, ومن ثم إلى تكفيره واستحلال دمه, فغياب سُنة الحوار الحقيقي يؤدي إلى ظهور التناقضات والتباين بين الأفكار والرؤى المعرفية, ويجعلها – أي يجعل التناقضات والتباين – هي المحور والأساس وتضحى محل للفرقة والعنف .

 فالانغلاق والتعصب إذن يولد الإرهاب التطرف الفكري والثقافي والديني, اللذان يثير سماع لفظيهما - الإرهاب والتطرف - عند المخاطب جدلية كبرى في تحديد دلالتهما, بل مشكلة كبيرة وخطيرة في الوقت نفسه, وأصبح معنى كلا اللفظين من التعقيد لا يمكن تحديهما, وأن كان بين اللفظين عموم وخصوص, فنتيجة لاختلاف الرؤى والمذاهب الناتج من تضارب المصالح بخصوص هذه الجدلية للمتصدين والمعنيين في تحديد الضابطة لمعنى لفظتي الإرهاب والتطرف, اختلفت تعاريفهم وتحديدهم لمعنى الإرهاب والتطرف, ولذا أصبح إيجاد الحلول الناجعة متعسراً للقضاء على تلك المشكلة .

 وأضف أيضاً إلى تعسر تحديد معنيهما, تعدد الأساليب الوحشية الهمجية بالاستعانة بطرق علمية حديثة, واستخدامها من قبل الإرهابيين والمتطرفين في الوصول إلى غايتهم وأهدافهم, مما جعل للإرهاب أشكال وصورة متعددة, يصعب على المعني والمختص تحديد معنيهما, حيث أن قتل الأبرياء والأمنيين وهدم المباني العامة أصبحت جزء من أهدافهم تحت أي مبرر كان يرونه صحيحاً .

 ولكي يكون الكلام في الحوار والتعددية الفكرية والثقافية والدينية أكثر فائدة, قسمنا الكلام إلى مبحثين, نبين في المبحث الأول مطلبين, الأول منهما معنى الحوار والإرهاب والتطرف لغة واصطلاحاً, والمطلب الثاني بينا فيه أسس وأهداف الحوار وآدابه وأهلية المحاور .

  أما المبحث الثاني فقد تضمن أيضاً مطلبين, بينا في المطلب الأول أمرين, وهما أسباب ظهور الإرهاب والتطرف وكيفية علاجهما بالحوار, وبينا في المطلب الثاني أمرين أيضاً وهما العلاقة القائمة بين الحور والتعددية الفكرية والثقافية, والعلاقة القائمة بين الحوار والاعتدال الفكري .

المبحث الأول : معنى الحوار والإرهاب والتطرف وأسس وأهداف الحوار وآدابه وأهلية المحاور

 نبين في هذا المبحث مطلبين, الأول منهما هو تسليط الضوء على المعنى اللغوي والاصطلاحي للحوار والإرهاب والتطرف وأسباب ظهورهما, ونتكلم في المطلب الثاني عن أهداف الحوار وأسباب ظهور الإرهاب والتطرف وعلاجهما .

المطلب الأول : معنى الحوار والإرهاب والتطرف :

لبيان معنى الحوار والإرهاب والتطرف لغة واصطلاحاً نوضح أمور :

الأمر الأول : الحوار لغة واصطلاحاً :

 ذكر أهل اللغة أن معنى الحوار هو تراجع الكلام, أي أن يرد الكلام كل منهما على الأخر, ويشتق منه التحاور والمحاورة : أي التجاوب والمجاوبة . 

قال ابن فارس : (والحَوَار بالفتح ويُكْسَر والحِيرَةُ بالكَسْر والحُوَيْرَة بالتَّصْغِير, يقال : كَلَّمْتُه فما رَجَعَ إِلىّ حَوَاراً وحِوَاراً ومُحاوَرَةً وحَوِيراً ومَحُورَةً أَي جَواباً, وإِنه لضَعِيفُ الحِوارَ أَي المُحَاوَرَة, والمُحَاوَرَةُ : المُجَاوبَةَ ومُرَاجَعَةُ النُطْق والكَلاَم في المُخَاطَبَة وقد حَاوَره وتَحَاوَرُوا : تَرَاجعُوا الكَلاَمَ بَيْنَهُم وهم يَتَراوَحُونَ ويَتَحَاوَرُونَ)([1]) .

وقال الطريحي : قوله : ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾([2]) , أي مراجعتكما القول, وقوله :                      ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ ([3]) , أي يخاطبه, والتحاور : التجاوب, والمحاورة : المجاوبة، يقال تحاور الرجلان إذا رد كل منهما على صاحبه, ومنه ناظرته وحاورته, وفي الحديث دع محاورات من لا عقل له : أي دع الخوض معه في الكلام)([4]) .

أما اصطلاحاً : وقد استعمل هذا المعنى اللغوية في الاصطلاح أيضاَ, فهو مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة, وقد فرقوا بينه وبين الجدل([5]), بأن الجدل مظنة التعصب والإصرار على نصرة الرأي بالحق وبالباطل والتعسف في إيراد الشبه والظنون حول الحق إذا برز من الاتجاه الآخر([6]).

ومما تقدم اتضح أن الحوار هو عبارة عن نقل وتبادل الآراء والأفكار والمعلومات التي تتبناها الأطراف المختلفة, والتعرف عليها ونقدها وتقويمها وتصويب المتنازعين بعضهم لبعض, التي تؤدي بالنتيجة النهائية إلى تلاقيهما, (ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي)([7])

الأمر الثاني : الإرهاب لغة واصطلاحاً :

مادة رهب في اللغة تعني معنيين, الخوف, والدقة والخفة, فقد ذكر ابن منظور معنى الإرهاب قال ابن منظور (711 هـ) : (رهب بالكسر يرهب رهبة ورهبا بالضم, ورهباً بالتحريك, أي خاف ...... وأرهبه ورهبه واسترهبه : أخافه وأفزعه)([8]) .

