دور المرجعية

في التصدي للحركات الإلحادية والمعادية للإسلام

( للأعوام  1957-1971 م )

الباحث : أ . م . د طارق حسن الأسدي

جامعة ذي قار كلية العلوم الإسلامية

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على نبينا محمد ( ص ) وعلى آله الطيبين الطاهرين

وبعد ... إن الذي يطلع على تاريخ الحوزة العلمية والمرجعية الدينية يتبين له مدى الثروة العلمية الكبيرة لفقهاء أهل البيت ( ع ) وما تتضمنه هذه المدرسة من رؤى فقهية وأفكار عميقة ودراسات ومناهج في الاجتهاد والتجديد في مناهجه إلى أن أضحى صرحاً علمياً شامخاً على امتداد التاريخ

وعلى الرغم من أن البعض جعل دور المرجعية يقتصر على الناحية العلمية لكن في الحقيقة إن دور المرجعية كان اجتماعيا وسياسيا وفكريا أيضا ، ويشهد على ذلك التاريخ المشرف للمرجعية من خلال تصديها للتيارات الفكرية المعادية للإسلام والتي بثت سمومها في المجتمع الإسلامي فضلا عن بروز الجانب الاجتماعي لهذه الجهة الدينية العريقة والتي أخذت على عاتقها الاهتمام بمشاكل وهموم الناس ، إضافة إلى الأدوار السياسية الشجاعة ضد السلطة . 

هذا وقد ظهرت على الساحة الفكرية والعقائدية حركات وتيارات فكرية منحرفة اكتسحت مدن العراق ونواحيه مستهدفة الإنسان المسلم في عقيدته ودينه وفطرته ومن هذه الحركات البهائية والشيوعية وحركات الغلو المتطرفة ، فانبرت المرجعية للتصدي لها وكشف حقيقتها وتفنيد أفكارها وتحذير الأمة من خطر السقوط في مكائدها .

وقد اتخذ الباحث موضوع الدراسة ( دور المرجعية في التصدي للحركات الإلحادية والمعادية للإسلام للأعوام ( 1957-1971 م ) لتسليط الضوء على هذه الفترة ، واتخاذها كمنطلق لبيان دور المرجعية في ضوء تنامي وتطور وسائل التواصل الحديثة والمعلومات السريعة فتعددت من خلالها الرؤى والأفكار المتنوعة ومنها الأفكار العلمانية ، مستغلة ذلك الوضع السياسي المتخلخل الذي يعيشه العراق وكذلك الوضع الإقليمي الذي شهد عدوانا صريحا على العراق وشعبه ، مما أضحى لقمة سائغة لأفواه الآخرين الذين يسعون لتدمير العراق وأهله .

هذا وقد قسمت البحث إلى مقدمة ثم تناولت البحث في فصلين ، تضمن الفصل الأول مكانة المرجعية ونشوء الحركات الإلحادية والمعادية للإسلام وآثارها وذلك ضمن مبحثين ، أما الفصل الثاني فتضمن المبحث الأول فيه تصدي المرجعية لهذه الحركات الفكرية المعادية للإسلام ومن ثم المبحث الثاني الذي اشتمل على دور الآخرين في مواجهة هذه الأفكار المضادة للإسلام .

                               والحمد لله ربِّ العالمين

 

 تمهيد :

الإلحاد لغة واصطلاحاً :

نجد أن الإلحاد هو الميل عن الاستقامة والانحراف عن طريق الحق والإيمان وقد ظهر هذا في كلمات اللغويين . 

فقد قال ابن منظور : (( ألحد : مال ،  وقيل : لحد مال وجار ، وقال ابن السكيت : الملحد : العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس فيه ، يقال  : قد ألحد في الدين ، ولحد : أي حاد عنه ، وروي : لحدت : ملت وألحدت : ماريت وجادلت ، وألحد : مارى وجادل ومعنى الإلحاد في اللغة : الميل عن القصد .... لحد إليه بلسانه : مال ))([1])  

وقال آخرون  : (( وألحد فلان : مال عن الحق، وألحد في دين الله، حاد عنه وعدل ، وسمي اللحد لحدا لأنه قد أميل عن وسط القبر إلى جانبه ، والملتحد : الملجأ، سمي بذلك لأن اللاجئ يميل إليه))([2])

الإلحاد اصطلاحاً :

ذكر بأنه هو مصطلح عام يستعمل لوصف تيار فكري وفلسفي يتمركز حول فكرة إنكار وجود خالق أعظم، أو أية قوة إلهية بمفهوم الديانات السائدة. وببساطة شديدة فإن الإلحاد يعني إنكار وجود الله لعدم توافر الأدلة على وجوده، فمنطق الإلحاد هوإن ما لم تثبته التجربة العلمية يكون خاطئًا وتافهًا ومنقوصًا من أساسه.([3])  

وكلمة الإلحاد في القرآن لا تأتي بمعنى الإلحاد بالمفهوم الحالي (المعاصر) المتعارف عليه. وكذلك الشخصيات المذکورة في القرآن من الذين كانوا لا يؤمنون بالرسالة النبوية كانت شخصيات غير ملحدة (بالمفهوم المعاصر) بل کانوا يؤمنون بتعدد الآلهة ( مشركون ) فرغم اعتقادهم بوجود الإله الأوحد فإنهم كانوا في نفس الوقت يؤمنون بأن التماثيل التي كانوا يعبدونها باستطاعتها الشفاعة لهم عند الإله الأعظم ، قال تعالى﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾([4])

وفكرة إنكار وجود الخالق من الأساس فكرة مستبعدة تماما في كل العصور، لأن الإنسان فُطِر على وجود إله خالق، وهذه حقيقة لا ينكرها حتى الملحد، لكنه يعاند ويكابر ، قال تعالى : ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا ﴾([5])  .

هذا ويمكن تقسيم الإلحاد إلى قسمين :  

إلحاد موجب : وهو نفي وجود إله .

وإلحاد سالب وهو عدم الاعتقاد بوجود إله.

فالفرق بين الملحد الموجب والسالب - عندهم - هو أن الملحد الموجب ينفي وجود الله تعالى، وقد يستعين بنظريات علمية وفلسفية لإثبات ذلك، بينما الملحد السالب يكتفي فقط بعدم الاعتقاد بالله نظرا لعدم قناعته بالأدلة التي يقدمها المؤمنون .

