(المرجعية وفتاوى الجهاد (الدور التاريخي

 م.د. غصون مزهر المحمداوي·

مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية 

 

 

                              المقدمة

الدين رساله الهيه هدفها رسم المسار الذي ينبغي ان تسير بموجبه حياة الانسان , وفي هذه الرسالة قانون شامل لكل مامن شأنه ان يقيم الحياة على اساس من العدل والمساواة وحفظ الحقوق وصيانة الكرامة وكل ما يرتقي بالإنسان الى مستوى انسانيته , والدين يضع لحياتنا هدفاً ويحدد لنا الوسائل التي توصلنا الى ذلك الهدف , فهو ينقلنا من حالة العبثية والعشوائية الى حاله من النشاط والعمل الهادف .

وكان قدر مجتمعنا ان يرزح تحت نير الويلات والحروب والدمار والفقر والتخلف والصراع الذي لامبرر له ,لذا لم يسمح للدين أن يأخذ فرصة كافية في الاصلاح ولم يسمح لرسالته ان تؤدي دورها في تصحيح مسيرة المجتمع بل ان الفهم السئ والتفسير الجامد والتعصب الاعمى جعل من الدين سبباً للفرقة والتناحر والعداء بين الانسان واخيه الانسان وهو ما نطالعه ونلمسه كل يوم في واقع نتمنى ان يعود له صفاؤه ونقاؤه .

وهنا كان للمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف , الدور الرئيسي الكبير والمهم في سدّ الفراغ الشامل ( السياسي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي وغيره ) الذي أحدثه تغيير النظام السابق عام 2003 م , واحتلال العراق من قبل القوات الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية . فأسّست المرجعية الدينية العليا الأسس الكبرى الكفيلة لضمان الاستقلال والسيادة للشعب العراقي , من خلال رفضها للاحتلال الأجنبي , وإصرارها على دستور يكتب بأيدي عراقيّة , وحثّها لإجراء انتخابات دستوريّة تضمن حق مشاركة الشعب بكل أطيافه , في صنع القرار واختيار شكل نظام السياسي لهم .

المحور الاول :

دور المرجعية التاريخي

المرجعية الدينية وعلى امتداد تاريخها الطويل كان لها الأثر في تحويل مسار العراق عبر الحقب التي مرت به، حيث كانت وما زالت تمثل مركز الثقل والبوصلة الحقيقية التي إشارات وتسير اليوم الى الوجهة الصحيحة.

المرجعية الدينية هي منصب ديني يرجع اليه الناس لمعرفة الاحكام الشرعية والحوادث المستجدة ،اما في من يتصدى لها فقد ترك المجال لكل من تنطبق عليه شروط اهمها الاعلمية والتقوى ، وبهذا يتصدى لمنصب المرجعية في كل مرحلة مجموعة من العلماء ، ويبقى لكل واحد منهم اجتهاده وطريقته في التصدي ، وينفرد من بينهم ايضا مرجع يسمى المرجع الاعلى الذي تناط به المسؤوليات الكبرى كرعاية الناس والعلم وغيرها.

تمثل مرجعية النجف الاشرف هي المرجعية الاولى في المجتمع الشيعي لذلك يمتد مقلدوها في مختلف بقاع العالم ، ويرجعون اليها في استيضاح مستجدات المسائل الشرعية ، ويتواصلون معها من خلال حلقة الوكلاء الذين ينوبون عنها في المناطق التي يتواجدون فيها اتباعهم .

وابرز ما تتميز به المرجعية الدينية هو العمق العلمي والزهد في الدنيا والحكمة ، وهذا جعل من المجتمع يرتبط ارتباطاً قوياً بها ، ويستجيب سريعاً لما يصدر عنها ، ويؤكد تاريخ المرجعية الدينية على انها ومع الظروف القاسية التي مرت بها بقيت صامدة تواصل نشاطها وارتباطها ، فقد لعبت دوراً مهماً لا على مستوى الشيعة فقط ، بل على مستوى المسلمين وفي مدن مختلفة.

وقد بدات المرجعية الدينية تمارس دورها المجتمعي وبقوة منذ نهايات القرن التاسع عشر وخاصة بعد ظهور التدخلات الاجنبية المستمرة في طبيعة العلاقة بين الدولة العثمانية والولايات العربية التي تسيطر عليها ، وبالاخص التدخل البريطاني حيث أن سياسة الانكليز تقوم على تعاملهم مع الشعوب المستعمرة بسياستهم المعروفة (فرق تسد) ، وكانوا يعتمدون على الأقلية في أي بلد يسيطرون عليه، وذلك من أجل خلق فجوة عميقة وصراعات بين هذه الأقلية وبقية الشعب ، فمن جهة تؤدي سياسة الاعتماد على الأقلية واضطهاد الأغلبية على تفتيت الوحدة الوطنية ، وتجعل الشعب مفككاً وضعيفاً إزاء المستعمِر في نضاله من أجل التحرر. كذلك تجعل الأقلية الحاكمة ضعيفة إزاء الأغلبية المحكومة، فتضطر إلى الاعتماد على الدعم الخارجي من أجل استمرارها في السلطة، واضطهاد وقمع الأغلبية في الداخل، وبالتالي مناهضة الديمقراطية، لأن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية. وهكذا نجد في منح الحكم للأقلية مصلحة متبادلة، تسهيل سيطرة المستعمر على حكومة الأقلية، مقابل ضمان ولاء سلطة الأقلية للمستعمر ، وعملاً بسياستها بدعم الأقلية هذه، كانت الحكومة البريطانية قد انتصرت للشيعة في العراق إبان الحكم العثماني ، لأن الطائفة الشيعية كانت تشكل الأقلية في الإمبراطورية العثمانية رغم أنها ليست كذلك في العراق، إذ تفيد الكتب التاريخية أن في الكثير من المناسبات تدخلت القنصلية البريطانية في صالح الشيعة في أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت تتعرض للاضطهاد من قبل السلطات العثمانية في العراق، فكانت تعمل بريطانيا ذلك على أمل زعزعة الحكم التركي بالاعتماد على الأقليات من شعوبها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد انتصر الإنكليز للشيعة في بعض الحالات التي كانوا يتعرضون فيها لمذبحة، أو لمشكلة مباشرة مع السلطة العثمانية، ففي حرب نجيب باشا عام 1843 ضد أهالي كربلاء، تدخل القنصل البريطاني طرفاً لتسوية النزاع. كما تدخل الدبلوماسيون الإنكليز في المشكلة التي تعرض لها الإمام محمد الشيرازي إثناء إقامته في سامراء أواخر القرن التاسع عشر لصالح الشيعة هناك، إلا إن الإمام الشيرازي رفض مقابلة القنصل البريطاني، وبعث له من يبلغه بكلمته وهي "نحن مسلمون فلا حاجة لتدخلكم بيننا" ، فرجع القنصل خائباً.