وقال الفيروز آبادي (817 هـ) : (رَهِبَ كَعَلِمَ، رَهْبَةً ورُهْباً، بالضم وبالفتحِ وبالتحريكِ، ورُهْباناً، بالضم ويُحَرَّكُ خافَ)([9]).

ولم نعثر في مصادر كتب اللغة القديمة على لفظتي الإرهابي والإرهاب ومعنيهما, ولعل السبب في ذلك أنهما من الألفاظ حديثة الاستعمال, ولم تبتل الأزمنة القديمة بهما, وهو أيضاً ما يراه الأستاذ احمد جلال أنهما من الألفاظ الحديثة([10]).

وتعضيداً لهذا الرأي أن لفظتي الإرهابي والإرهاب تجد لهما تفسيراً ومعنى في المعجمات الحديثة, فلفظة الإرهابي هي : (وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية)([11]) .  

 وفسرها آخرون : (من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطته، والحكم الإرهابي هو نوع من الحكم يقوم على الإرهاب والعنف تعمد إليه حكومات أو جماعات ثورية)([12]), أما لفظة الإرهاب قُسرت بأنها : (رعب تحدثه أعمال عنف كالقتل وإلقاء المتفجرات أو التخريب) ([13]).

 ومما تقدم يظهر أن الإرهاب الاصطلاحي هو العنف والإرهابيين هم مما يمتهنون العنف بكافة وسائل وأساليبه, وكل حكم إرهابي على هذا يكون قائم على أساس التسلط بالقوة والبطش بالناس, وميزته إلغاء الأفكار المختلفة .  

الأمر الثالث : التطرف لغة واصطلاحاً :

التطرف لغة : يظهر من كلمات أهل اللغة أن التطرف الوقوف في الطرف بعيدا عن الوسط، أو قل إن التطرف من الطرف وهو الميل إلى احد أطراف الشيء وعدم الثبوت في وسطه .

قال ابن منظور : (تطرف الشيء صار طرفاً ... وتطرفت الشمس أي : دنت للغروب)([14]) .

وقال ابن فارس : (الطاء والراء والفاء أصلان ، فالأول يدل على حد الشيء وحرفه ، والثاني: يدل على حركة فيه)([15]) .

أما اصطلاحاً : تجاوز حد الاعتدال([16]), ويبدو أن معناه في الاصطلاح لا يختلف عما هو عليه في اللغة, فكل من تجاوز حد وسط شيء إلى أحد أطرافه, يقال له تطرف شيء, والاعتدال هو التوسط وتجاوزه هو التطرف([17]).   

 وأصله في الحسيات كالتطرف في الجلوس أو الوقوف أو المشي ، ثم انتقل إلى المعنويات كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك .

 إن التطرف في جميع الأحوال ظاهرة مرضية تعبر عن حالة غضب واحتقان، وهو مؤشر على وجود خلل ما في النفس الإنسانية أو في الظروف التي تحيط بتلك النفس، والإنسان السوي بطبيعته يرفض التطرف ويضيق بالعنف لأن الفطرة السليمة تأبى ذلك وتنفر منه ([18]).

المطلب الثاني : أسس وأهداف الحوار وآدابه وأهلية المحاور :

نتكلم في هذا المطلب بأربعة أمور, نبين فيها الأسس والقواعد التي يجب أن يُبنى عليها الحوار, أذا ما أردنا للحوار النجاح, وبينا أهميته والغرض والغاية من إجراء الحوار وأهدافه وآدابه .

الأمر الأول : أسس الحوار :

 إن سلوك الطرق العلمية والالتزام بها هي الوسيلة الوحيدة للهدف المنشود من الحوار, وللحوار أسس وقواعد يؤسس كل من المتحاورين حواره وحديثه عليه, فمنهم من يؤسس على مجموعة الصفات التي يتحلى بها المتحاورون – علمية ونفسية وخلقية -, ومنهم يجعل الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه الحوار هو القضايا التي هي محل البحث والحوار, والذي هو الأحسن والأفضل الجمع بين تلك الأسس, فيكون أصل الحوار مبني على ثلاثة أصول([19]) :

الأصل الأول : العلم :

 ونعني بالعلم هو الإلمام والاطلاع الكامل حول القضية المراد بحثها, ويمكن إجمال ما يجب أن يتوفر للمحاور من أمور بالنقاط التالية :

  1. التخصص العلمي, لكي نضمن التكافؤ في الحوار لابد من أن يكون المتحاوران من أصحاب الاختصاص قي القضية المختلفة عليها, وإلا أصبح الحوار عقيما لا فائدة منه, بل قد يؤدي إلى النزاع والخصام وضياع الحق, فلا يصح الجاهل – مثلاً – بأصول وتاريخ الأديان, أن يتحاور بقضية أو مسالة داخلة في علم الأديان .
  2. العلم بالدليل وبرهانه وكيفية الاستدلال عليه بطرق صحيحة غير قابلة للنقض أو الإبرام, فيجب على من يريد التحاور الالتزام بالطرق الاقناعية البسيطة والصحيحة .
  3. السلامة من الوقوع في التناقض, التي لا يمكن الوصول به إلى ما هو مطلوب إثباته, بل استحالته .
  4. ألا يكون الدليل مصادرة للمطلوب, بأن يكون الدليل هو عين الدعوى, ويكون النقاش سقيما لا تصل به إلى الهدف المنشود .
  5. معرفة مجالات الحوار وهي كل ما يحتمل أن يقع فيه الخلاف, لأن الثوابت والمسلمات لا يقع فيها نقاش أو حوار .
  6. معرفة وجهة نظر المخالف وشبهاته وطرق الرد عليه, فلا يجوز الطعن في أدلة الخصم إلا ضمن الأمور المبنية على المنطق السليم والقواعد المسلمة بين المتخاصمين .