لكن الملحدين عموماً يركزون كثيراً على أن العلم الحديث ينافر الإيمان بالله ويناقضه متشبثين بنتائج أثبتها علم الطبيعة والأحياء وعلم النفس([6])

الفصل الأول : مكانة المرجعية ونشوء الحركات الإلحادية والمعادية للإسلام وآثارها

المبحث الأول : مكانة المرجعية وأهميتها

  المرجع هو الذي ترجع إليه الأمة في أمورها كلها وبالخصوص الحوادث المستجدة. فمسألة المرجعية ليست رهبنة ولا مقتصرة على إعطاء الفتوى في الأمور العبادية فقط أو ما شابهها مما هو مدون في الرسائل العملية ، بل المرجعية شاملة لكل مجالات الحياة، وأبرزها الحوادث الواقعة المستجدة التي تواجه الأمة ،  ولو اقتصرت المرجعية على الشؤون المدونة في الرسائل العملية لاكتفت الأمة بكتاب يدون فيه جميع المسائل ترجع إليه الأمة عند حاجتها ويكون شبيهاً بالكتب الدراسية التي يؤلفها المختصون في الجامعات والمدارس.

  وأهمية المرجعية ترجع إلى قدرتها على بناء وحفظ كيان الإسلام، وبسطه واعتلائه ، وذلك لأن المرجع هو الحافظ للإسلام والحارس لجميع ما يتعلق بالمنظومة الإسلامية. وهو الملاذ عند الفوادح والمخاطرات بجميع أشكالها سياسية واقتصادية وفكرية وغيرها.

 وهو الجبل الأشم أمام التيارات المضادة الداخلية والخارجية الآتية من أعداء الإسلام وأصحاب المذاهب الفكرية والاعتقادات الباطلة مثل الماسونية والوهابية والبهائية، وأصحاب القوانين الوضعية المخالفة للإسلام 

ولا ملاذ للمسلمين اليوم إلا المرجعية لصيانة دينهم وحفظ قرآنهم، وتماسك كيانهم، وبقاء قبلتهم.

قال الإمام الصادق عليه السلام : (إن العلماء ورثة الأنبياء. وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ شيئا منها فقد أخذ حظاً وافراً. فانظروا علمكم هذا عمَّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)([7])

إنّ أهمّ ما يميّز المرجعيّة الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقيّة التي يجب أن تسير المرجعيّة في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام ، وامتلاكها صورة واضحة محدّدة لهذه الأهداف ، فهي مرجعيّة هادفة بوضوح ووعي ، تتصرّف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أن تمارس تصرّفات عشوائيّة وبروح تجزيئيّة وبدافع من ضغط الحاجات الجزئيّة المتجدّدة .

وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كلّ الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه .

ومن أهم أهداف المرجعية هو نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي .

وتعمل المرجعية على  إيجاد تيّار فكري واسع في الاُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلاميّة الواعية ، من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكّد بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة ، واتّخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم .

وكذلك تعمل على  إشباع الحاجات الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلامي ، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلاميّة الكافية في مختلف المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ، والمقارنات الفكريّة بين الإسلام وبقيّة المذاهب الاجتماعيّة ، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مدّ كلّ جوانب الحياة بالتشريع ، وتصعيد الحوزة ككلّ إلى مستوى هذه المهامّ الكبيرة .

وتمارس المرجعية  القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده وتصحيح ما هو خطأ .([8])

 إذن يتضح أن المرجعية هي القيادة العليا للأمة، وبانية الحضارة الإنسانية العريقة، وحافظة التراث الإسلامي الناصع، والذائدة عن حريم الإسلام المقدس، والمعايشة لآلام الناس، والمطلع على مشاكلهم، والمدافعة عن مظلوميتهم والحافظة لحقوقهم .

 ومن المعلوم إن الأحكام العامة ثابتة لا تتغير قال الإمام الصادق ع : (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام أبداً إلى يوم القيامة)([9]) ،  ولكن الفتاوى خاضعة للظروف الزمكانية والموضوعية والشخصية ووضع الأمة ، وهذا يتطلب معرفة كل ذلك حين إصدار الفتوى ، فالفقيه الذي يحق للمجتمع تقليده واتباعه، وتسليمه أزمة الأمور كلها والقيادة هو الفقيه الذي يتصف بما ذكرنا عالماً بجميع تعاليم الإسلام العبادية والمعاملاتية وكل ما  يمت إلى الحياة العامة بصلة.

لذلك أمرنا باتباع الفقيه الجامع للشرائط باعتبار ان المكلف بل كل إنسان يسأل عما يجهله ومن أهل الاختصاص وذلك باعتبار انهم اعرف به من غيرهم قال تعالى :  (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ))([10]) فهي دلت على وجوب السؤال عند الجهل ، ومن الظاهر أن السؤال مقدمة للعمل ، فيكون معنى الآية (( فأسألوا أهل الذكر )) لأجل أن تعملوا على طبق الجواب ، لا أن المقصود الأصلي هو السؤال نفسه ، لوضوح أنه لغو لا أثر له ، فلا مصحح للأمر به لو لم يكن مقدمة للعمل ، فتدلنا الآية على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وهو المعبر عنه بالتقليد ))([11])

 وقد أكد الأئمة عليهم السلام على الرجوع إلى الفقهاء في أمور دينهم وان عليهم أن يقلدوه في مسائل دينهم فقد قال الإمام العسكري عليه السلام: (  فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه )([12])

المبحث الثاني :

المطلب الأول :  نشوء الحركات الإلحادية والمعادية للإسلام

لقد سجل القرآن الكريم معالم الإلحاد الأولى وحكاها تفصيلا وتحذيرا فقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾([13]) وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾([14]) وقال جل وعز:  ﴿ فَسَجَدَ الملائِكَةُ كُلُّهُم أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾([15])

 فإبليس الملعون هو أبو الملحدين ففي سورة البقرة " وكان من الكافرين " وفي سورة الكهف " ففسق عن أمر ربه " فالفسق والكفر هما أصل الإلحاد وعينه، وهذه هي بذرة الإلحاد الأولى.

  والتاريخ يشهد بنشوء الحركات الإلحادية على مستوى أفراد أو جماعات وكانت تنتهز الفرص للتأثير على معتقدات المسلمين والعمل على إضعافهم وتوهين مذهبهم .