ولكن هذه السياسة (نصرة الإنكليز للشيعة) تغيرت بعد الحرب العالمية الأولى وبعد طرد الأتراك من العراق ، حيث برز العرب الشيعة كأكثرية في العراق ، و العرب السنة هم الأقلية ، لذلك قرر المستعمرون الإنكليز حكم العراق على أساس الطائفية، والاعتماد على الأقلية العربية السنية حيث كانت نسبتهم لمجموع سكان العراق حوالي ( 19%) ، والشيعة (55%) ، ونسبة الأكراد( 18%) ، أما مجموع الشعب آنذاك فقد كان ( 2643000 نسمة) ، حسب الإحصاء السكاني الذي أجرته الإدارة البريطانية عام 1919. ولعل أدق إحصائية نشرت عن التوزيع السكاني في العراق هي المستمدة من الإحصاء الرسمي الذي أجرته الحكومة العراقية عام 1947، كما نشرها حنا بطاطو في كتابه الموسوم (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق)، اورد حسب هذه الاحصائية جدولاً اوضح فيه سكان العراق وتوزيعهم العرقي والديني والمذهبي ، في ضوء ذلك بَنت بريطانيا سياستها التي سوف تتبعها في العراق.

وهناك عامل آخر دفع الإنكليز إلى اضطهاد العرب الشيعة وحرمانهم من التمتع بالحقوق وتكافؤ الفرص في بلادهم، وهو أن المرجعية الشيعية وعشائر الوسط والجنوب قد أعلنوا حرب الجهاد ضد الاحتلال البريطاني، ووقفوا إلى جانب الأتراك دفاعاً عن الدولة الإسلامية في الحرب العالمية الأولى، وهي مفارقة عجيبة أن يدافع الشيعة عن النظام العثماني التركي الذي كان يضطهدهم، ولم يعترف حتى بمذهبهم، بل كان يعتبرهم مرتدين عن الإسلام. وهذه المسألة مهمة تحتاج إلى وقفة لمناقشتها، لإعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عنها، وما لها من دور إضافي في اتخاذ الإنكليز موقفاً مناوئاً للشيعة وزرعهم التمييز الطائفي ضدهم فيما بعد، والتي بقيت آثارها المدمرة لحد الآن .

فعند إعلان الحرب العالمية الأولى، قرر الحلفاء، بريطانيا، وفرنسا، وروسيا القيصرية القضاء على الدولة العثمانية (الرجل المريض). وهنا استجابت المرجعية الشيعية إلى فتوى شيخ الإسلام في إسطنبول خيري أفندي، في 7 تشرين الثاني 1914، بالنفير العام للدفاع عن دولة الخلافة الإسلامية. وكان البيان طويلاً جاء فيه: " إن بريطانيا وفرنسا وروسيا تستعبد المسلمين منذ زمن بعيد وتنتهك حرماتهم وهي تبغي إضعاف الخلافة لأنها ركيزة الإسلام ومناط قوته، ولهذا فإن أمير المؤمنين الخليفة يدعو المسلمين جميعاً من غير استثناء إلى الجهاد للدفاع عن قبر النبي  وبيت المقدس وكربلاء والنجف وعاصمة الخلافة. فيا أيها المسلمون من عاد حياً من جهاده نال سعادة كبرى، أما الذي يموت منكم فله أجر الشهادة ويذهب إلى الجنة حسبما وعدنا الله به."

وقد رافقت هذه الفتاوى حملة دعائية واسعة من قبل الألمان، فكان الدعاة الألمان في البلاد الإسلامية يزعمون أن الشعب الألماني كله قد اعتنق الإسلام، حتى  القيصر غليوم نفسه قد اعتنق الإسلام أيضاً، ولهذا صار القيصر يُعرف بين المسلمين باسم "الحاج غليوم" تارة و "محمد وليم" تارة أخرى. ومحاولة الأوربيين نشر هكذا دعاية والإدعاء باعتناق الإسلام ليست جديدة في مثل هذه الأحوال. فقد فعل ذلك نابليون بونابرت في مصر عندما فتحها في عام 1798 حيث لبس العمامة وتحدث عن رؤيته للنبي محمد في المنام.

وكان الشيخ مهدي الخالصي متحمساً للجهاد، وكتب في ذلك رسالة بعنوان: "الحسام البتار في جهاد الكفار" نشرتها جريدة "صدى الإسلام" على حلقات متتابعة ، وعلى الرغم من العلاقة العدائية بين السلطة العثمانية والطائفة الشيعية ، كون المؤسسة الشيعية تاريخياً لا ترتبط بالسلطة كما هو معروف وفقاً لتقاليد الفكر الشيعي، فقد استجاب علماء الشيعة المجتهدون لهذه الفتوى بكل حماس، وأصدروا فتاوى لأبناء العشائر العراقية لإعلان الجهاد ضد المحتلين البريطانيين "الكفار". وكان على رأس المنتفضين للجهاد المجتهد السيد مهدي الحيدري، وهو في الثمانين من العمر، وأولاده الثلاثة وهم السيد عبد الحميد والسيد أحمد والسيد راضي، وجميعهم بدرجة الاجتهاد، وكذلك شيخ الشريعة، والشيخ مهدي الخالصي، والسيد عبد الرزاق الحلو. وقاد هؤلاء الزعماء حرب الجهاد في منطقة القرنة والحويزة، كما قاد الجهاد في منطقة الناصرية والشعيبة الفقيه والشاعر السيد محمد سعيد الحبوبي وهو في السبعين من عمره وكان أمين سره آنذاك السيد محسن الحكيم.

لقد قاد هؤلاء الزعماء الروحانيون أبناء العشائر العربية الشيعية من الوسط والجنوب لخوض حرب غير متكافئة ، إذ لم يكن أبناء العشائر عندهم أية خبرة أو تدريب على السلاح ، ولا الحكومة التركية جهزتهم بما فيه الكفاية من السلاح والعتاد لمواجهة الجيش البريطاني المحترف والمجهز بأرقى التجهيزات بما يناسب الوقت. وأنّىَ لهؤلاء الزعماء الروحانيين، المتفرغين للعلوم الدينية والفقه والحلال والحرام، أن يواجهوا مثل هذه الحرب ويحققوا النصر على جيش محترف، ليجدوا أنفسهم يقومون بأعمال لم يكونوا مهيئين لها، ألا وهي وظائف الجنرالات العسكرية ، ومن الجهة الأخرى، سواء اتفقنا أم لم نتفق مع مبررات الفقهاء لحرب الجهاد، فهذا الموقف يعكس مدى إيمان هؤلاء بعدالة قضيتهم واستعدادهم للشهادة في سبيل الدفاع عن الإسلام. كذلك كان العداء بين الشعب العراقي والدولة التركية مستفحلاً لأربعة قرون بسبب ظلم الدولة لهم. فإذا استجاب أبناء العشائر لفتوى الجهاد، كان ذلك استجابة لعلمائهم المجتهدين وليس حباً بالحكومة التركية، ولا حتى الجيش العثماني كان يمكنه أن يضاهي، بقوته، وانضباطه وتجهيزاته في العراق، الجيش البريطاني.