 ويتضح مما تقدم : إن سلوك الطرق العلمية للحوار من تقديم الأدلة والبراهين وصحة الاستدلال بها, وخلوها من التناقض – لأنها طريقة ممجوجة, والتي تعد ساقطة بالبداهة -, وذلك باستخدام المنطق السليم, وإلا تكون الأدلة عين المطلوب إثباته, والاتفاق على مجموعة من الثوابت عند العقلاء والقضايا المسلمة بها عقلاً, لأن الإصرار على إنكار الثوابت تعد عند العقلاء مكابرة قبيحة, وإنكار المسلمات أمر يستقبحه العقل, وأن يكون الهدف من الحوار لكلا المتحاورين هو طلب الحق, فلابد من تجردهما والسعي للوصول إليه, وعدم التعصب وإتباع الحق والانصياع له .  

الأصل الثاني : أهلية المحاور :

يجب تحقق أهلية المحاور التي تقتضي منه ما يلي :

أولاً : الخضوع والتسليم للحق بعد الحوار والإيمان بالحق قبله, فمن المعيب أن يتصدى للنقاش والحوار من لا يؤمن بالحق ولا يعرفه .

ثانياً : يجب على المتحاورين معرفة أصول الحوار من مسلك وغاية وجمال, ومن ذلك إقامة الحجة ودفع الشبهة .

ثالثاً : التخصص العلمي في المجال الذي يراد التحاور به, فلا يجوز من يجهل أصول وتاريخ الأديان والفرق التي تنتسب إلى كل ملة .

رابعاً : لابد أن يكون المحاور مستمعاً جيداً, لأن الحوار حق ثابت للطرفين, فلا يجوز المقاطعة للطرف الأخر, ما لم يفرغ من كلامه وبيان مطلبه ([20]).

خامساً : يجب أن يتحلى المحاور بالحلم والصبر, فلا يستفز أو يغضب بأي كلمة, وأن يكون رحيماً بخصمه الذي يحاوره من الضلال .

الأصل الثالث : التحلي بأخلاق الحوار :

 يجب على المتحاور الذي يريد إظهار الحق أن يبتعد عن التعصب يقبل بالحق, وإلا يكون الحوار لغواً, وكذلك يجب أن يتحلى المتحاورون بالتسامح, وان لا ينتهي الحوار بالتباغض والإصرار على رأيه, وكذلك التحلي بسعة الصدر والبعد عن الشتم والسب والتجريح والسخرية, والالتزام بالقول الحسن وتجنب أسلوب التحدي والإفحام, والانصياع والقبول بكل ما ينتج عنه الحوار من نتائج, والالتزام بها وما يترتب عليها من آثار بشكل جدي, وإلا أصبح الحوار حلبة مصارعة غايتها إفحام الخصم, وكان حواراً عقيماً خالي من الهدف إلذي نتوخاه .

 والجدير بالذكر هنا أن ندرك أن كل رأي معرفي فكري نسبي الحقيقية, بمعنى أن كل رأي يحتمل الصحة ويحتمل الخطأ, فدلالة الآراء الفكرية على الصحة والخطأ نسبية, وعلى هذا فليس كل حوار ناجع ينتهي بالاتفاق التام بالآراء, بحيث يقبل احد المتحاورين برأي الأخر وينصاع إليه, فإذا توصلت الأطراف المتحاور إلى قناعة بقبول كل منهم بمنهجية الأخر, ويحق لكل منهم التمسك بها ما دام  الخلاف سائغ .

الأمر الثاني : أهمية الحوار :

 لا نبالغ إذا قلنا إن الحوار هو المنهج الوحيد الذي يمكن أن يواجه الصراعات الفكرية قاطبة, وكما عرفنا أن فائدة الحوار هي المحادثة والمناقشة وحتى المناظرة التي تحصل بين الأطراف الفكرية المختلفة بعضها عن بعض, فبالحوار نصل إلى لب الحقائق, وبه أيضاً يتم تبادل الآراء والأفكار المختلفة التي تحدد المواقف من المشكلات الحاصلة, وطرح الحلول الناجعة لها, فهو – أي الحوار – بهذا يكون أمرا ضرورياً وعاملاً أصيلاً وأساسياً في تنظيم العلاقات العامة بين الناس المختلفة الأفكار والآراء, ويوفر حرية فكرية لكل منهم من دون أن يكون ذلك على حساب طرف, فأهميته وغايته هو التنظيم وحفظ حقوق الآخرين في التعبير عن آراءهم وأفكارهم من دون أن يكون هناك ضرراً يلحق بهم .

  وبمعنى آخر إن الحوار هو أسلوب من أساليب التفاهم بين أفراد المجتمعات غايته تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بينهم جميعاً على أساس حرية المعتقد والفكر والرأي وتبادل المنافع والوصول إلى الحقيقة وتعميق وترصين الأفكار بالمناقشة التي تتضمن الأدلة والبراهين([21]).  

  والحوار سُنة إلهية بين جميع البشر من أول الخلق, وقد ازدهر الحوار في ظل الحضارة الإسلامية, لكونه – كما أسلفنا - يمثل منهجًا من مناهج التعايش وتبادل المنافع إلى الناس كافة دون تمييز أو تحيز لأي جهة إلا الحق, فغايته هو تحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنساني من التعصب والتطرف والغلو, ولذا كان الحوار من أهم المناهج التي استخدمتها الدعوة الإسلامية, قال تعالى : ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ ([22]) .