وهي نتاج تلقائي وإفراز طبيعي عند مراجعة السنن التاريخية وما يحدث فيها من حركات الضلال والانحراف التي تسعى لزعزعة كيان الأمة الإسلامية .

وعند مراجعة ما قام به الأئمة ع في مواجهة هذه الفئات الضالة ، نجد كيف أنهم قاموا بالرد عليهم وكيف دحضوا حججهم الباطلة ، فقد ذكر كل من الشيخين الصدوق والطبرسي وغيرهما جملة من المواقف التي واجهها الإّمام عليه السلام مع الزنادقة والملحدين، وهي تدل على غزارة علمه ووضوح نهجه وإيمانه بحرية الرأي، مع ثقته بالقدرة على دفع شكوك سائليه دون أن تبدر منه بادرة غضب مهما كان السؤال منكراً أو بادرة ضعف، بل قد يبلغ في إجاباته مبلغاً من العمق لم تصله الفلسفة فيما بعد .([16])

وأيضا قد تعرض المسلمون في عهد الإمام الصادق عليه السلام، إلى هزّة فكرية وعقائدية عنيفة بسبب السياسات المتبعة من قبل من كانوا ينعتون أنفسهم بـ "الخلفاء" من بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فقد كانت المرحلة الانتقالية من الحكم الأموي إلى الحكم العباسي، بمنزلة الأعاصير التي تضرب إيمان وعقيدة وأخلاق المسلمين التي شُيدت خلال حوالي قرن من الزمن، بجهاد وتضحيات النبي وأهل بيته وأصحابهم. فلم يرَ المسلمون آنذاك، سوى الاستئثار بالمال العام والاستغلال البشع للسلطة وتفشي الطبقية وضياع القيم الأخلاقية والإنسانية، وعودة الكثير من القيم الجاهلية وأبرزها تحكيم منطق القوة بهدف الهيمنة والتسيّد، الأمر الذي فتح الأبواب أمام الأفكار الفلسفية القادمة من الغرب والتي تدّعي البحث عن الحقائق في الحياة والكون، فبدأت شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي آنذاك، تشكك بمساعدة هذه الأفكار بما آمنت به من قبل، بالعدل والمعاد والثواب والعقاب وحتى التشكيك بالنبوة والتوحيد.

في مثل هكذا أجواء عاش الإمام الصادق، عليه السلام، فإذا كان كما يقول المؤرخون بأن عهده كان أفضل العهود التاريخية لنشر علوم وثقافة أهل البيت، عليهم السلام، فانه كان من أصعبها وأكثرها تعقيداً في التعامل مع المخلفات الفكرية والثقافية للصراع الدموي على السلطة وانحراف الحكام وطغيانهم. وهذا ما دعا الإمام، عليه السلام، لأن يتعامل مع مجتمع ذلك الوقت بمنتهى الذكاء والحنكة بإتباع منهج العقل والحكمة ومطابقة الأحكام والتعاليم مع الفطرة الإنسانية. وهذا ما كان يعجز أكثر الملحدين جدلاً وأشد المعاندين، فينسحبون بهدوء من أمام الإمام، عليه السلام، ويقرون بحقانيته.

وللإمام الصادق (عليه السلام) مناظرات علمية كثيرة مع الملحدين والزنادقة، منهم من كان يأتيه ويسأله سؤال استفهام واسترشاد، ومنهم من كان على عناده وسابق رأيه ، ولكن الكل يكن له الاحترام والتبجيل ، ويقتنع بما طرحه الإمام عليه السلام من حجج تبطل أفكار من يشكك بالدين الإسلامي .

وأيضا قد انتشرت في عصر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) الكثير من الفرق والتيارات والمذاهب والنحل المنحرفة والضالة كالزنادقة والملاحدة ، وقد اعتمد الإمام الكاظم عليه السلام على مناظرتهم ومحاورتهم بالأساليب العلمية القوية التي ينهزم أمامهم أصحب الفكر السقيم، ويعود بعضهم إلى الحق، كما اتبع الإمام الكاظم (عليه السلام) الإقناع بأدوات العقل والبديهة، وهو الأمر الذي لا سبيل لإنكاره من قبل أصحاب الأفكار المنحرفة.

 وأيضا قد انتشرت في عهد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) الحركة الإلحادية، وأخذت تدعو إلى التفسخ والتحلل من الأخلاق والدين، وإنكار الخالق تعالى، أو وجود بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، وعدم الإيمان بالأنبياء والرسل والأوصياء، وإنكار المعاد. وأخطر أشكال الإلحاد هو نكران وجود الله تعالى وهي الفكرة التي ترتكز عليها الشيوعية ومختلف أنواع التيارات الملحدة

وقد تكاثرت الدعوة إلى الإلحاد والزندقة في العصر العباسي الأول، وتبنت أفكار الإلحاد والانحراف والزندقة مجموعة من التيارات الملحدة، ومنها:

المانوية التي قامت ببث الأفكار الإلحادية في العصر العباسي الأول .

ومنها المزدكية وقد انتشرت هذه الفرقة في العصر العباسي الأول، لأنها تدعو للتحلل من الالتزامات الدينية، والقيم الاجتماعية، وتدعو للتحرر من كل القيود الأخلاقية، وتنكر القيم الدينية، فاعتنقها خلق من الناس للانسياق مع شهواتهم وأهوائهم، والتخلص من التزاماتهم الدينية.

ومنها الزرداتشية وقد راجت الزرادشتية في العصر العباسي الأول، واعتنقها خلق من البسطاء المغرر بهم، وقد عملت على محاربة القيم الإسلامية، وتفكيك الروابط الاجتماعية، وتحلل المسلمين من الخلق والآداب الإسلامية.([17])  وعلى أي حال، فإن هذه المبادئ التي انتشرت في العصر العباسي تكشف لنا بوضوح عن الفراغ العقائدي، وضحالة التفكير، وسيادة الجهل، وعدم إحاطة المسلمين بواقع دينهم الذي يدعو إلى اليقظة الفكرية، والتحرر من جميع رواسب الجهل والجمود . ([18])

وقد أشار المترجمون لسيرتهم إلى بدعهم وأضاليلهم التي تدل على كفرهم وزندقتهم، ومروقهم من الدين. يقول الشيخ باقر شريف القرشي : (( عمد هؤلاء الملحدون إلى إفساد المجتمع الإسلامي، وإشاعة الفوضى والتحلل بين المسلمين، كما عمدوا إلى تشويه الإسلام، وذلك بافتعال الأخبار الكاذبة التي تحط من كرامة الإسلام، وقد اعترف عبد الكريم بن أبي العوجاء بذلك، فقد صرح قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام، فقال: «لئن قتلتموني فلقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوب ))([19]).