لنا أن نتساءل: هل كان الحكم التركي في العراق، أو البلاد العربية، يستحق الدفاع عنه؟ وهل كان الاحتلال التركي للعراق يمثل حكماً إسلامياً مشروعاً، خاصة وإنهم كانوا يعتبرون الشيعة منحرفين عن الإسلام بل ومشركين، ومحرومين من أبسط حقوق الإنسان، ناهيك عن حقوق المواطنة؟

في الحقيقة، كان هناك عداء متبادل بين الشيعة والحكم التركي ، فقد سئمت الناس من الظلم والحروب، وكان التجنيد بلاءً، إذ بدأ حتى الجنود الأتراك يفرون من صفوف الجيش منذ أواخر عام 1916. أما الجنود العراقيون فقد سبقوا أولئك بمدة طويلة، أي منذ إعلان النفير العام وظلوا كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ، وقد اعتاد العراقيون على معاداة الدولة وهم يعتبرون التجنيد كالضريبة يجب التهرب منه بكل وسيلة تقع في أيديهم ، ولذلك كان الناس يضمرون مشاعر العداء للأتراك بسبب مظالمهم ، ولا يرون أي مبرر للدفاع عنهم من الإنكليز، لذلك يقول المؤرخ عباس العزاوي صاحب كتاب: العراق بين إحتلالين: "إن الأهلين صاروا لا يبالون بالهزيمة، وقد نفروا من الحرب العامة. وشاع على لسانهم "سفر علّكْ بدلاً من سفر برلكْ"، أي نفير الهزيمة لا نفير الحرب. وصاروا يذهبون مكبلَّين إلى الجبهات للقتال في صفوف الجيش العثماني".

ما الذي كسبه الشيعة من حرب الجهاد؟ أعتقد إن استجابة رجال الدين الشيعة للجهاد ودفعهم لأبناء العشائر في الحرب على الجيش البريطاني المحتل لا يخلو من حيرة، وتحتاج إلى إعادة نظر، ومناقشة عقلانية ومنطقية، بعيداً عن العواطف والحماس. فهناك تناقض أوقعت المرجعية الشيعية نفسها فيه، حيث انتفض الشيعة ضد الإنكليز الذين انتصروا لهم في الماضي، فأعلنوا الجهاد ضد الإنكليز دفاعاً عن الدولة العثمانية التي اضطهدتهم لأربعة قرون ، وقد أعاد التاريخ نفسه على شكل مأساة عام 2003 عندما قاد السيد مقتدى الصدر، (نجل المجتهد الشيعي محمد محمد صادق الصدر)، مؤسس جيش المهدي، حرب الجهاد ضد القوات الأمريكية التي أسقطت أبشع نظام عرفه التاريخ في العراق ألا وهو نظام البعث الصدامي الذي قتل والده وأخويه وابن عم والده السيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى.

وقد ألصق الأتراك عقب هزيمتهم في معركة الشعيبة تهمة الخيانة بالعرب، وألقوا اللوم في هزيمتهم على المجاهدين العرب، ومن هنا جاءت عبارتهم المشهورة التي صار الناس يرددونها بعدهم كثيراً وهي عبارة "عرب خيانت". لا أدري ماذا كان الأتراك يتوقعون من العرب بعد أن اضطهدوهم لأربعة قرون. وقد جرت في تلك الآونة محاورة عنيفة بين الضابط التركي أحمد بك أوراق  وبدر الرميض رئيس عشيرة البوصالح ، فقد قال هذا الضابط بحضور جمع من العشائر: "أننا لو فتحنا الشعيبة والبصرة، علينا واجب ثان وهو فتح العراق وخاصة الفرات أولاً، وعشائر شط دجلة ثانياً، لأنهم خونة". فأجابه بدر الرميض قائلاً: "أنتم الخونة للإسلام ، وتحزبكم ضد العرب كان كافياً لمصداق قولي ، وأنتم أولى بالحرب والقتال ممن نحارب ، ولولا فتوى علمائنا لما وجدتمونا في هذه الساحات التي نقاتل فيها".

هذه المحاورة تكشف بوضوح مدى الحقد الذي كان يضمره الأتراك للعرب عموماً، ناهيك عن الشيعة الذين عانوا من ظلمهم بشكل مضاعف، ولم يلتفتوا إليهم إلا عند الحاجة واشتداد الأزمة وتعرض دولتهم للاحتلال البريطاني. ومع ذلك كان العرب قد استخدموا كبش فداء لتبرير هزيمة الأتراك أمام المحتلين، وكان في نيتهم إبادة العرب في حال انتصارهم على الإنكليز. وهذا ما صرح به القائد التركي خليل باشا للورنس إبان حصار الكوت حول تبادل الأسرى.

كما بينا آنفاً، كانت حرب الجهاد نتيجة تأثير رجال الدين الذين كانوا مع الحكومة العثمانية ، على أبناء العشائر الشيعية الذين كانوا ضدها ، وفي الحقيقة إن العشائر وسكان المدن في معظم أنحاء العراق كانت تكن العداء للحكومة العثمانية، وبالأخص في المناطق الشيعية. لذلك وبعد هزيمة الأتراك في الشعيبة حصلت حركة عصيان شعبي واسع في الفرات الأوسط ضد الحكومة، بدأت في النجف ثم انتشرت في المدن الأخرى للمنطقة ومن علامات هذا العداء أن نشرت في النجف ذات يوم أوراقاً مكتوباً فيها: "أن محاربة الحكومة العثمانية أولى من محاربة المشركين".

ويقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص ما نصه: "الواقع أن جميع المدن العراقية كانت ترغب في إعلان العصيان على الحكومة غير أنها لم تكن قادرة عليه، أو هي كانت تتحين الفرص له فلم تجدها، فاقتصر العصيان على مدن الفرات الأوسط وحدها".