فأهمية الحوار تتجلى وتتضح : بأنه حاجة علمية وضرورية فكرية بهدف اللحاق بركب العالم المتقدم, وغياب الحوار أو رفضه يعني زيادة في التخبط والتخلف والعزلة, ولا شك أن الحوار الموضوعي يمنع من بروز ظاهرة التطرف السياسي أو الديني, والابتعاد عن فكرة إن الحوار هو حلبة ملاكمة يطرح المحاور زميله أرضاً وذلك بالسخرية منه أو التطاول على شخصه, بل الحوار يعني التخلي عن سياسة أن الآخر مخطئ وأنا المحق الوحيد, وهذا كله بشرط فتح أبواب الحوار بضوابطه ومنهجه العلمي التي تحقق أهدافه وغاياته, وكذا بشرط الالتزام بآداب وأخلاق الحوار, التي لابد للمتحاور من التعرف عليها والتحلي بها, ولذا كان الحوار أسلوباً قرآنياً نبوياً ناجحاً ومثمراً, يأسر القلوب ويحركها نحو الفضيلة .

وهناك مجموعة من الغايات والأهداف التي تعد طرقاً للوصول إلى الهدف المنشود من الحوار منها :

  1. إيجاد حل وسط يرضي الأطراف المختلفة .
  2. التعرف على وجهات النظر المختلفة المتبناة من قبل الأطراف المختلفة .
  3. البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والأفكار من اجل الوصول إلى نتائج أفضل .

الأمر الثالث : أهداف الحوار :

أصل الحوار هو تلاقي المتحاورين في مساحة مشتركة بينهما, ونبذ الخصومة والإفحام والحرج, ولذا يمكن تلخيص الهدف والغاية من الحوار في ما يلي :

أولاً : من خلال الحوار يمكن الاطلاع بوضوح على ما يتضمنه فكر وثقافة الأخر من معلومات ايجابية يمكن الاستفادة منها .

ثانياً : الاطلاع والوقوف الحجج والبراهين للطرف الأخر وتقويمها, وإبراز ما كان منها سقيم وغير صحيح, وبيان ثغراتها وأخطاءها  .

ثالثاً : تثبيت أساس التعدد في الفكر والثقافة والمعتقد, الذي ينتج منه قبول الأخر والتسامح ونبذ التطرف في الفكر وازدراء الآخرين .

رابعاً : السعي في تلين الطرف الأخر ليتخلص من الأفكار والحجج غير الصحيحة, وقبول الحجج والأفكار الصحيحة وتبنيها .

خامساً : إن الحوار يساعد على التوقد الذهني وهي صفة ملازمة لأجواء التحدي الفكري والحوار المتبادل .

سادساً : التقريب بين الأفكار المختلفة, من خلال التقريب في وجهات - النظر المطروحة للحوار, التي تضييق هوة الخلاف, وإيجاد حل توافقي وسطي, ويمنع التناحر والتنازع ([23]) .

الأمر الرابع : أدب الحوار :

لكي يكون حواراً هادفاً ومنتجاً لابد من المتحاور أن يتحلى بمجموعة من الآداب والأخلاق نذكر منها بإيجاز :

أولاً : تحديد موضوع الحوار والتقيد به وعدم الخروج عنه, وهذه نقطة تنظيمية مهمة لكي لا تدخل في الحوار مسائل خارجة عن موضوع الحوار, التي تؤدي إلى حوار سقيم لا فائدة منه, بل قد تكون نتائجه عكس ما كان يتوقع من الحوار الهادف, والسبيل إلى ذلك بأن هو إقامة حكام على ينبهوا المتحاورين عند خروجهم عن أصل الموضوع, وخلطهم بمسائل غريبة عن الموضوع .

ثانياً : تحديد المعاني المقصودة من الألفاظ ذات المعاني المتعددة والمستخدمة في الحوار, لكي لا يختلط عند المتحاورين فهم معنى ذلك اللفظ, والسبيل إلى ذلك هو أن يبين المتحاور معنى اللفظ المستخدم إذا كان يتضمن أكثر من معنى .  

ثالثاً : من أدب الحوار ومنهجيته أن يبدءا الحوار بالمسائل الأكثر أهمية والأصلية, وتجنب الحوار بالمسائل الفرعية حتى الانتهاء من المسائل الأصلية والمهمة, وذلك بان المسائل الفرعية قد تفهم وتتضح بعد فهم ووضوح الأصل .

رابعاً : بدء الحوار بعبارات لطيفة تدل على التقدير والاحترام بين المتحاورين, بل تلطيف الأجواء من حين إلى حين, وهذا يساعد على تهدئة الخواطر وضبط المتحاورين من التعدي والانفعال .

خامساً : حسن الاستماع من الطرف الأخر والإصغاء لمطالبه وأدلته, لأن أصل الحوار هو السماع كل من الطرفين للأخر, فأن من أدب الحوار هو أن يحسن كل طرف الإصغاء إلى أدلة ووجهة نظر الطرف الأخر, من دون تسفيه واستهان .

سادساً : التريث في الإقناع والنتيجة, بحيث تعطى لكل من المتحاورين وقت للتحدث لكي يبينا وجهة نظرهما, من دون أن يتعدى على الوقت المحدد  .

  ويتضح مما تقدم : إن العلم بالدليل وتقديم الأدلة المثبتة والمرجحة للدعوى وطريقة البرهان على المطلوب, هو كذلك خلو الكلام والدليل من التناقض ضرورة سقوطه بالبداهة, وأن لا يكون الدليل عين الدعوى, لان ذلك لا يكون دليلاً, بل يعتبر تحايل لإطالة الحوار بلا فائدة, كما يجب أن يكون اتفاق على القضايا المسلمة بها التي لا تحتمل الخلاف, ومرجع تلك القواعد أما العقل كما في حسن الصدق وقبح الكذب أو ثوابت دينية لا يختلفون فيها أصحاب الديانات .

  والتجرد وطلب الحق والبعد عن التعصب والسعي للوصول إلى الحق والحرص على آداب الحوار, هو الذي يقود الحوار إلى طريق سليم خالي من المعرقلات, يقول الغزالي : (التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه, ويرى رفيقه معيناً لا خصماً, ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له)([24])  .

  وإذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً, فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل, ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق, ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق, ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل, والنتيجة إذن ليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة([25]).

المبحث الثاني :أسباب ظهور الإرهاب والتطرف وعلاجهما بالحواروالعلاقة بين الحوار والتعددي والاعتدال الفكري

 نبين في هذا المبحث الأسباب الموجبة لظهور الإرهاب والتطرف, وكذلك نبين فيه طريقة العلاج, وكذا نبين العلاقة الدائرة بين الحوار الناجع والتعددية الفكرية والاعتدال وحرية الآراء والأفكار .

المطلب الأول : أسباب ظهور الإرهاب والتطرف :

هنالك مجموعة من أسباب أدت إلى ظهور الإرهاب أو التطرف, نتعرض لها في هذا المطلب مع استعراض أن الحوار طريقة ووسيلة للقضاء عليهما, لذا سوف نبين هنا أمرين :

الأمر الأول : أسباب ظهور الإرهاب والتطرف :

 هناك مجموعة من الأسباب تؤدي إلى ظهور ونشأة الإرهاب والتطرف في المجتمعات الخالية منهما, ويمكن إيجاز ذلك بمجموعة من النقاط ([26]) :

الأولى : الانحراف الفكري, إن السبب الرئيسي في سلوك الإرهاب والتطرف هو الانحراف الفكري وضلاله, والتباس الحق بالباطل, وهذا المنهج سبب لصنوف من الانحراف والضلال، وأشد ذلك وأعظمه خطراً التكفير، والحكم بذلك على الأشخاص والجماعات والأنظمة دون وجه حق أو تثبت، وهو ما وقع فيه بعض الأفراد والجماعات في هذا العصر، حيث توجهوا إلى تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله ولا سنة رسوله (صل الله عليه وآله)، ورتبوا على ذلك استباحة الدماء والأموال، والاعتداء على حياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم ، والاعتداء على مصالحهم العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها ، فحصل بذلك فساد كبير في المجتمعات, ومنشأ هذا الانحراف يمكن إجماله بما يلي :

  1. إن يكون بسبب الخلل في التلقي, حيث يتتلمذ أصحاب الفكر المنحرف على يد مجموعة لا علم عندهم أو على أنفسهم, ويتركون أهل العلم والمعرفة .
  2. الأخذ بظواهر النصوص, من دون اعتبار لدلالة المفهوم ولا قواعد الاستدلال, من الجمع العرفي والناسخ والمنسوخ والعناوين الثانوية للأحكام التي شُرعت لأعذار الناس .

الثانية : مؤامرات الأعداء :

  إن تاريخ العداء بين الحق والباطل منذ أول النشأة، وأن قوى الشر لا تبرح من مغادرة وسيلة وحيلة إلا وأن تبنت طريقة أخرى, ولا تزال تحوك المؤامرات والحيل للإطاحة بقوى الخير, ومن تلك الوسائل التي استخدموها هو بث الأفكار المضللة للناس, وعضد كل توجه متطرف هدفه شق صف المجتمعات وتشرذمهم, بث روح التفرقة, وامتهان العنف كوسيلة للقضاء على الفكر المغاير .

  ومما ساعد على نجاح تلك المؤامرات هو بعض النفوس الضيقة أصحاب الجهل المركب, التي لا ترى فكراً صحيحاً غير فكرهم . 

الثالثة : التأثير السلبي لبعض وسائل الإعلام :

  تعد وسائل الإعلام في عصرنا هذا من أكثر الوسائل تأثيراً في فكر الناس، وأخلاقهم وسلوكهم، وفي بناء توجهاتهم، لشدة سيطرتها على عقول الناس، واستحواذها على اهتماماتهم وأوقاتهم ، وقوة تأثيرها فيهم .

  والأصل في الإعلام على اختلاف وسائله أن يقدم للناس المعلومات النافعة، والحقائق الثابتة، والأخبار الصحيحة ليكون بذلك أداة توجيه وبناء، ومصدر معلومات موثوقة, إلا أن الواقع في بعض الأحيان بخلاف ذلك ، حيث اتخذ من الإعلام وسيلة للدعاية لأفكار وتوجهات معينة ، ومهاجمة ما يضادها أو يخالفها ، كما أضحى الإعلام اليوم أداة من أدوات الصراع الثقافي والعسكري بين الأمم .

  والإعلام بهذا التوجه يستثير مشاعر الناس، ويؤجج بواعث الغضب في نفوسهم، حمية لدينهم، وانتصاراً لقيمهم الإسلامية الحقة، ولا شك أن هذا الغضب محمود، لأن المؤمن يجب عليه أن يغضب لله عز وجل، ولا يرضى أن تنتهك محارمه، ولكن وربما غلا بعض الناس في الرد والمدافعة، وزاد عن الحد المشروع، فسلك مسالك الشدة والعنف، فتحصل بذلك الفتن ويعم الفساد في الأرض .

الرابعة : التعصب للجماعة أو الطائفة، فلا يقبل من أصحاب الفكر والمعرفة والرأي إلا ما جاء عن طريقهم ولا يصدر إلا عن رأيهم، والتعصب من أعظم الأمور شراً وفساداً ، فهو يجر على الأمة المصائب والويلات، لأنه يمنع من سماع الحق فضلاً عن قبوله، ويحمل على الانقياد للأهواء، والمتابعة على غير حجة أو برهان، والواجب أن يغرس في النفوس تعظيم الحق, وقبول الفكر الأخر، وأن تربى الأمة على ذلك وتنشأ الأجيال عليه، حتى تكون في منأى من مزالق التعصب المذموم الموجب للضلال والتفرق .

الخامسة : العيش في الأماكن التي تحمل أفكار الإرهاب والتطرف, فالبيئة التي تحمل فكر والتكفير والعنف، تكون حاضنة خصبة ممن ليس لديهم من العلم والفكر القدر الذي يتمكنون به من دفع شبه أولئك المتطرفين ، فحملوا تلك الأفكار وتبنوا العنف منهجًا للإنكار والتغيير .