اتخذ الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مواقف حازمة تجاه الملاحدة والزنادقة، وتبيين فساد معتقداتهم وانحرافاتهم العقائدية والفكرية، وذلك بالمنطق العلمي، وإتباع المنهج العلمي في الرد عليهم، وبيان انحرافاتهم، كما كان للإمام (عليه السلام) الكثير من المواقف في التبرؤ منهم، ولعنهم، وتحذير المسلمين من التأثر بهم، وأهمية الابتعاد عنهم، وعدم مجالستهم أو مؤاكلتهم أو مناكحتهم؛ حتى لا يتأثروا بفكرهم المنحرف.

وقد ذكر العلامة الطبرسي في كتاب الاحتجاج([20])، بعض احتجاجات ومناظرات الإمام الكاظم (عليه السلام) مع الزنادقة والملاحدة، والتي بينت زيف وضعف أفكارهم، ورد الشبهات التي كانوا يبثونها بين الناس، وخصوصاً في الحقل العقائدي والكلامي.

ويطول الكلام بذكر مواجهة هذه الحركات الإلحادية على مر التاريخ ، والبحث يتعلق بفترة الخمسينات الى أوائل الستينات لكن الأهداف واحدة بل إن الحركات المعاصرة قد اجترت من الماضي الإشكالات والحجج الواهية ، فمنذ منتصف الخمسينات تأسس عداء الحزب الشيوعي العراقي للمرجعية الدينية الإسلامية بالتحديد وخصوصا الشيعية في العراق، وذلك على خلفية تحريم الشيوعية وإطلاق فتوى المرجع الديني الأعلى أنذلك السيد محسن الحكيم والتي كان نصها " الشيوعية كفرٌ والحاد " وكان لصدور هذه الفتوى سببين الأول إن الحزب الشيوعي أشاع مظاهر الانحلال الأخلاقي الجنسي كما يرى رجال الدين وذلك حين دعا إلى المشاعية الجنسية والاختلاط بين الجنسين بدون ضوابط أؤكد بدون ضوابط وكان هتافه الشهير بالعامية العراقية ( بعد شهر ماكو ( لايوجد ) مهر و القاضي نذبه ( نرميه ) بالنهر)، وهذا ما يتنافى والشريعة الإسلامية ويضع علماءها تحت التهديد والمسؤولية.

 إما السبب الثاني والأهم هو ما تبناه الفكر الشيوعي وما اعتبره جزءً من مبادئه وهي نظرية " الدين أفيون الشعوب "وان عليها ان تتخلص من الأديان للتخلص من البؤس والشقاء فهم بهذا يقيسون على الدين الذي هو وليد السلطة الظالمة وعلى ما يفعله من يحسب على الدين ، فغاب عن الملحد إن الدين أمر الهي وان السلطة زائلة .

المطلب الثاني : آثار الأفكار الإلحادية في المجتمع :

 أوَّل الآثار التي يخلفها الإلحاد في نفوس الأفراد هو القلق والحيرة والاضطراب والصراع  النفسي. وذلك أن داخل كل إنسان منا فطرة تلح عليه، وأسئلة تتلجلج في صدره: لماذا خلقنا؟ ومن خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وإذا كانت زحمة الحياة، وشغلها الشاغل يصرف الإنسان أحياناً عن الإمعان في جواب هذه الأسئلة، والبحث عن سر الحياة والكون فإن الإنسان يصطدم كثيراً بمواقف وهزات تحمله حملاً على التفكير في هذا السؤال، فالأمراض والكوارث، وفقد بعض الأهل والأحبة، والمصائب التي تصيب الإنسان لابد أن تفرض على الإنسان أن يفكر في مصيره ومستقبله. ولما كان الإلحاد عقيدة جهلانية -لأنه يقوم على افتراض عدم وجود إله- فإنه لا يقدم شيئاً يخرج هذا الإنسان من الحيرة والقلق والالتباس ويبقى لغز الحياة محيراً للإنسان، ويبقى رؤية الظلم والمصاعب التي يلاقيها البشر في حياتهم كابوساً يخيم على النفس ويظل الإلحاد عاجزاً عن فهم غاية الحياة والكون، ولا يقدم للإنسان إلا مجموعة من الظنون والافتراضات لا تقنع عقلاً ولا تشفي غليلاً. ومع إلحاح نداء الفطرة الداخلي وتردد تلك الأسئلة الخالدة في النفس يظل الإنسان قلقاً معذباً .

 ومن الآثار الأخرى هو أن الإلحاد يقطع صلة الإنسان بالآخرة، كدار أخرى للنعيم إذا ما آمن وأحسن العمل في الدنيا؛ فلا يبقى للإنسان منظور لهذه الدنيا غير المتعة واللذة الشهوانية الخالصة. ومع قصر عمر الإنسان يصبح التلذذ بالشهوات والتمتع بها في ظل التنافس عليها والتباهي بها والصراع من أجلها غايته الأسمى وهدفه الأول.

 فالملحد يعيش ليتمتع بالشهوات فقط، وكل جهده في الحياة مبذول لهذه الغاية؛ حتى العلم يخوضه استمتاعا ويوظفه للمتعة، أو مقابل الحصول على مردود مالي يوصله للمتعة.

وأيضا من الآثار التي يمكن ذكرها هو دفع الفرد إلى الأنانية المطلقة والنظرة المنفعية التي تدور حول لذاته هو ومتعه، غير مبالٍ بمن حوله، طالما وأنه لا غاية خلف الوجود والحياة غير الفناء ، فيعيش الملحد فراغا روحيا .

لكن قد تنعكس الآثار على المجتمع إذ نرى شيوع حالات الانتحار وخاصة الشباب منهم ، ورغم أنَّ هناك أسباباً عدة خلف الانتحار، وتختلف الدوافع من شخص إلى آخر، إلا أنَّ كثيرا من الدراسات النفسية تؤكد أن الاضطرابات النفسية –مثل القلق والاكتئاب والانهيار النفسي- تحت تأثير ضغوطات الحياة المادية والاجتماعية تقف وراء هذه الظاهرة بالدرجة الأولى.

فإذا كان الإلحاد سببا من أسباب هذه الاضطرابات النفسية النابعة من فقدان الهوية وتيهان الوعي وغياب أي معنى رسالي للوجود وغائي للحياة، فإن من الطبيعي أن يكون الانتحار أثرا من آثاره.

ومما  دمره الإلحاد في البشرية الأسرة، الخلية الأولى للبناء الاجتماعي. فقد أدى الإلحاد إلى إشاعة الفواحش وإطلاق الغرائز الجنسية خارج إطار الزوجية. فنشأ عن هذه الممارسات ضياع الأنساب واختلاط الأرحام، فلا يجد المولود رعاية ولا أسرة مرتبطة ينتمي إليها.

فنشأ جيل لا يعرف من العلاقات التي تحكم تصرفه في الحياة غير علاقات المنافع المادية والمصالح الشخصية، أو الجنس والمتعة. فنظرته للارتباطات الزوجية نظرة للقيود، فلا يوجد شعور بأهمية الأسرة والأبناء، وإنما هي المتع. كما أنَّ فكرة المساواة المطلقة التي جعلت من المرأة ندا للرجال في ميادين العمل أخرجت المرأة من دورها الطبيعي كزوجة وأم. لذا يعيش الكثير من الأفراد خارج إطار الزوجية وتبعاتها، وتنتشر العلاقات الجنسية كعلاقات متعة لا تهدف للإنجاب.

بينما الله سبحانه يقول: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير))([21])

 ويقول سبحانه أيضا : ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم))([22]).

  الفصل الثاني :  تصدي المرجعية لهذه الحركات الفكرية المعادية للإسلام ودور الآخرين في مواجهتها المبحث الأول : تصدي المرجعية للحركات الفكرية المعادية للإسلام

 لقد عمت العالم الإسلامي تيارات فكرية وعقائدية مختلفة ، وكان من بينها التيارات الإلحادية ، وذلك بسبب ظروف الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي (سابقاً) ، وكان الكثير من مستضعفي العرب والمسلمين يجدون أن الملجأ لمواجهة الاستكبار الغربي هو الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية التي انتشرت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ، وهذا اللجوء لم يكن سياسياً فقط ، بل كان في كثير من الأحيان ينجر الوقوع تحت التأثير الفكري للشيوعيين والماركسيين إلى حالة الإلحاد ومحاربة الدين ، حيث قام التيار الشيوعي بمساعدة وإسناد المجتمع الإسلامي في التحرر من الاستعمار الغربي ، مقابل مكاسب مادية ومعنوية وهي القضاء على العدو الغربي الذي كان ينافسه وكذلك إسقاط المجتمع المسلم تحت تأثير الأفكار الإلحادية التي كان يتبناها الشيوعيون ،فكان للإمام محسن الحكيم ([23])دور كبير ودقيق في هذه المسألة لأنه من ناحية يحاول أن يحافظ على المواجهة مع الغربيين والدول الاستعمارية ومن ناحية أخرى يحافظ على دين الناس وثقافتهم حيث تمكن من عزل الحزب الشيوعي من ناحية ومن ناحية أخرى أخذ يتصدى للأمور السياسية العامة لمواجهة الحكومات العميلة للغرب وللاستكبار ، وذلك جراء الفتوى الكبيرة التي أصدرها فيما يتعلق بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي والتي جاء فيها { الشيوعية كفر وإلحاد } وقد صدرت هذه الفتوى عام 1959م .

سئل السيد الحكيم يوما عن رأيه في السياسة وتدخّل العلماء فيها فأجاب: "إذا كان معنى السياسة هو إصلاح أمور الناس بحسب الأصول العقلائية الصحيحة والعمل على تحقيق رفاهيتهم كما هو المعنى الصحيح للسياسة فإن الإسلام كله هو هذا وليس هو غير السياسة وليس للعلماء وظيفة غير هذه وأما إذا كان المقصود من السياسة معنى آخر فإن هذا شي‏ء غريب عن الإسلام" .

ولما أنزلت بريطانيا قواتها في منطقة الفاو الواقعة في الخليج العربي بهدف السيطرة على العراق وقامت طائراتها بقصف مدنه و قتل أبناء الشعب العراقي أصدر أستاذه المرحوم السيد محمد سعيد الحبوبي أمرا بالجهاد وذهب بنفسه إلى مدينة الناصرية الواقعة في جنوب العراق فرافقه السيد محسن الحكيم في سفره الجهادي هذا وأظهر السيد الحكيم وأستاذه صبرا واستقامة في تلك الجبهات.موسوعة أنصار الحسين

 كما وقف الإمام الحكيم (قدس سره ) موقفاً بطولياً ضد النظام الاشتراكي حيث أصدر الإمام الحكيم (قدس سره ) فتواه بتحريم الاشتراكية عام 1965م وكان لهذه الفتوى الأثر الكبير جداً في العالم الإسلامي ، فبدأ التحرك ضد الشيوعية والاشتراكية ، ففي أفغانستان مثلاً كان هذا التحرك بزعامة السيد الواعظ                         ( محمد سرور ) وهو من كبار علماء أفغانستان والذي استشهد على يد السلطات الأفغانية آنذاك ، وكان السيد محمد سرور في النجف الأشرف ومن طلاب الإمام الحكيم (قد)، وتبنى خطه الجهادي ثم ذهب إلى أفغانستان في وقت كانت الشيوعية نشطة هناك ، ولما جاء داود خان للحكم قاومه السيد محمد سرور حتى يوم اعتقاله

وفي لبنان انطلق السيد موسى الصدر والسيد محمد حسين فضل الله ، والشيخ شمس الدين ، وغيرهم من العلماء لمحاربة التيار الشيوعي مع المحافظة على المواجهة مع الحالة الغربية ، ونفس الأمر كان في باكستان إذ جاءها السيد مهدي الحكيم (قد) وكان الرائج في الأوساط الشيعية في باكستان ، هو تبني الأفكار اليسارية والاشتراكية ، ودخل الإمام الحكيم إلى باكستان من خلال نجله السيد مهدي الحكيم (قد) الذي قام بحملة واسعة من الخطابات والبيانات وجمع  العلماء ليشكل جبهة دينية إسلامية مقابل التيار الشيوعي في باكستان ، كما قام الإمام الحكيم بإرسال العلماء إلى المناطق الشيعية في المدن والقرى والأرياف البعيدة والمجهولة لنفس هذا الأمر.