 يحاول حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية) الدفاع عن حرب الجهاد على إنها كانت حرب وطنية وقومية وإسلامية. في الحقيقة لم يكن دافع الجهاد وطنياً، أو قومياً بل كان دينياً إسلامياً لأن في تلك الفترة كان الشعور الوطني والقومي غير واضح المعالم لدى رجال الدين ، فالإسلام دين أممي ولا يعترف بحدود وطنية أو قومية كذلك، إذا أخذنا الوطنية والقومية في نظر الاعتبار في هذه الحرب، فالعراق والبلدان العربية الأخرى كانت محتلة من قبل دولة أجنبية على أية حال، وهي الدولة العثمانية المتخلفة التي حكمت الشعوب العربية لأربعة قرون باسم الإسلام، أغرقوها في غياهب ظلمات الجهل والتخلف، ودمروا حضارتها شر تدمير حتى أنهم حاولوا القضاء على اللغة العربية بتبنيهم سياسة تتريك العرب. فهل حقاً دولة كهذه تستحق الدفاع عنها ومن قبل محكوميها العرب ووصف تلك الحرب بأنها كانت بدوافع وطنية وقومية؟ لا أعتقد ذلك. وحتى طرح الدافع الإسلامي كان غير موفقاً، لأن الخلافة الإسلامية التي ادعت بها الدولة التركية كان غير معترف بها من قبل الشيعة، ولا الشيعة معترف بهم من قبل الدولة العثمانية.

وبالعودة إلى حسن العلوي، فإنه يرى في الموقف الشيعي المضاد لمصالح أبناء الطائفة بأن الشيعة ليسوا طائفيين، فهم ثاروا ضد الإنكليز من منطلق الدفاع عن حكم الأتراك الإسلامي، وضد حكم البريطانيين "الكفار" ، فدافعوا عن حكم الأتراك لأنه مسلم رغم طائفية الأتراك ومعاناة الشيعة من التمييز الطائفي ، وبذلك أعطوا الأولوية للإسلام على الطائفة.

ويستدرك العلوي قائلاً: "لا ننسى أن التذكير بدور الشيعة في حركة الجهاد، قد لا يأتي بالثناء عليهم دائماً. فهناك مجال واسع للاعتقاد، بأنهم بسطاء ومثاليون ربطوا مصيرهم بمصير دولة مهزومة، كانت مثالاً للجور والاستبداد، وإنهم عاطفيون للغاية، حين استفزهم منظر الجيش غير المسلم الذي غزا أرض الإسلام، مما يعني وقوعهم تحت تأثير ديني قاهر".

ومن جهة أخرى، فمن الصعوبة توجيه حركة التاريخ بالوجهة التي أراد لها صناع التاريخ، إذ يقول الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي المعروف، آدم سميث في هذا الصدد: "نتائج غير مقصودة لأفعال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمع" ، وهذا ينطبق تماما على حرب الجهاد التي أفتى بها وقادها رجال الدين الشيعة، فهم قادوا هذه الحرب الجهادية لنصرة الإسلام، وضد الاحتلال البريطاني، ولكن هذا الغرض لم يتحقق لأن الحلفاء قد انتصروا وانتهت الدولة العثمانية إلى الأبد، وخضع العراق، كما الأقطار العربية الأخرى، للحلفاء (بريطانيا وفرنسا). ولكن على الرغم من عدم تحقيق الأهداف المرجوة من حرب الجهاد، فقد نجمت عنها "نتائج غير مقصودة" وهي في غاية الأهمية ودون أن يقصدها قادة الجهاد في أول الأمر. فما هي النتائج غير المقصودة من الحرب العالمية الأولى وحرب الجهاد، وما فائدتها للشعب العراقي؟

لقد أدت الحرب الجهادية، وبدون وعي أو قصد من قادتها، إلى وضع الخميرة لنشوء الوعي الوطني والقومي، والوحدة الوطنية بين مكونات الشعب العراقي، والذي بدوره أدى فيما بعد إلى اندلاع ثورة العشرين الوطنية وتأسيس الدولة العراقية ، ويؤكد الباحث حنا بطاطو هذا الاستنتاج فيقول: "ولكن ما ساهم أكثر من أي شيء آخر في تقدم الشعور الجديد (الوطني) كان الغزو الإنكليزي 1914-1918، أو بالأحرى المقاومة التي أثارها هذا الغزو ووصلت الذروة في انتفاضة العام 1920. وللمرة الأولى منذ قرون عديدة تتوحد جهود الشيعة والسنة سياسياً، وعشائر الفرات الأوسط مع سكان بغداد. وأقيمت احتفالات شيعية- سنية مشتركة لا سابق لها. وكانت هذه الاحتفالات دينية في ظاهرها وسياسية في الواقع، حيث أقيمت في كل مساجد الشيعة والسنة بالتناوب، فكانت الموالد النبوية في ذكرى مولد الرسول، وهي احتفالات سنية، تتبع مجالس تعزية لذكرى استشهاد الحسين، وهي احتفالات شيعية. وكانت الطقوس تبلغ ذروتها بخطابات وأشعار سياسية تهدد الإنكليز وتتوعدهم." ويضيف: " إن الثورة المسلحة.. قد أصبحت جزءً من الميثولوجيا الوطنية، وبالتالي عاملاً هاماً في انتشار الوعي الوطني".

وهكذا نجد أن حرب الجهاد أيقظت في العراقيين مشاعر الوطنية، والقومية الكامنة التي حاولت الدولة العثمانية قتلها خلال أربعة قرون من حكمها لهم ، فكانت المشاعر إزاء الأتراك قبل الحرب العالمية الأولى قد تكيفت وتآلفت مع الحكم التركي باسم الإسلام والخلافة الإسلامية،فقد حصل نوع من الاندماج وتقبل الحاكم التركي رغم جوره ، وكقدر مكتوب لا خلاص ولا مناص منه. فكان شعور العرب إزاء الأتراك على أساس ديني وغير أجنبي، ولكن ما أن تم طرد الأتراك وتواجد على أرض العرب محتلون "كفار" من بلاد غريبة دينياً، وقومياً، وثقافياً، حتى واستيقظ الوعي الوطني والقومي من سباته الطويل الذي رفض ليس المحتل الأجنبي والإنكليزي "الكافر" فحسب، بل وحتى المحتل السابق (التركي(أيضاً. لذلك يمكن اعتبار حرب الجهاد مرحلة تحريك وتحفيز المشاعر الوطنية لدى الجماهير الشعبية، وإيقاظها من سباتها وبزوغ فجر جديد للنضال الوطني الحقيقي، والعمل على تأسيس الدولة العراقية الحديثة وذلك بالتحضير للثورة ضد الإنكليز، وفي هذه المرة بدوافع وطنية وقومية وإسلامية في نفس الوقت، ألا وهي ثورة العشرين الكبرى التي انطلقت شرارتها في الرميثة في الثلاثين من حزيران عام 1920، وانتشرت كالنار في الهشيم في جميع مناطق الفرات الأوسط خاصة، والعراق عموماً، والتي أرغمت الاحتلال البريطاني على تأسيس الحكم الوطني ومن ثم الدولة العراقية المستقلة.