  وإذا كانت بعض تلك البيئات قد أندرست أو ضعف أثرها، فإن بيئات أخرى قد تجددت، وقد تكون مهيأة لرواج الفكر المتطرف، مما يحتم على العلماء والمربين التحذير منها صيانة لأبناء الأمة من مسالك الغلو والضلال .

السادسة : الفراغ بأبعاده المختلفة, الروحي والفكري والزمني، هذا الفراغ له اثار سيئة في حياة الناس, حيث يُوجد لديهم القابلية لسائر المؤثرات, سواء المتجهة إلى التفريط والانحلال، أو إلى الإفراط والتطرف والعنف .

السابعة : العنف والبطالة, إن العوامل الاقتصادية كالفقر والبطالة من أسباب اختيار طريق العنف والإرهاب؛ لكون الفرد غير قادر على الوفاء بحاجاته الأساسية، وفاقد الأمل في المستقبل, مما يحمله على النقمة على المجتمع ومؤسساته، ويبعثه على تبني العنف .

  والذي يظهر أن الفقر والبطالة والضغوط الاقتصادية بعامة ليست أسباباً كافية لسلوك طريق العنف والإرهاب، لأن هذه الظواهر لم تغب عن المجتمعات الإسلامية منذ دهر طويل وإن تفاوتت في درجات الفقر ونسب البطالة، ومع ذلك لم تحمل الناس على أعمال إرهابية منظمة كما يجري اليوم .

  والذي يمكن التسليم به أن الفقر والبطالة، وعدم وجود فرص وظيفية، تثير في النفوس مشاعر الحقد والبغضاء، وتجعل من الذين يعانون من ذلك هدفاً لأصحاب التوجهات الغالية، يمكن استدراجهم باستغلال حاجتهم، وتوظيف نقمتهم للالتحاق بركب المتطرفين وسلوك سبيلهم .

الأمر الثاني : الحوار علاج للإرهاب والتطرف :

  للإرهاب والتطرف  معنيان مختلفين, إلا أنه عند سماعهما يولد معنى مشترك بين اللفظين, وهذا المعنى المتولد في ذهن السامع يعادي الموقف الوسطي والاعتدال الفكري, الذي يقره الفكر السوي ويرضاه العقلاء من بني البشر .

  وقد ذكرنا أن التطرف في جميع الأحوال ظاهرة مرضية، وهو مؤشر على وجود خلل ما في النفس الإنسانية، والإنسان السوي بطبيعته يرفض التطرف ويضيق بالعنف, لأن الفطرة السليمة تأبى ذلك وتنفر منه, ويحتاج لمعالجة المتطرف معرفة أسبابه ودواعيه, وقد تذكر في بحث أخر, والذي يهمنا هنا أن نستعرض واحدة من تلك العلاجات المختلفة باختلاف أسبابه وهي الحوار .

  إن من أهم الطرق الذي يجب أن يستخدمه المتصدون كعلاج للإرهاب والتطرف هو فتح باب الحوار والمناقشة مع المتطرفين, فالحوار هو إحدى الطرق الفعالة في علاج الإرهاب والتطرف إذا استخدم بشكل علمي وصحيح ([27]) .

  فمن الحلول للقضاء على الإرهاب والتطرف هو الحوار الجاد, الذي يعد من أهم وسائل المعرفة مطلقاً, بل يعد على مر التاريخ احد وسائل الإقناع بغض النظر على التوجهات والثقافات, فهو منهج ناجعة إذا ضبطت أدواته, لما يتضمن من تأثير في  نفوس وعقول المخاطبين .

  فبالحوار يُناقش مجموعة من المسائل والقضايا المختلفة فيها, حيث يسعى المتحاورون للوصول إلى معرفة الحقائق, وهو بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية, من خلال تحقيق الاحترام والتعايش السلمي بين المتحاورين على أساس احترام الرأي الأخر وقبوله ([28]).

المطلب الثاني : العلاقة بين الحوار وقبول التعددية والاعتدال :

  في هذا المطلب نتحدث عن العلاقة الدائرة بين الحوار والتعددية الفكرية والاعتدال, حيث نريد أن نعرف النتائج والارتباط عند استخدام الحوار السليم, ولذا نقسم المطلب إلى أمرين :

الأمر الأول : العلاقة بين الحوار وقبول التعددية :

  ذكرنا في ما تقدم الفرق بين الحوار والجدل, وقلنا أن الحوار هو نقل الأفكار وتبادلها التي تُبنى على قاعدة التصويب والنقد والتقويم, فالحوار بشكله المطلق يستبعد مناطق الاختلاف وينطلق من مناطق المشتركة بين المتحاورين, لتكون قاعدة وأساساً بين المتحاورين, فهو يقوم على عوامل الاتفاق والتوافق ويستبعد عوامل الخلاف والفرقة .

  قال سبحانه تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ ([29]), فالآية الكريمة وأن كانت تدل على نوع خاص من الحوار وهو حوار الأديان, لكنها تشير بوضح إلى حقيقة الحوار ومعناه, فهي تدعو إلى الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب مشيرة إلى أن تكون عناصر الاتفاق أساس لذلك, وعلى هذا فأن الحوار يتضمن اعترافاً واضحاً بتعدد الأفكار وقبولها, وينادي إلى حرية الاعتقاد, ويعتبرها نظم فكرية مستقلة محترمة .