وهو أول من دافع عن الحكم الإسلامي في الجهاد ضد الانكليز. كما دافع عن المسلمين السنّة عام 1958 و 1959، حيث كانت هناك محاولات لضرب العلماء السنّة. كما دافع عن الأكراد في شمال العراق وأكثريتهم الساحقة من السنة. وكذا موقفه من قضية فلسطين، وموقفه ضد المحاولة التي تبناه آنذاك النظام المصري من الاشتراكية؛ لتحريف الإسلام وجعل المنهج الاشتراكي وكأنه يمثل الخط الإسلامي الأصيل..

وكذلك موقف الإمام الحكيم (قدس سره) من قضية إعدام قادة الإخوان المسلمين بمصر وشجبه لعملية الإعدام  ... وتعامله ومواقفه مع التيارات الكافرة التي اجتاحت الساحة الإسلامية، الغربية منها والشرقية، فالإمام الحكيم (قدس سره) حفظ التوازن بين وحدة المسلمين من ناحية، والدفاع عن الشيعة من ناحية أخرى؛ لذلك أصبح للمرجعية الدينية كيانها السياسي القوي المتفاعل في أوساط الأمة، وله أجهزته الناشطة فيها.([24])  

  هذا وقد تأسست جماعة العلماء سنة 1958م ، وذلك بمبادرة من بعض العلماء القياديين في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف، وكان الغرض الأساسي من تأسيسها هو سد الفراغ الديني الذي انتشر بين صفوف الأمة آنذاك بسبب تصاعد المد الإلحادي والعلماني بحكم سيطرة قوى(عميلة) تتبنى تلك المناهج الكافرة، ونتيجة لهذه الأوضاع القلقة واجه علماؤنا الأعلام هذه المحنة بالثبات والصمود ،وبدأوا يعالجون الداء الخبيث بصورة سريعة قبل إن يسري إلى جسد الأمة الإسلامية ، فعقدوا لذلك اجتماعات سرية وعلنية ليضعوا منهاجا للعمل وليحددوا إبعاد خطة المجابهة، وقد تمخض عن هذه الاجتماعات ولادة جهاز ديني قيادي يدعى ب(جماعة العلماء)،الذي ضم نخبة ممتازة من الشخصيات الدينية والعلمية البارزة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف من أمثال الشيخ محمد رضا المظفر، والشيخ محمد الدين زين الدين والشيخ محمد حسن الجواهري، والشيخ محمد طاهر ال راضي… وغيرهم من العلماء

ذكر السيد كاظم الحائري بخصوص نشأة ( جماعة العلماء ) : (( لا بدّ من أجل أن نفهم عمق الأحداث التي سوف أتناولها و المواجهة التي وقعت بين الإمام الشهيد الصدر رضوان اللّه عليه و حزب البعث في العراق من أن نرجع إلى بدايات سنة 1378 أي بعد التغيير في الحكم الذي حصل في العراق بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 م.

فقد ظهرت على سطح المسرح السّياسي في العراق مجموعة من التيّارات السياسيّة و الفكريّة بعد أن حصل الشعب العراقي نتيجة الانقلاب على بعض المكاسب السياسيّة و الاجتماعيّة.

و قد احتدم الصراع في المرحلة الأولى بين التيار الماركسي - الذي كان يقوده الحزب الشيوعي العراقي و الذي كان يحصل على الدعم المعنويّ من قائد الانقلاب عبد الكريم قاسم من جانب و مجموعة التيارات السياسية الأخرى، كالتيّار القومي الذي كان يجمع بين الناصريين و البعثيين و غيرهم و الذي كان له وجود سياسي في الحكم و في الشارع بسبب الدعم الذي كان يحصل عليه من الجمهورية العربية المتحدة حينذاك بقيادة جمال عبد الناصر، و كالتيار الإسلامي الذي كانت تتعاطف معه جماهير واسعة من الشعب العراقي المسلم دون أن يكون له وجود سياسي قوي عدا بعض الأحزاب السياسية الإسلاميّة الصغيرة. و قد وجد علماء النجف الأشرف أنّ من الضروري أن يطرح الإسلام كقوة فكريّة و سياسيّة أصيلة تنتمي إلى السماء و تمتدّ جذورها في الشعب المسلم.

و ولدت من أجل ذاك أطروحة (جماعة العلماء) التي يمكن أن نقول بحق أن وجودها يرتبط بشكل رئيسي بعقليّة السيّد الشهيد الصدر و اهتمامات المرجعيّة الدينية و طموحاتها الكبيرة التي كانت تتمثل بالمرحوم الإمام السيد حسن الحكيم بالإضافة إلى الشعور بالحاجة الملحّة لمثل هذه الأطروحة لدى قطّاع واسع من الأمة. و رغم أن السّيد الشهيد رضوان اللّه عليه لم يكن أحد أعضاء جماعة العلماء لصغر عمره إلاّ أنّه كان له دور رئيسي في تحريكها و توجيهها كما ذكرت ذلك في مذاكراتي عن جماعة العلماء في النجف الأشرف ، و من خلال ذلك تمكن علماء النجف الأشرف أن يطرحوا الخطّ الإسلامي الصحيح، و يعملوا على إيجاد القوّة السياسيّة الإسلاميّة المتميّزة.