المحور الثاني

الطائفية في العراق

    إن أكبر الخطايا والآثام التي اقترفها رواد حركة القومية العربية في أوائل القرن العشرين ومن تلاهم فيما بعد، أنهم ربطوا حركة القومية العربية بالطائفية المعادية للعرب الشيعة، والنظرة الشوفينية العنصرية ضد غير العرب، حيث راحوا يوصمون الشيعة العرب بشتى النعوت المهينة، والطعن بعروبتهم ووطنيتهم، مثل وصمهم بالعجمة، والشعوبية، والرتل الخامس، والولاء لإيران بدلاً من ولائهم لأوطانهم العربية وغيرها كثير من الاتهامات الجائرة، وراحوا يؤلفون الكتب ويدبجون المقالات لترويج وتأكيد هذه الاتهامات، وإلصاق النعوت المهينة بالشيعة. وقد بلغ الغلو في البعض من القوميين العرب إلى حد أنهم ادعوا أن العرب الشيعة ليسوا عرباً ولا عراقيين أصلاً، بل جلبهم القائد العربي الإسلامي، محمد القاسم مع الجواميس من الهند وأسكنهم أهوار الجنوب ، وهذا ما صرح به الكتاب الصداميون المأجورين الذي يكتبون مقالاتهم في جريدة ما يسمى بـ ( الثورة) البعثية

إن الربط بين القومية والطائفية كان بمثابة العبوة الموقوتة الناسفة للقومية العربية نفسها، والسبب المباشر والرئيس لفشل الدولة العراقية الحديثة في عدم استقرارها، وتغذية وإدامة الأحقاد والصراعات العنيفة بين مكونات الشعب العراقي، الأمر الذي أدى إلى تدمير الحركة القومية العربية، وإلى فشل المشروع الديمقراطي الليبرالي الذي أراد الملك فيصل الأول بناء مملكته على أساسه، وبالتالي إلى انهيار الدولة العراقية المدوي يوم 9/4/2003، وما تلاه من مضاعفات وتداعيات مهولة.

وتأكيداً لدور حركة القومية العربية في الأزمة العراقية وأزمة الدول العربية الأخرى، نشير إلى التقرير الإستراتيجي العربي لعام 1999، الذي جاء فيه: "إن القومية العربية تتحمل مسؤولية كبرى، بل مسؤولية أولى، عن التدهور الذي آل إليه النظام الإقليمي العربي في نهاية القرن العشرين، فهذا يرتبط بالأساس اللاديمقراطي، بل المعادي للديمقراطية، الذي قامت عليه".

وامتداداً للتمييز الطائفي والعرقي في العهود السابقة، اتخذت المظالم ضد الشيعة والكرد شكلاً متطرفاً في عهد حكم البعث الثاني (1968-2003) حيث انفرد النظام، ولأول مرة في تاريخ العالم، وبدوافع طائفية وعنصرية بحتة، بإصدار قانون إسقاط الجنسية  ( رقم 666 لسنة 1980) الذي أسقط بموجبه الجنسية عن مئات الألوف من الشيعة، العرب والكرد الفيلية، والتركمان، وتهجيرهم بالقوة بتهمة التبعية الإيرانية، وتم تنفيذ هذا القانون بمنتهى القسوة والوحشية، وذلك بإلقائهم على الحدود الإيرانية الملغومة أيام الحرب العراقية - الإيرانية، بعد أن جردهم من جميع وثائقهم الرسمية التي تثبت عراقيتهم أباً عن جد، ومصادرة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة. كما وقام نظام البعث بحروب إبادة الجنس ضد الأكراد في عمليات الأنفال والغازات السامة في حلبجة، والتغيير الديموغرافي ضد الأكراد عن طريق التهجير القسري الداخلي والخارجي، وغيرها من عمليات التطهير العرقي والطائفي، والجرائم البشعة بحق مكونات الشعب العراقي وضد حقوق الإنسان تكللت بإرغام نحو خمسة ملايين من العراقيين على الهجرة إلى الشتات، معظمهم من الشيعة العرب والكرد، وجلب النظام مكانهم نحو أربعة ملايين من مواطني البلدان العربية وعاملهم كمواطنين عراقيين، بغية تغيير ديموغرافية العراق طائفياً وقومياً.

إن الظلم الذي تعرضت له الغالبية العظمى من أبناء الشعب العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية، ما كان إلا نتيجة حتمية لسياسة التمييز الطائفي، والعنصري الذي اتخذ شكلاً هستيرياً رهيباً غير مسبوق في عهد حكم البعث، وبالأخص عندما تسلم صدام حسين رئاسة الدولة والمناصب العليا الأخرى. وما الاقتتال الذي انفجر بعد سقوط حكم البعث، إلا نتيجة لتراكمات المظالم والاحتقانات عبر عقود من السنين، والتعبير عن شحنات الغضب والاحتقانات الكامنة، حيث أدمنت الفئة الحاكمة على مواصلة الاستئثار بالسلطة وإصرارها على عدم مشاركة المكونات الأخرى من الشعب في الحكم مشاركة عادلة، وفي هذه الحالة فلا بد للسلطة أن تعتمد على سياسة القمع والإرهاب.

إضافة إلى ما تقدم، هناك عوامل أخرى ساعدت على إشعال المزيد من الصراعات بعد سقوط حكم البعث، منها أن نظام البعث أعاد المجتمع العراقي إلى ما قبل نشوء الدولة وتكوين الشعوب، أي إلى مرحلة البداوة فأحيا القبلية، والعشائرية، وأجج روح الطائفية، كما وقام بتدمير الطبقة الوسطى بالكامل وإفقار الجميع.

كذلك استغلت دول الجوار تعقيدات الوضع العراقي بعد سقوط البعث، وبالأخص التعدد المذهبي، والأثني، وخوفها من نجاح العملية السياسية في العراق، وارتعابها من وصول عدوى الديمقراطية إلى بلدانها، لذلك ساهمت هذه الدول في تأجيج الفتنة الطائفية، وصب الزيت على النار، فكل دولة تدعم الطائفة والأثنية التي تماثلها في العراق، لإفشال العملية السياسية ومنع الديمقراطية فيه .