  ومن السنن الإلهي أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وفيه اختلاف في مظاهره, وخلق البشر وفيه اختلاف في أجناسهم وألسنتهم وألوانهم, واختلاف واضح أيضاً في عقولهم وأفكارهم وأمزجتهم, مؤكداً أن من آياته ذلك, قال سبحانه تعالى : ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ ([30]), فجعل سبحانه وتعالى من آياته اختلاف الألسن والألوان بين البشر, وجعل الليل والنهار وجعل الظلمة والنور, وكل ذلك غايته تثبت بديع صنعه حكمته وقدرته في تدبيره لهذا الكون, فالاختلاف سنة لا ينكرها احد ولا يمكن إلغائها, بل علينا فهمها واستيعابها .

  والسبيل لفهم هذا التنوع والاختلاف الإلهي هو الحوار, فالهدف من قبول الأخر بما يحمل من فكر وعقيدة وقبول التنوع والتعدد الفكري والثقافي لا يتم إلا بالحوار, أي بتبادل الأفكار والمعلومات التي يمكن من خلالها تصحيح ما هو خاطئ من الأفكار, سكوت بيك حيث قال : (إن الرسالة الإجمالية للتواصل والحوار الإنساني تتلخص (أو ينبغي أن تتلخص) في البلوغ إلى التصالح . . . إن التواصل والحوار الكفء يستطيع أن يصل في النهاية إلى تحقيق إزالة الجدران والحواجز التي تؤدي إلى سوء التفاهم الذي يبعد البشر عن بعضهم الآخر)([31]).

 إن الإقرار بقبول الآخر المختلف من فكر وعقيدة والاعتراف به مع حصول الاختلاف معه - سواء على مستوى الاعتقاد أو الأفكار أو المواقف - يدفع إلى التحاور معه والتفاهم من دون التفكير بالقمع ممارسة العنف عليه والاعتداء عليه لإلغاءه، فيكون هناك من التسامح وعدم التعصب للرأي أو الموقف ما يدعو إلى التفاهم والتعاون على تقريب شقة الخلاف والتوفيق بين الآراء والمواقف .

 والحوار على هذا الأساس يحتوي ضمناً على المسائل المتفقة عليها, ويبتعد عن المسائل المختلفة فيها, فالحوار الفكري أو الثقافي أو الديني أسلوبه قائم على مواطن المتفقة عليها, وهو بذلك يتبنى الاعتراف بتعدد الرؤى والأفكار, ويؤمن ضمناً بحرية الاعتقاد والرأي .

 والحوار يعني الاعتراف المتبادل بين المتحاورين المختلفين فكرياً وثقافياً وحتى دينياً, وهذا يعني أن العلاقة بين الحوار والتعددية علاقة طردية, فكلما كان الحوار ايجابياً, زاد الاعتقاد والإيمان بالتعددية الفكرية .    

الأمر الثاني : علاقة الحوار بالاعتدال الفكري والثقافي :

 العلاقات بين المجتمعات والأفراد تتحدد من النتائج التي وصل إليها أما عن طريق الحوار أو الجدل, فإذا كان الحوار هو الأصل بين المجتمعات والأفراد, فبالضرورة يتولد من ذلك – أي من الحوار – حرية التعبير, فلكل من المتحاورين أن يدلو بدلوه ويذكر برهانه ودليله, وفي الوقت نفسه يحترم الرأي الأخر ويناقشه بطريقة علمية من دون تسخيف و تهوين, انطلاقاً من مبداء التعددية الفكرية والثقافية وحرية التعبير .  

 فالحوار القائم بين المفكرين والعلماء, بل حتى بين ابسط الأفراد, الذي أساسه ومبادئه التعددية الفكرية وحرية التعبير بالاعتقاد, يولد وينتج بالضرورة الاعتدال العلمي والفكري في المجتمعات, ويكشف كثير من الدلالات التي كانت غائبة ومخفية, على عكس الجدل الذي يولد الغلو والتطرف, فبعد أن كانت مساحتين ورؤيتين مختلفتين متباينتين لموضوع واحد, تنكشف مساحة واسعة مشتركة بين الرؤيتين, مع الحفاظ على هوية وشخصية كل من المتحاورين .

 والاعتدال الذي يتولد من الحوار على أساس قبول التعددية الفكرية والثقافية وحتى الدينية, لا تعني التملص والتخلي عما تؤمن به من مبادئ ورؤى وأفكار, بل هو فهم للرؤى والأفكار الأخرى من خلال التعرف عليها بشكل دقيق .

 والاعتدال بهذا المعنى يعني الاعتراف بوجود الفكر الأخر المختلف واحترامه, وهذا المعنى للاعتدال لا يعني الاعتراف الضمني باحقية الرؤى والأفكار المخالفة, بل هو أقرار بأحقية المخالف في الفكر والرؤى في أن يكون مختلفاً ،وهنالك شواهد من القرآن الكريم تؤيد وتعضد هذا المعنى, منها قوله تعالى : ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ([32]) .   

   

المصادر

القرآن الكريم

  1. ابن الأثير, النهاية في غريب الحديث, الناشر مؤسسة اسماعليان للنشر والطبع, قم, إيران, ط 4 , (1364 ش) .
  2. ابن فارس, احمد بن فارس بن زكريا, معجم مقاييس العرب, الناشر مكتب الإعلام الإسلامي, قم, إيران, ط 1, (1404 هـ) .
  3. ابن منظور, أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم, لسان العرب, الناشر أدب الحوزة, قم, إيران, ط 1, (1405 هـ) .
  4. آل نواب, عبد الرب نواب الدين, وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار, http://www.al-islam.com.
  5. بكراع النمل, علي بن الحسن الهنائي, المنجد في اللغة, الناشر دار المشرق, بيروت , لبنان, ط 1, (1399 هـ) .
  6. تركستاني, احمد بن سيف الدين, الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه, دار الحرية, القاهر, مصر, ط 1, (1995 م)
  7. جريشة, علي, أدب الحوار والمناظرة, الناشر دار الوفاء, المنصورة, مصر, ط 1 (1410 هـ).
  8. جلال, احمد, الإرهاب والعنف السياسي / كتاب الحرية, النشر مطبعة الرحمن .
  9. الحوار آدابه وضوابطه , http://www.al-islam.com
  10. الزبيدي, محمد بن محمد الحسيني, تاج العروس, الناشر دار الفكر, بيروت, لبنان, ط 1, (1414 هـ) .
  11. سفر, دكتور حسن بن محمد, نظرات استشرافية في فقه العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين, http://www.al-islam.com
  12. صالح بن حميد بن عبد الله, أصول الحوار وآدابه في الإسلام
  13. الطريحي, فخر الدين بن محمد علي بن أحمد, مجمع البحرين, الناشر مكتبة الهدى, قم, إيران, ط 1, (1400 هـ).
  14. عزوزي, حسن بن إدريس, قضايا الإرهاب والعنف والتطرف في ميزان القرآن والسنة, مطبعة أم القروين, الرباط, المغرب .
  15. الغزالي, أبو حامد محمد بن محمد, إحياء علوم الدين, الناشر دار المعرفة, بيروت, لبنان, ط 1 , (2010 م).
  16. الفيروز آبادي, مجد الدين محمد بن يعقوب, القاموس المحيط, دار العلمين, بيروت, لبنان, ط 1, (1429 هـ) .
  17. المعجم الوسيط, إبراهيم مصطفى – حسن الزيات – حامد عبد القادر – محمد النجار, الناشر مجمع اللغة العربية, القاهرة, مصر, ط 1 .
  18. اليازجي, إبراهيم, مسعود, نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد, دار الإحياء, لبنان, بيروت, ط 1, (1411 هـ) .

 

 

 

([1]) ظ : الزبيدي, محمد بن محمد الحسيني, تاج العروس 1 : 2733 .

([2]) المجادلة : 1. 

([3]) الكهف : 34, 37 . 

([4]) ظ : الطريحي, فخر الدين بن محمد علي بن أحمد, مجمع البحرين, 2 : 209 .

([5]) الجدل هو :(الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام) ظ : ابن الاثير, النهاية في غريب الحديث 1 : 247 .

([6]) والجدير بالذكر هنا هنالك ألفاظ أخرى تستعمل في معنى قريب من استعمال معنى الحوار والجدال منها : المحاجة والمناظرة والمناقشة والمباحثة  .

([7]) ظ : آل نواب, عبد الرب نواب الدين, وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار : 20 .

([8]) ابن منظور, أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم, لسان العرب 1 : 437.

([9]) الفيروزآبادي, مجد الدين محمد بن يعقوب, القاموس المحيط 1 : 70 . 

([10]) ظ : جلال, احمد, الإرهاب والعنف السياسي / كتاب الحرية : 20 . 

([11]) ظ : حسن الزيات – حامد عبد القادر – محمد النجار, المعجم الوسيط : 370 . 

([12]) ظ : بكراع النمل, علي بن الحسن الهنائي, المنجد في اللغة : 282 . 

([13]) ظ : اليازجي, إبراهيم, مسعود, نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد : 88  . 

([14]) ابن منظور, أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم, لسان العرب  8 : 145.

([15]) ابن فارس, احمد بن فارس بن زكريا, معجم مقاييس العرب 2 : 90 .

([16]) سفر, دكتور حسن بن محمد, نظرات استشرافية في فقه العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين : 4 .

([17]) الجدير بالذكر :

  1. أن الغلو اخص من التطرف فالغلو أعلى مراتب الإفراط في الجملة, والتطرف هو مجاوزة الحدِّ, والبعد عن التوسط والاعتدال إفراطا أو تفريطا, أو بعبارة أخرى : سلبا أو إيجابا, زيادة أو نقصا, سواء كان غلوا أم لا, إذ العبرة ببلوغ طرفي الأمر .
  2. والغلو أو التطرف ليس مرادفاً للعنف، إذ أن التطرف موقف فكري بينما العنف سلوك، وهو أثر من آثار التطرف . ظ : الشبل, علي بن عبد العزيز, الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف : 16 .

([18]) عزوزي, حسن بن إدريس, قضايا الإرهاب والعنف والتطرف في ميزان القرآن والسنة : 17 .

([19]) صالح بن حميد بن عبد الله, أصول الحوار وآدابه في الإسلام : 12 - 17 .

([20]) ظ : الحوار آدابه وضوابطه : 236 246.

([21]) ظ : آل نواب, عبد الرب نواب الدين, وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار : 21 .

([22]) النحل : 125 .

([23]) ظ : تركستاني, احمد بن سيف الدين, الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه : 15.

([24]) الغزالي, أبو حامد محمد بن محمد, إحياء علوم الدين : 232 .

([25]) تركستاني, احمد بن سيف الدين, الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه : 53 .

([26])  ظ : الجفري, عصام بن هشام, الإرهاب الأسباب والعلاج : 7 - 18  .

([27]) من قبيل أن يكون الحوار :

 أولاً : لابد أن يكون في مكان معزول عن العامة من الناس لكي لا يتأثروا بما يحملون هولاء من أفكار وعقد. ثانياً : يجب أن يكون المتحاورين ممن لديهم الأهلية للحوار بأن يكون عالماً لديهم ومقبولاً .

ثالثاً : إن يكون الحوار بعبارات مهذبة ولطيفة خالية من التجريح والإهانة,

رابعاً : إن يُبنى الحوار على قاعدة طلب الحق من الأدلة الصحيحة والمعتبرة, والابتعاد عن الجدل السقيم والاستخفاف والاستهزاء بهم .

([28]) ظ : السقار, منقذ بن إبراهيم, الحوار مع إتباع الأديان مشروعيته وآدابه : 3 - 9  .

([29]) آل عمران : 64 .

([30]) الروم : 23 .

([31]) ظ : جريشة, علي, أدب الحوار والمناظرة : 33 .

([32]) الكافرون : 6 .