و قد باشرت جماعة العلماء - بالرغم من قوّة الأحداث و عدم توفر الخبرة السياسيّة الكافية و تخلف الوعي الإسلامي السياسيّ في الأمّة - عملها من أجل إرساء قواعد هذا الخط الأصيل و ذلك من خلال بعض المنشورات و الاحتفالات الجماهيريّة و الاتصالات ببعض قطاعات الشباب و إصدارها لمجلّة الأضواء الإسلامية التي كانت تشرف عليها لجنة توجيهيّة مكوّنة من شباب العلماء كان لها اتصال وثيق بالسيد الشهيد الصدر... بعد مضي أقل من عام تمكّنت جماعة العلماء من بناء قاعدة إسلاميّة شابّة، و لذا قرّرت هذه الجماعة إصدار نشرة الأضواء الإسلاميّة كأداة للتعبير عن وجودها من ناحية و لمواصلة السير في الطريق الذي رسمته من ناحية ثانية... و قد بعثت مجلّة الأضواء من خلال خطّها الفكريّ و السياسيّ و من خلال ما رسمته من معالم الطريق الإسلامي و خطوطه العريضة و بالأخص الخطوط التي كانت ترسم ضمن موضوع (رسالتنا) الذي كان يكتبه السيد الشهيد الصدر باسم جماعة العلماء و بإذنها طبعا بعث الروح الإسلاميّة في قطّاعات واسعة من الجماهير)) ([25])

 وعندما مرض الإمام الحكيم (قدس سره ) في آخر حياته في المستشفى مرض الوفاة، تحدث إليه بعض ولده وسأله عن موقفه من الحكم الظالم الكافر، حكم العفالقة البعثيين المجرمين ، وتقييمه لهذا الموقف، بعد الآلام والمعاناة التي لاقاها من هؤلاء المجرمين ، فقال لهم  : ( إني أشعر بالرضا تجاه هذا الموقف لأني لو لم أصنع شيئاً في موقفي هذا إلا أن أضع حاجزاً بين البعثيين المجرمين والشعب العراقي ، ولو لمدة عشر سنوات لكان هذا الموقف يستحق كـل هذه التضحية)([26])

. وقد أفتى السيد الشهيد محمد باقر الصدر  وتصدى ( قد ) بحرمة الانتماء لحزب البعث، حتى لو كان الانتماء صورياً، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، فكان هو المرجع الوحيد الذي أفتى بذلك، وحزب البعث في أوج قوته وكان ذلك جزءاً من العلة وأحد الأسباب التي أدت إلى استشهاده ([27]) المبحث الثاني :  دور الآخرين في مواجهة هذه الأفكار المضادة للإسلام

قال تعالى : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) ([28])، إن الملحدين يبررون إلحادهم بالكشوفات العلمية والنظريات العلمية  كنظرية التطور الحديثة  وقوانين الفيزياء الكمية وغيرها في إثبات إما عدم الحاجة للإله ، إذ يكتفى بوجود القانون مثلا ، أو نفي فكرة الإله أصلا ، فالإلحاد يعطي الذريعة للملحد لكنه لا يقدم المبررات للإيمان بالإلحاد.([29])

 وقد استغل الملحدون الظروف الاجتماعية للبلد وما يمر به من بؤس وشقاء لإلقاء اللوم على الدين الذي هو السبب في هذه التعاسة التي يمر بها بلدنا ، ويقارنون الوضع القائم مع الوضع الحاصل في المجتمعات الغربية التي تنعم بالخير والرفاه  ، عن أبي عبد الله ع : ((  لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا )([30])

واليوم نرى أن الإلحاد قد انتشر في أوساط المجتمع العراقي بعدما استغل الظروف التي حصلت في العراق فهو يسعى لخلخلة النظام وإفساد عقول الناس ولا سيما الشباب منهم ، ولذلك عليهم أن يدافعوا عن الدين والمذهب وأن يشمروا عن سواعدهم لمحاربة هذه الأفكار والرد عليها وذلك من خلال عقد الندوات والمؤتمرات التي تعنى بشؤون الإلحاد والرد عليه واستئصاله كما هو حال هذا المؤتمر الذي تشكر عليه مؤسسة الهدى وهذا إنما ينم على حرص هذه المؤسسة على إشاعة الثقافة الإسلامية والدفاع عن الإسلام والمذهب .

لذلك علينا معالجة أسباب هذه الظاهرة واجتثاثها ، وأول هذه الأمور التربية الصحيحة لأبنائنا وتعليمهم القيم العالية للإسلام وزرع الخير في نفوسهم وتحميلهم المسؤولية والمشاركة في بناء الأسرة التي هي نواة المجتمع ، وأما الانشغال عن الأولاد وعدم هديهم سينعكس عليهم ويؤول بهم إلى الانحراف ومن ثم تأثره بالإلحاد .

وأيضا تحصين شبابنا مما يبث من القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الإباحية والتي لها الدور الكبير في انحراف شبابنا ، وهذا بحاجة إلى جهد من قبل العاملين في مجال التعليم وعلماء الدين إضافة إلى الأسرة ،لذلك على مؤسسات التربية من تعليم ومعاهد وجامعات أن تقوم بأنشطة عديدة ضد موجة الإلحاد الجديدة، ، وان لا يغيبوا عن المشهد الثقافي ولا بد أن يشاركوا في الوضع الاجتماعي .

وأيضا لا بد من التصدي للشبهات والعمل بكل وسيلة لإيصالها لشبابنا وان لا تكون عن طريق التأليف والكتابة فقط بل لا بد من التطبيق العملي لها في حياتنا ، ولو باستغلال النشاطات الرياضية والفنية والأمور اللاصفية والتي تنمي فكر الطالب وتوجهه نحو البناء الفعال في المجتمع وان لا يشعر بفراغ روحي فتتلقفه أيادي الإلحاد ، وأخيرا على المرجعية أن تقوم بوظائفها وهي تعلم بها أكثر منا ، ومن جملتها :

 1 ــ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين.

2 ــ إيجاد تيار فكري واسع في الأمة. 3 ــ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي.

4 ــ القيمومة على العمل الإسلامي.