ومن كل ما تقدم، نرى أن الصراع الطائفي كان موجوداً منذ تأسيس الدولة العراقية وانفجر بعد سقوط حكم البعث الذي طرح نفسه المدافع الأمين والوحيد عن العرب السنة، لا حرصاً على المذهب، إذ هو حزب علماني، بل لربط مصير أبناء الطائفة بمصيره، وتسخيرهم لاسترجاع سلطته التي فقدها يوم 9/4/2003.  

وهنا أود التأكيد على أن الذي حصل في يوم 9 نيسان 2003 هو سقوط النظام البعثي الصدامي الفاشستي، وليس سقوط بغداد كما يردد فلول البعث والمتعاطفون معهم، حيث تحرر الشعب العراقي الأعزل الذي كان مغلوباً على أمره من أبشع نظام همجي ديكتاتوري عرفه التاريخ، ليبدأ ولادة دولة عصرية جديدة لكل العراقيين دون استثناء، مبنية على أسس الديمقراطية الحقيقية، ودولة المواطنة والقانون. وبعد كل هذه المظالم التي تعرض لها الشعب العراقي لأربعين عاماً من حكم التيار القومي، وخاصة البعثي، فلا يمكن أن تولد دولة ديمقراطية بدون آلام ومضاعفات وتداعيات، إذ كما قال الفيلسوف الألماني هيغل: "إن ولادة الأشياء العظيمة دائماً مصحوبة بألم"، والديمقراطية هي من أعظم ما أنتجته الحضارة البشرية، لذا فلا بد وأن تكون مصحوبة بآلام ومضاعفات وتضحيات.

لذلك لم يكن ممكناً تجنب التداعيات التي حصلت بعد سقوط نظام البعث وما حصل من فوضى، وأعمال شغب، ونهب، وفرهود، وقتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات ولكن كان من الممكن التخفيف منها فيما لو اتخذت قوات التحالف، وقادة المعارضة آنذاك، إجراءات احترازية مسبقة قبل التغيير لمنع الانفلات الأمني وعمليات النهب والفرهود، بمواجهة عصابات الجريمة المنظمة، ومنظمات الإرهاب من فلول البعث وحلفائهم من أتباع القاعدة، بحزم منذ البداية، وتحديد مرحلة انتقالية من ثلاثة إلى خمسة أعوام، لتتم خلالها السيطرة الكاملة على البلاد، والمباشرة ببناء الدولة العصرية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وقواتها المسلحة من المستقلين والتكنوقراط على أسس حديثة ثابتة ومتينة، وتجهيزهم بكل الوسائل الحديثة اللازمة، وتثقيفهم بالانضباط العسكري والولاء للوطن، وفرض الأمن لحماية أرواح الناس وممتلكاتهم من الأشرار، واحترام وحماية الحكومة المدنية الديمقراطية، والعمل على إزالة مخلفات البعث وعقلية الانقلابات العسكرية من الجيش الجديد، والمباشرة بإعمار العراق، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، ونشر ثقافة الديمقراطية وروح التسامح، ومن ثَّم تهيئة الأجواء للانتخابات والانتقال التدريجي إلى الديمقراطية.

ولكن مع الأسف الشديد أراد الأمريكان والمعارضة العراقية السابقة (الحاكمة اليوم)، أن يقفزوا بالعراق من نظام صدام حسين القمعي الدموي، والمتطرف في الاستبداد الجائر، إلى النظام الديمقراطي الكامل بين عشية وضحاها، ودون أي تحضير أو مقدمات. أي أنهم تعاملوا مع الشعب العراقي الذي تعرض إلى كل هذه المظالم والنكبات عبر قرون، وخاصة في العقود الخمسة الأخيرة، بمثل ما يتعاملون مع شعوب الدول الغربية العريقة في الديمقراطية.
إلا إنه من الجانب الآخر، يجب أن نعترف أنه ليس هناك أسهل من توجيه الانتقادات وإلقاء اللوم على الآخرين، وإطلاق الأقوال الحكيمة بعد فوات الأوان. وفي جميع الأحوال، لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتلافي الأخطاء التي ارتكبت منذ 9 نيسان 2003 لحد الآن، بل يجب استخلاص الدروس والعبر من أخطاء الماضي وتصحيحها، فعلى الرغم من كل ما جرى من فواجع، هناك أمل كبير في بناء عراق ديمقراطي مستقر ومزدهر فيما لو توفرت لدى أهل الحل والعقد النوايا الحسنة والإرادة القوية في معالجة الأوضاع بجدية. لذلك، وفي هذه الحالة، يجب الاستمرار في العملية الديمقراطية بكل إصرار، دون أي تراجع عنها أو تساهل إزاء العقبات.

خلاصة القول: ومن كل ما تقدم، نستنتج أن التمييز الطائفي والعنصري كان سياسة متبعة في العهد الملكي وما قبله، وحصل نوع من القطيعة مع هذه السياسة في فترة قصيرة وذلك في عهد حكم الزعيم عبدالكريم قاسم، ثم تصاعد في عهد الأخوين عارف وما تلاه من حكم البعث الثاني من 1968 إلى سقوطه في 2003، وسوف لن يتحقق الاستقرار السياسي ما لم يتم إلغاء التمييز بجميع أشكاله في نظام ديمقراطي عادل، ولكل فرد صوت واحد في اتخاذ القرار.