5 ــ والمرجعية الدينية ليست مسؤولة فقط، بل هي وحدها القادرة على توجيه الأمة، وقيادتها ثم ضمان المسيرة، وتأمينها من الانحرافات المحتملة. وهذا جانب من أطروحة (خط المرجعية) الذي تبناه الشهيد الصدر. ([31])

 

المصادر :

القرآن الكريم

1- ابن الأثير، المبارك بن محمد / النهاية في غريب الحديث والأثر ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان 1418 – 1997

2 -الجوهري ، إسماعيل بن حماد ،  تاج اللغة وصحاح العربية ، ط 4 ،  دار العلم للملايين ، بيروت –لبنان 1987  

3- الحائري ، كاظم ، مباحث الأصول ، الناشر : دار البشير ، قم المقدسة ، ط1 ، 1428 هـ

4- الحر العاملي ، محمد بن الحسن ، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، تحقيق ونشر مؤسسة آال البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، ط2 ،  مطبعة : مهر / قم ، 1414 هـ

5 - زكريا علي حمزة ( أنواع الإلحاد نظرة مجملة ، شبكة الفكر الالكترونية ، 1438

 6 - الشهرستاني الملل والنحل، ، المكتبة العصرية، بيروت، طبع عام 1428 هـ - 2007 م،

7 -  شوقي رأفت ،  الإلحاد بعض مدارسه.. والرد عليها ، خاتم الشهداء ، الإسكندرية

8 - الشيخ الصدوق، محمد علي بن الحسين بن بابويه ، التوحيد  ، تحقيق : هاشم الحسيني ،  قم المقدسة ،  الناشر : جماعة المدرسين ، 1387 هـ

9 - الطبرسي، أحمد بن علي ، الاحتجاج ، تحقيق : محمد باقر الخرسان ، طبع ونشر : دار النعمان

10 - القرشي باقر شريف موسوعة سيرة أهل البيت: الإمام موسى بن جعفر، ، دار المعروف، قم، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ،

11 - الكليني ، محمد بن يعقوب ، الكافي ، الناشر : دار الكتب الإسلامية ، مطبعة : حيدري ، ط3 ، 1388هـ

 12 - المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ط2 ، طبع ونشر : مؤسسة الوفاء ، بيروت – لبنان 1983 م

13 - مغنية محمد جواد ، شبهات الملحدين والإجابة عنها ، دار مكتبة الهلال ومكتبة الجواد ، 1986 بيروت – لبنان

14 - ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم ،  لسان العرب ، ط1 ، المطبعة : دار إحياء التراث العربي، نشر : أدب الحوزة ، 1405 هـ  

15 - نخي  عباس ، مواصفات المرجعية الدينية من الفقه إلى الفكر الطبعة الأولى 2014 – إصدار مؤسسة الإمام للنشر والتوزيع

16 - موقع مركز آل الحكيم الوثائقي

[1] . ابن منظور،  لسان العرب  : 388 لسان العرب 3 :  388- 389

 

[2] . الجوهري ، الصحاح   2 : 535 ، ظ : ابن الأثير ، النهاية في غريب الحديث 4 : 236

 

[3] . رأفت شوقي - الإلحاد بعض مدارسه.. والرد عليها 2 : 73، 74

 

[4] . (العنكبوت 61).

 

[5] . (النمل:14)

 

[6] . شبهات الملحدين والإجابة عنها ، محمد جواد مغنية ص 8

 

[7] . الكافي – الكليني 1 : 32

 

[8] . ظ : : مباحث الأصول ،  الحائري 1 : 93

 

[9] . الكافي للكليني 1 : 58

 

[10] . النحل 43

 

[11] . عباس بن نخي ص 38 مواصفات المرجعية الدينية من الفقه إلى الفكر 12 - وسائل الشيعة للحر العاملي  27 : 131

 

[12] . المصدر نفسه

[13] . (البقرة: 34)

 

[14] . (الكهف 50 )

[15] . (ص: 75،74)

 

[16] . ظ :  الشيخ الصدوق، التوحيد، باب الرد على الثنوية والزنادقة 243 ،  270 والطبرسي، الاحتجاج، فصل احتجاج الصادق عليه السلام على الزنادقة 331 ،  359.

 

[17] . الملل والنحل، الشهرستاني، المكتبة العصرية، بيروت، طبع عام 1428 هـ - 2007 م، 209 - 213

 

[18] . ظ :  موسوعة سيرة أهل البيت: الإمام موسى بن جعفر، باقر شريف القرشي29 : 132.

 

[19] . موسوعة سيرة أهل البيت: الإمام موسى بن جعفر، باقر شريف القرشي 29 : 132.

 

[20] . الاحتجاج للطبرسي 331 – 359

 

[21] . الحجرات: 13

 

[22] . محمد: 22- 23

 

[23] . أبو يوسف مرجع الطائفة الشيعية الإمام السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره)، ولد عام (1306 هـ) في اليوم الأول من شهر شوال ، ولد في أوساط عائلية علمية حيث كان والده آية الله السيد مهدي الحكيم (قدس سره)، أحد الأعلام في الحوزة العلمية العربية في النجف الأشرف.

كما كان زوج أخته العلامة السيد أحمد الحكيم (قدس سره) احد الأعلام العلمية في الأوساط الاجتماعية العراقية، خصوصاً في أوساط الشيعة المؤمنين في بغداد (الكرخ). ، بدأت حياة الإمام الحكيم (قدس سره) باليتم، حيث فارقه والده وهو في السنتين الأوليتين من عمره، وتوفي عنه والده في بلاد الهجرة، بل في (جبل عامل) في بيروت عام (1312 هـ) وعمره آنذاك ست سنوات، وتركه مع والدته وأخيه الأكبر آية الله السيد محمود الحكيم (قدس سره) الذي كان يكبره بعشرة سنوات، لتتولى الأم والأخ الكبير تربيته ورعايته، في ظروف معاشية وعائلية صعبة؛ ولذا بدأ حياته إنسانا مجاهدا لنفسه، وفي مجتمعه، وكان عليه أن يختار نهجه، ويشق طريقه معتمداً على الله سبحانه وتعالى، وعلى النفس، والإدارة وحسن الاختيار.

ويبدو أن الأجواء الروحية والمعنوية إلى خلفها والده وراءه، وكذلك أصحابه، كان لهم دور في هذه الرؤية، والتصميم، والاختيار، إذا لاحظنا بدقة طبيعة المنهج العلمي والسلوك الأخلاقي والعلاقات الاجتماعية التي كانت تحيط الإمام الحكيم (قدس سره) في بداية شبابه. المصدر : مركز الحكيم الوثائقي

 

[24] . موقع مركز آل الحكيم الوثائقي

[25] . مباحث الأصول الحائري 1 : 72 نقلا عن مجلة الجهاد العدد 14 1401 مقال للسيد محمد باقر الحكيم

 

[26] . موقع مركز آل الحكيم الوثائقي

 

[27] . المصدر نفسه

 

[28] . النحل : 125

 

[29] . أنواع الإلحاد نظرة مجملة علي حمزة زكريا ص 8 -11

 

[30] . بحار الأنوار ، المجلسي 2 : 120

 

[31] . ظ : مباحث الأصول الحائري 92- 93