المحور الثالث

المرجعية وفتوى الجهاد الكفائي

لقد كان للمرجعية الدينية الشريفة دور فاعل في أحداث العراق والمنطقة قبل سقوط النظام لا يمكن لأحد إن يتجاهله، إذ يعود تاريخ مشاركة علماء الدين العراقيين في صميم السياسة إلى سنوات الحرب العالمية الأولى، حيث دعا علماء الشيعة للجهاد مع العثمانيين ضد الإنجليز، كما ذكرنا ذلك سلفاً ، وساهم بعضهم في القتال فعلا، إلا إن تنامي دورها الأساس والرئيس في الشؤون العامة ظهر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وبعد صعود التيارات السياسية الإسلامية والقومية والمدنية إلى السلطة في العراق اثر سقوط النظام البائد ، ظهرت بعض الأصوات الشعبية تطالب بإشراف ورعاية المرجعية الدينية في النجف الاشرف وعلى رأسها (آية الله السيد علي السيستاني) للعملية السياسية في العراق وعدم ترك الأمور بيد الاحتلال وتلك التيارات السياسية المختلفة، وفعلا دعت المرجعية الدينية الشريفة إلى اخذ رأي الشعب في كل الأمور التي تخص البلد ابتداء من الدعوة لتشكيل حكومة عراقية وإنهاء سلطة الاحتلال المؤقتة، ثم الدعوة لكتابة دستور دائم للبلاد من قبل العراقيين، والدعوة أيضا لإجراء انتخابات حرة ونزيهة لانتخابات أعضاء المجالس المختلفة، ( مجلس النواب، ومجالس المحافظات والاقضية والنواحي)، لذلك كان– ولا يزال- للمرجعية الدينية في النجف الاشرف دور مهم في المرحلة الراهنة لأجل تشخيص نقاط القوة والضعف في الأداء السياسي لتلك التيارات والأحزاب السياسية العراقية، ثم تصاعد هذا الدور وبشكل لافت للنظر بعد دخول تنظيم داعش الإرهابي للعراق وسيطرته على أجزاء مهمة في الموصل والانبار وكركوك وصلاح الدين، وخاصة فتوى الجهاد الكفائي لصد التنظيمات الإرهابية والدفاع عن الوطن والمقدسات وأخرها الوقوف مع الشعب في مطالبته بالتغيير ومحاسبة المسؤولين المقصرين والفاسدين وتوفير الخدمات للشعب.

وإذا عدنا إلى أسباب تدخل المرجعية الدينية في الأمور السياسية والعامة للبلاد، فان هناك عدد من الأحداث والتطورات التي ظهرت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، جعلت المرجعية الدينية الرشيدة تنهض من طورها التقليدي الذي ابتعد عن التدخل المباشر في الأمور السياسية للعراق، إلى التدخل المباشر، وبطرق عديدة منها التوجيه والإرشاد، ومنها إصدار البيانات حول العمل السياسي ومنها دعوة ومساندة الجماهير في مطالبها السياسية والاجتماعية ومنها الدعوة إلى التهدئة وعدم الانجرار وراء الفتن الطائفية، ويمكن إن ندرج بعض هذه الأسباب لذلك ومنها:

1- ترى المرجعية أن دورها يعني ألأشراف على شؤون المؤمنين الروحية والعبادية وألأجتماعية وهي تكليف وليس تشريف وهي قبل كل شيء مقام ديني اجتماعي وليست مركزا سياسيا، لذا إن الانتخابات في نظر المرجعية ليس شأنا سياسيا فقط بل هي شأن اجتماعي والشأن الاجتماعي يدخل في دائرة اهتمامات المرجعية وبحكم تصديه لمقام المرجعية الدينية، (آية الله العظمى السيد علي السيستاني) نفسه ملزما بالتعاطي في قضية الانتخابات والتي يعتقد أنها الأساس المتين للعملية السياسية وللحياة الاجتماعية في أي مجتمع أو بلد، ومن خلال التأمل في تجارب الامم التي تتمتع بنظم سياسية مستقرة وبحياة هادئة فسلامة الحياة السياسية يكون بوجود انتخابات حرة نزيهة تعبر عن رأي ألأمة وأرادتها، على أن أعطاء رأيه بالانتخابات لم يكن ابتدائيا بل جاء كجواب لتساؤل عرضه عليه بعض مقلديه، وقد أجاب على التساؤل المذكور بصفته مرجعا للتقليد لا زعيما سياسيا ولا وليا فقيها، كما أن إصراره على الانتخابات يأتي من باب التلميح والحدس باحتمال ميله للإيمان بولاية ألأمة على نفسها وبقيمومتها على ذاتها حيث لم يقم لديه الدليل على ولاية الفقيه المطلقة التي يقول بها البعض لكن ذلك لا يعني عدم تعاطيه السياسة مطلقا، خصوصا وان هناك الكثير من الساسة العراقيين والأجانب قد طرق بابه لأخذ المشورة منه في أمور العراق المختلفة.

2- إن تدخل المرجعية في الحياة السياسية، نابع من مواقفها وحرصها الشديد على أن ينال كل العراقيين حقوقهم، وان لا يكون هنالك تمييز لشريحة معينة على حساب بقية شرائح الأمة، وتأتي أيضا من تفهم المرجعية الرشيدة لأهمية الدستور في حياة أي أمة وهي ترى أهميتها في حياة الأمم المتحضرة، وهو يتماشى مع ما تدعو إليه المرجعية من إحلال السلم والعدالة الاجتماعية لكافة مكونات الشعب العراقي وان لا يكون لفئة ما امتياز على بقية الفئات وهذا هو موقف ابوي تجاه شرائح المجتمع العراقي وليس موقفا سياسيا الزاميا.

3- فلقد كانت مرجعية اية الله ( السيد علي السيستاني) ترى بان الامور ستتحسن عند اجراء الانتخابات حيث سيأخذ كل ذي حق حقه، إلا أن ظهور تقصير واضح من قبل الذين تصدوا للعمل السياسي في العراق من مختلف المكونات، من خلال ظهور التقسيم الطائفي- المحاصصة الطائفية- للحكم في العراق وليس على أساس الكفاءة والمؤهلات، كذلك استشراء الفساد المالي والإداري في كل مفاصل الدول وعلى مختلف المستويات الذي لم يشهده العراق خلال تاريخه السياسي، وأخيرا أدى هذا التناحر بين الكتل السياسية والفساد المالي إلى سوء الخدمات وتزايد مستويات الفقر وسرقة المال العام، ودخول المجموعات الإرهاب من خلال تنظيم داعش الإرهابي والاستيلاء على مساحات واسعة من العراق، وعلى الرغم من التحذير المستمر للمرجعية الدينية للسياسيين من خطورة هذه الأمور على مستقبل العراق، ودعواتها المستمرة إلى الالتزام بحرية الشعب وتوفير العيش السليم له والحفاظ على المال العام، ومطالبتها المواطنين وفي بداية إي انتخابات على مستوى النواب أو المحافظات، إلى الاختيار على أساس الكفاءة والنزاهة لتولي المناصب العليا في البلاد، وذلك في محاولة لتغيير الوضع القائم وإنهاء حالة الانقسام والفساد المستشري بالطرق الديمقراطية عن طريق الانتخابات.

4- بعد وصول التنظيمات الإرهابية إلى المناطق المقدسة والأهلة بالسكان، وقتلها الآلاف من العراقيين في الموصل وصلاح الدين على أساس طائفي، وعدم وجود قوات عسكرية نظامية من الجيش والشرطة قادرة على وقف تقدم الإرهاب، أدركت المرجعية الدينية خطورة الوضع الأمني الحالي، واحتمال انجرار البلاد للحرب الأهلية الشاملة، لذا جاء دعوة المرجعية الدينية لكل العراقيين إلى الجهاد الكفائي للدفاع عن الوطن والمقدسات، وتشكيلها لقوات الحشد الشعبي ودعمهم بالمال والسلاح، إذ إن تخاذل السياسيين والانقسام بين الكتل والأحزاب السياسية، دفعها لان تأخذ زمام المبادرة في الدفاع عن الوطن والمقدسات والشعب.

5- تسعى المرجعية الدينية للاحتفاظ بالطابع الإسلامي للعراق، خاصة في الوقوف بوجه الإنحلال والمد التكفيري، و لذا لم توافق على الوجود الأميركي لوقت طويل، كما إن القيادات السياسية كانت تحاول كسب رضا المرجعية الدينية ومباركتها لخطواتها وقراراتها، كما حدث في الانتخابات السابقة لاكتساب الشرعية، كذلك رفضت اغلب هذه القيادات السياسية وجود الاحتلال في العراق ودعت لا خراجه.

6- تمتع المرجعية الدينية في العراق بالتأييد الشعبي الواسع ومن مختلف شرائح ومكونات المجتمع، وذلك لمواقفها الوطنية التي لم تفرق بين مكون وأخر، وتصديها لدعم القيادات السياسية في العراق تحقيقا لتوازن سياسي، وتحقيقا لسلم اجتماعي لعدم وقوع حرب طائفية او اهلية وصولا الى استقرار المجتمع العراقي داخليا، فقد دعت للتهدئة في العديد من الاحداث ومنها تفجير الإمامين العسكريين عليهم السلام، لقد كانت المرجعية الدينية واعية للمخططات الامريكية التي تحاك ضد العراق ومحاولة إثارة الحرب الطائفية فيه، فكان لهذا التأييد الشعبي الواسع لها بمثابة دعوة شعبية لتدخل المرجعية الدينية في الشؤون العامة للبلاد، وعدت الملجأ الأول والأخير للعراقيين للوقوف بوجه السياسة الإدارية غير الفعالة في العراق .

المرجعية الدينية لم تتحرك لطائفة معينة فحسب بل تحركت من اجل العراق بكل طوائفه وقومياته، بل كانت وما زالت اللسان الناطق والمعبر عن جميع اطياف الشعب العراقي، ولا يجادل احد ان المرجعية الدينية لعبت دوراً كبيراً في اعادة الحياة الى الدولة وبناء مؤسساتها الدستورية وفقاً للقانون ومبادى العدل والمساواة واحترام الآخرين وتفعيل دور المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي.
المرجعية الدينية اكدت على ان العراقيين يجب ان يكون لهم دور مهم في نوع النظام الذي يريدوه من دون التأثير على قراراته او اختياره من القوى الخارجية، كما انها اكدت في الكثير من البيانات التي صدرت او التي ألقيت من على منبر الجمعة في الصحن الحسيني المطهر ان السنة والشيعة أخوة، ومهما حدثت من احداث مؤسفة اثارها الأغراب، والتي تحاول التأثير على النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، الا ان التعايش السلمي هو القدر الذي على شعبنا ان يعيشه بمختلف انتمائه.

المرجعية الدينية وعلى امتداد تاريخها الطويل كان لها الأثر في تحويل مسار العراق عبر الحقب التي مرت به، حيث كانت وما زالت تمثل مركز الثقل والبوصلة الحقيقية التي إشارات وتسير اليوم الى الوجهة الصحيحة، وعندما نقرا التاريخ جيداً نجد ان المرجعية الدينية ومنذ مائة عام كان لها فتوى بالجهاد ضد المحتل الغاشم.

الخاتمة

ما يمر به بلدنا اليوم دليل واضح على أهمية ودور المرجعية الدينية في الوقوف بوجه التحديات التي تريد الشر للعراق وشعبه، والانزلاق الى حافة الحرب الأهلية، فقد كان موقفها الواضح من فتوى (الجهاد الكفائي) بعد ان حددت وشخصت العدو الحقيقي رغم وجود الكثير من الايادي الخبيثة والتي تحاول التغطية على العدو الحقيقي للعراق وشعبه.

من المؤسف اليوم نرى الكثير من التشويهات والمغالطات لهذه الفتوى، من قبل جهات ارادت التشويه والتشويش عليها، وبالتالي يدخل في خانة الاجندات التي تحاول تمزيق اواصر الشعب العراقي وبث الفرقة بين ابناءه.

هذه الفتوى التي اعادت الحياة لشعب عانى الويلات والاضطهاد والظلم على يد حكام الجور، واليوم تعود قوى الظلام الإرهابية (داعش) لتكمل دورها في الظلم عبر عمليات القتل والذبح والتهجير والسبي، هذه الفتوى التي غيرت موازين القوى، تمثلت في رجال الحشد الشعبي الذين هبوا تلبية لنداء المرجعية الدينية في الدفاع عن عموم العراق وشعبه، والوقوف بوجه القوى الظلامية من داعش والتحالف الارهابعثي.

المرجعية الدينية اليوم امتداد طبيعي الى تاريخ العراق وهي البوصلة في بناء مستقبله، لانها مارست الدور الأساسي في الوقوف وتشخيص الخلل والدفاع عن حقوق الشعب العراقي، وكيف وقفت موقفاً كبيراً معالجة الأزمات التي عصفت بالعراق إبان الحكومات السابقة  التي اضرت كثيرا بالعمل السياسي، وكادت ان تصل بالعراق الى آتون الحرب الأهلية والتقسيم لأكثر من مرة. 

مصادر البحث

  • علي الوردي ،لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، الاجزاء 1-5 ، دار بهجة المعرفة ، بيروت- بغداد ، لا .ت ،.
  • حنا بطاطو ،العراق (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العهد العثماني حتى قيام الجمهورية) ،الكتاب الاول ، ترجمة عفيف الرزاز ،مؤسسة الرافد للمطبوعات ، طهران ،2005.
  • محمد طاهر العمري ،تاريخ مقدرات العراق السياسية ، المجلد الاول ، دارالراية البيضاء ،بيروت – لبنان ،لا .ت.
  • عبد الرزاق الحسني ، العراق في دوري الاحتلال والانتداب ، الجزء الاول ، دارالراية البيضاء ،بيروت –لبنان ،لا .ت .
  • حسن العلوي ، الشيعة والدولة القومية في العراق ، فرنسا ، 1989 .
  • عبد الرزاق الحسني ، تاريخ العراق السياسي الحديث ، الجزء الاول ، دار الكتب ، بيروت ،1983 .
  • عدنان عليان ، الشيعة والدولة العراقية الحديثة ، مؤسسة العارف للمطبوعات ،بيروت، 2005 .

  • مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية