دورالمرجعية في بناء الدولة العراقية الجديدة

الباحث :عباس كاظم الذهيبات

 المقدمة  

لا يخفى ان المرجعية العليا في النجف ذات طابع أممي يتخطى الحدود القومية والوطنية ، وان طبيعة المواقف التي تصدر عنها بمختلف أدوارها وأشكالها وإنتماءاتها حيال القضايا والتحديات السياسية والاجتماعية التي تعصف بالأمة بين حين وآخر لا تختص ببلد معين  ، وفي هذا الشأن

فان ( المرجعية الشيعية نوع من الرابطة الأممية مردّها الى الحضور الشيعي بين القوميات العربية والفارسية والكردية والتركية والباكستانية والهندية ، وبالتالي ان الزعامة فيها ذات طابع أممي يتخطى الحدود القومية والوطنية ) ([1]) .

فقد (كان للمرجعية الموقف السياسي الجاد مما غيّر الكثير من المواقف والأحداث السياسية على مستوى العالم الإسلامي ، حيث لازالت أمامنا آثار ثورة التنباك في ايران وثورة العشرين ضد الانكليز في العراق )([2]) .

ولكن مع البعد الأممي للمرجعية فقد قدمت اسهامات كبرى في تأسيس الدولة العراقية وذلك لما للعراق من مكانة كبيرة كوجود العتبات المقدسة ولما تمثله النجف فيه من عمق تاريخي على مستوى المرجعية .

 وكان للمرجعية مكانها الهام في رسم معالم الدولة العراقية منذ تأسيسها في العشرينات من القرن الماضي ، كانت فترة مائجة بالاحداث زاخرة بالتحولات والتغيرات حافلة بتحديات ضخمة . وبنظرة تاريخية فانه ((بدءاً من العام 1917، أي قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، تبنى مراجع الشيعة مشروع (الوطنية العراقية)، واعتبار استقلال العراق الهدف الأهم، وتم تشكيل (جمعية النهضة الاسلامية) برعاية مراجع الدين الشيعة، لهذا الغرض، وكان من أبرز أهدافها، الحصول على استقلال العراق (خاصة) والبلاد العربية (عامة). وكانت هذه الجمعية البداية الحركية الفعلية لنشر الفكرة الوطنية في عراق مستقل )) ([3]) .

  وقد انطلقت ثورة العشرين العراقية بقيادة آية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي بوجه الانكليز الذين كانوا يسعون لسلب استقلال العراق وتحويله الى مقاطعة انكليزية ـ هندية ، ورغم عدم نجاح الثورة في تحقيق كامل أهدافها لكنها مع ذلك حافظت على عروبة العراق وأجبرت الانكليز على التراجع عن مخططاتهم الأولى واكتفوا بتشكيل حكومة ذات زعامة عربية تكون موالية لهم .

قامت المرجعية بـ (محاولة تعديل مسيرة الدولة ما وجدت لذلك سبيلا فاذا لم تستجب لها أنكرت عليها ، ورفضت مواقفها ،كل ذلك لأصالة هذه المرجعية وصلابتها ، ولأن نظامها لا يمكن السيطرةعليه ، ولا يتيسر تسييره في فلك الدولة أو غيرها) ([4]) .

بعد نهاية الحقبة الملكية وقيام حكم العسكر ، قامت المرجعية بمواجهة التيارات الفكرية الوافدة فقد نهضت بدورها المشرّف في مقاومة المدّ الشيوعي في العراق بصدور فتوى المرجع الأعلى آية الله العظمى محسن الحكيم (طاب ثراه(  باعتبار الشيوعية كفراً وإلحاداً . فقد عمل مراجع الدين بدأب على إجهاض وتقويض أسس الفكر العلماني بتياريه الماركسي والرأسمالي ، وخير شاهد على ذلك ما قام به المفكر الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر(رض) من خلال كتابيه فلسفتنا واقتصادنا .

فالمرجعية العليا تتخذ مواقفها على أساس من رؤيتها وقناعتها وفهمها للظروف المحيطة ، وكانت ولازالت السور الوقائي الذي يحفظ  ويصون وحدة واستقلال الدولة العراقية ، ويحافظ على أمن ومصالح جميع مكوناتها ،  كانت الحكومات العراقية المتعاقبة وخاصة حكومة البعث بعد عام 1968تلعب على وتر القومية والطائفية ، فتارة تحارب الأكراد وتصادر حقوقهم وحريتهم وتطلق عليهم العصاة ، وتارة أخرى تصادر حقوق الشيعة الذين يشكلون الأغلبية وتقوم بقتلهم والتنكيل بهم واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية وتحارب عقيدتهم وتسفه شعائرهم وتقتل علماءهم ومفكريهم على التهمة والظنة ! وتطلق عليهم لقب الصفوية ! لكن المرجعية في وقتها تصدت حسب المكنّة والقدرة لسلوك السلطة البعثية العنصري وغير الانساني ، وخير شاهد على ذلك  الفتوى التي أصدرها زعيم المرجعية الراحل الإمام الحكيم (رض) بتحريم مقاتلة  الأكراد وتحريم التعرض لهم  واعتبارهم إخوة لنا في الدين والوطن ، فكان لها الأثر في قلوب اخواننا الأكراد من أهل السنّة .

استشعرمراجعنا العظام الخطر المحدق على وحدة العراق واستقلاليته وأمن مواطنيه  نتيجة لسلسلة الحماقات التي أقدم عليها الطاغية صدام بغزوه للجارّة المسلمة ايران وحربه الظالمة المفروضة عليها وقيامه بتهجير علماء الدين والمواطنين الشيعة بحجة التبعية لايران ، ومن ثم قيامه بغزوالشقيقة الكويت ونهبها وقتل وتهجير مواطنيها وهم في الأغلب من السنّة ، ومن ثم ايجاده الذريعة لقوى الاستكبارالعالمي بتجييش الجيوش وغزو العراق بلد المقدسات عبر تلويحه الفارغ بامتلاكه لأسلحة محرمة دوليا ! .

نتيجة لتلك الحوادث الواقعة والفتن الحالكة كقطع الليل المظلم  أصبحت المرجعية شعلة من حركة لا تخمد ، فشمرت عن ساعد الجد وفي حدود المتاح من الامكانات ، وعملت على تقليل ما أمكن من الخسائر التي يتعرض لها الوطن والمواطن ، وكان المرجع الأعلى آية الله السيستاني (دام ظله) ثابتاً كالطود الشامخ لم تزعزعه الأحداث يذود عن استقلال العراق ووحدته .

وعليه فقد (لعبت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف دوراً رئيسياً في العملية السياسية الجارية في العراق، فأسست لمرتكزاتها، وواكبت تحولاتها، ورعت مسيرتها، وكان لمواقفها الأثر البالغ في الحفاظ على الوحدة الوطنية، والسعي لإنجاز الاستقلال والسيادة، والعمل لإنهاء الاحتلال، من خلال الحثّ لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، على أساس الإلتزام بالقانون، ومبادئ العدالة والمساواة واحترام الآخر، وتفعيل المشاركة الشعبية) ([5]) .

ومن هنا فان دور المرجعية يكتسب أهمية فائقة ويحتل مكانة مرموقة في هذا الخصوص بعد أن كثر الحديث عن مشاريع التقسيم وإطروحة الفوضى الخلاقة أوما نطلق عليه في كتب الملاحم والفتن بـ (الهرّج والمرّج( ، وتتبدى أهمية دورها في مراقبة الحكومات وسياستها وأجهزتها التنفيذية ، وقد تناولت في هذا البحث دور المرجعية في الرّقابة على الدولة العراقية الحالية التي تشكلت بعد سقوط نظام الطاغية في عام 2003 .

تجدر الإشارة (أن المرجعية الدينية كانت قد أبدت رأيها في القضابا الكبرى خلال السنوات الأولى التي تلت سقوط النظام السابق. وهي تبدي موقفها بالمستجدات بمقدار الضرورة التي تمليها مقتضيات بناء الدولة وحفظ الوحدة الوطنية والإسلامية )([6]).

وسيتضح من خلال البحث بأن المرجعية وخاصة العليا قد قدمت اسهامات كبرى في الحفاظ على وحدة التراب العراقي وصيانة النسيج الاجتماعي الذي عصفت به رياح الطائفية المقيتة وتصاعدت فيه أصوات كردية  تنادي بالاستقلال والانفصال وأخذت الأقليات الدينية والعرقية في العراق تستنجد بالقوى الاقليمية والدولية وتستقوي بها من أجل نيل حقوقها وتقرير مصيرها . فدور المرجعية حينئذ جدير بكل التقدير نتيجة الجهود المضنية التي تبذلها من أجل لم الشّمل وسيادة جو من الوفاق في بلدنا العراق .

بعد عام 2003 فوجئت المرجعية الدينية بأن عليها مسؤولية كبيرة في العمل على الحدّ من الآثار المدمّرة لانهيار مؤسسات الدولة العراقية وإنعدام الأمن والإستقرار وتفاقم الجرائم ونهب الممتلكات العامة وغير ذلك، وكان أول بيان صدر من سماحة السيد علي السيستاني هو بشأن تحريم أخذ شيء من أموال الدولة والتعامل بها ، وكان ذلك في (2/نيسان/2003) وتم الإيعاز إلى الوكلاء والمعتمدين في مختلف أنحاء العراق باتخاذ إجراءات مناسبة لحفظ النظام العام في البلد بالمقدار الممكن والمنع من التعدي على المسؤولين في النظام السابق وعوائلهم.

وسوف نستعرض أدناه الخطوط العامة والأساسية التي ركزت عليها المرجعية في خطبها ورسائلها وممارساتها بعد العام 2003 ، وعند التمعن فيها نجد أنها رؤى واسعة الأفق تكشف عن نفاذ رؤية المرجعية وشمول نظرتها للشأن العراقي . وسوف نستعرض أدناه أبرزها :

1 ـ حفظ وحدة العراق :

اهتمام المرجعية لم يبرد لحظة واحدة في التركيز على وحدة العراق أرضاً وشعباً ، ونلاحظ أن هناك جهوداً مضنية تبذلها في هذا السبيل ، فهي تقدر المخاطر المحتملة وخصوصاً بعد اقتطاع المنظمة الارهابية (داعش) لمساحات كبيرة من أرض العراق واحتلالها لمحافظات عراقية كبيرة مدعومةً من قوى عالمية وإقليمية تتخفى وتتبرقع باقنعة مصطنعة وتتحرك بأجندات طائفية ومصلحية ،ومن هنا نلاحظ أن المرجعية الرشيدة لم تترك مناسبة الا واغتنمتها بالدعوة لوحدة التراب العراقي وعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر ما اوصى به المرجع السيستاني (دام ظله)  بالمحافظة على وحدة العراق مبينا ان ذلك لايكون الا بالمحافظة على وحدة العراقيين، وعليه فقد أوصى سماحته بما يأتي :

الاول: رعاية النازحين والمهجرين من دون تمييز بينهم من أي دين او مذهب او مكون

وذلك من خلال عناية الجهات المختصة والمواطنين والجمعيات الانسانية ومؤسسات المجتمع المدني ببذل كل ما يمكن من جهود لتوفير المأوى المناسب للنازحين وتقديم ما يحتاجونه من طعام وشراب ودواء مع معاملتهم بالحسنى والتعاطف معهم والرّحمة بهم. وان تكون هذه العناية بصورة متساوية لجميع العراقيين النازحين والمهجرين بقطع النظر عن إنتمائهم الديني أو المذهبي أو القومي وذلك لأنهم بأجمعهم مواطنون عراقيون لا يستلزم اختلافهم في الإنتماء المذكور اختلاف مرتبتهم في حقوق المواطنة والإنتماء للعراق . وهذا النحو من الرّعاية والمعاملة سيشعر جميع المكونات العراقية بوحدة الإنتماء لبلدهم مما سيترك أثراً إيجابياً في نفوسهم فيشعرون بقوة الآصرة والعلاقة مع بقية مواطني بلدهم، وهذا سيفوت الفرصة على عصابات داعش التي تعمل على زرع التفرقة والبغضاء بين مكونات الشعب العراقي من خلال إثارة النزعة الطائفية .

الثاني: أوصى المقاتلين في ساحات القتال من أن يكون قتالهم لتخليص أخوانهم وأخواتهم من عصابة داعش التي هي فئة دخيلة على العراقيين فكراً وممارسة ً.

 فان الافكار الظلامية التي تتبناها والممارسات الوحشية التي ترتكبها غريبة على العراقيين تماماً وغير مسبوقة لديهم على مرّ التاريخ. موضحاً ان المقاتلين بمختلف أصنافهم ومسمياتهم مهمتهم هي تخليص العراق من هذا البلاء العظيم، وعليهم لأداء هذه المهمة على الوجه الصحيح أن يتحلوا بأعلى درجات الإنضباط في تصرفاتهم ويراعوا المعايير الانسانية والاسلامية في تعاملهم مع الجميع في مناطق القتال ولاسيما المدنيين من كبار السن والنساء والأطفال بل ومن يسلم نفسه ويترك القتال([7]).

لقد كانت  الفتوى التاريخية التي أصدرها المرجع السيستاني (أعلى الله مقامه) بالجهاد الكفائي نقطة تحول في مسار الأحداث في المنطقة وبالخصوص على وحدة العراق ، فقد اسهمت بإ ندحار قوى التكفير والظلامية (داعش) وتقليص نفوذها ،  ومكنت بالمقابل القوى الجهادية العراقية المستجيبة لها ممثلةً بالحشد الشعبي من القبض بإحكام على الدّفة الموجهة لمسار حرب تحرير التراب العراقي . لقد صنعت هذه الفتوى المباركة صنيع الغيث في التربة الجهادية الكريمة فأثمرت الانتصار تلو الانتصار ، وبذلك تعد المرجعية بحق بمثابة الدرع الصلد الذي يحتمي به العراقيون وقت الشدة .

 وقد أشادت بهذه الفتوى المباركة كل القوى والأطراف الحريصة على وحدة العراق واستقلاله ، ولعل من أبرزهم السيد رئيس الجمهورية فؤاد معصوم الذي قال من خلال كلمة له ألقاها نيابة عنه مستشاره (شيروان الوائلي) في الإحتفالية المقامة بمناسبة الذكرى الثانية لتأسيس هيئة الحشد الشعبي :

(نداء المرجعية أوقف إمتداد داعش وأفشل مخططاتها في العراق  ، ففي مثل هذا اليوم قبل عامين لم يكن هناك في العالم من يتصور اننا قادرون على النصر في هذه الحرب الشعواء ضد داعش فيما أوغل الارهابيون في سلسلة إبادة جماعية ضد كافة مكونات الشعب العراقي ولم تسلم من آثامهم حتى دور العبادة متجاوزين على كل القيم الإنسانية .... هذه الانتصارات تستدعي استذكار ذلك اليوم الخالد عندما هبَّ المواطنون .. حالما سمعوا نداء المرجعية بالتطوع لحمل السلاح) ([8]) .

كان لمواقف وتوجهات المرجعية العليا صدى عالمي طيب ، ومن الشواهد على ذلك إشادة السفير الفرنسي في العراق (مارك باريتي ) بدور المرجعية الدينية في النجف في حفظ وحدة العراق وأمنه والحفاظ على كرامته مشيراً الى ان فرنسا تدعم أي مشروع تتبناه المرجعية لنشر الثقافة والسلام ، كما أشاد بدور المرجعية العليا بالدفاع عن القيم الانسانية العالمية والتشجيع على التبادل الثقافي والعلمي والتعايش السلمي بين الناس والمكونات ([9]) .

2 ـ مستقبل الحكم وإدارة الدولة :

الملاحظ أن آراء المرجعية بخصوص مستقبل الحكم وإدارة الدولة بعد عام 2003 أي في المرحلة الانتقالية قد اتصفت بالحكمة وبعد النظر ، وكان المبدأ الذي يؤكد عليه المرجع الأعلى السيستاني (دام ظله ) هو : ( أن الحكم في العراق يجب أن يكون للعراقيين بلا أي تسلط للأجنبي، والعراقيون هم الذين لهم الحق في اختيار نوع النظام في العراق بلا تدخل للأجانب ) ([10]) . فهو يرى بأن (شكل نظام الحكم في العراق يحدّده الشعب العراقي وآلية ذلك أن تجري انتخابات عامة لكي يختار كل عراقي من يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يطرح هذا الدستورالذي يقرّه هذا المجلس على الشعب للتصويت عليه، والمرجعية لا تمارس دوراً في السلطة والحكم ) [11].

فلم تمارس المرجعية دكتاتورية دينية ، وتركت شكل نظام الحكم بعد 2003 لإرادة الشعب العراقي

فهي على يقين بأن أغلبيته شعب مسلم ، يجري الإسلام في نفوسهم مجرى الدم في العروق ، لذلك (فمن المؤكد أنهم سيختارو نظاماً يحترم ثوابت الشريعة الاسلامية المقدسة كما يحترم حقوق الأقليات، والجميع متفقون على ضرورة إعتماد مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء هذا البلد في جنب مبدأ التعددية والانتخاب والتداول السلمي للسلطة ) ([12]) .

كانت المرجعية تمتلك رؤية عريضة لآفاق المستقبل ، فهي ترفض تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة وعندها أن هذا الأمرليس وارداً، ولكن ترى بأن يفترض بالحكم الجديد أن يحترم الدين الإسلامي الذي هو دين أغلبية الشعب العراقي ولا يقرّ ما يخالف تعاليم الاسلام ([13]) .

وقد وقفت بالمرصاد لخطط الاحتلال الأمريكي بفرض قانون لإدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية  لا يتماشى مع مصلحة الشعب العراقي ولا ينسجم مع استقلال العراق ووحدته ، فقدرت المرجعية العليا المخاطر المحتملة من إقراره ، وقد وجهت المرجعية العليا في وقتها رسالة الى رئيس مجلس الأمن تحذر من الإشارة الى قانون إدارة الدولة في القرار الدولي (1546) بغرض إضفاء الشرعية عليه ، وكان من جملة اعتراضات المرجعية : ان هذا القانون وضعه مجلس غير منتخب وفي ظل الاحتلال وبتأثير مباشر منه يقيّد الجمعية الوطنية المقرّر انتخابها في بداية العام الميلادي القادم (أي عام 2005 م) لغرض وضع الدستور الدائم للعراق ،وكان من رأي المرجعية بان أي محاولة لإضفاء الشرعية على هذا القانون من خلال ذكره في القرار الدولي يعد عملاً مضاداً لإرادة الشعب العراقي وينذر بنتائج خطيرة ([14]) .

كما وجهت المرجعية رسالة جوابية الى السيد الأخضر الإبراهيمي تتضمن موقفها  الرافض لإقرار قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية بصيغته الموضوعة وقتذاك ، فحسب نظر المرجعية  (( ستكون الجمعية الوطنية مكبلة بقيود كثيرة لا تسمح لها باتخاذ ما تراه مطابقاً لمصلحة الشعب العراقي ، حيث أملى عليها مجلس غير منتخب هو مجلس الحكم الانتقالي وبالتنسيق مع سلطة الاحتلال . ان هذا القانون الذي يعهد بمنصب الرئاسة في العراق الى مجلس يتشكل من ثلاثة أشخاص سيكون أحدهم من الكرد ،الثاني من السنة ،الثالث من الشيعة العرب يكرس الطائفية والعرقية في النظام السياسي المستقبلي للبلد ويعيق اتخاذ أي قرار في مجلس الرئاسة  إلا بحصول حالة التوافق بين الأعضاء الثلاثة ، وهي ما لا تتيسر عادة من دون وجود قوة أجنبية ضاغطة وسوف يصل الأمر الى طريق مسدود ويدخل البلد في وضع غير مستقر وربما يؤدي الى التجزئة والتقسيم )) ([15])

وهكذا فقد اسهمت المرجعية في رسم الخطوط العريضة لإدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في ظل الاحتلال الأمريكي ، فهي قد أحسنت قراءة الواقع واستشعرت المخاطر وكانت أكثر قدرة على الرؤية الموضوعية لمصالح العراق وخدمة مستقبله ، ومن الشواهد على ذلك نظرات المرجعية الحكيمة حول كتابة الدستور العراقي ، ففي سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية عن رأي المرجعية بصياغة الدستور الجديد للعراق ومن المخول بصياغته؟ وكان جواب مكتب السيد السيستاني بأن (الدستور العراقي يجب أن يكتب من قبل ممثلي الشعب العراقي الذين يتم اختيارهم عن طريق الانتخابات العامة، وأي دستور يضعه مجلس غير منتخب من قبل الشعب لا يمكن القبول به )  ([16]).

فالمرجعية قد أكدت (على ضرورة أن يعتمد في كتابة الدستور القادم على آلية الانتخابات دون التعيين، وأنه لا شرعية لأيّ دستور يكتب بأيدي أشخاص معينين سواء من قبل سلطة الاحتلال أو أعضاء ما يسمى بمجلس الحكم أو غيرهم ) ([17]) . وكان موقفها بأن (أعضاء مجلس كتابة الدستور يجب أن يتم إختيارهم من قبل الشعب العراقي بجميع أبنائه المؤهلين للانتخاب، وأما الشروط التي يجب توفرها في المشاركين في التصويت وفي المرشحين فهي شروط عامة معروفة ) ([18]) . وكانت ترى بأن (الثوابت الدينية والمبادئ الاخلاقية والقيم الاجتماعية للشعب العراقي يجب أن تكون الركائز الأساس للدستور العراقي القادم ) ([19]) .

وحول اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية من العراق ، فقد أصدر مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) بياناً بهذا الشأن أكد فيه على ((ضرورة ان يبنى أي أتفاق يستهدف إنهاء الوجود الأجنبي في العراق واخراج البلد من تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على أساس أمرين :

أولاً : رعاية المصالح العليا للشعب العراقي في حاضره ومستقبله ، وتتمثل بالدرجة الأساس في استعادة سيادته الكاملة وتحقيق أمنه واستقراره .

ثانياً : حصول التوافق الوطني عليه ، بأن ينال تأييد مختلف مكونات الشعب العراقي وقواه السياسية الرئيسية .

ان أي اتفاق لا يلبّي هذين الأمرين وينتقص من سيادة العراق سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو أنه لا يحظى بالتوافق الوطني ، فهو مما لا يمكن القبول به وسيكون سبباً في مزيد معاناة العراقيين ، والفرقة والاختلاف بينهم ([20]) .

لقد واجه العراق بعد الاحتلال الأمريكي طريقاً طويلاً حافلاً بالالتواءات والمفاجئات ، لكن المرجعية بحكمتها تمكنت من توظيف ذلك الظرف بما يخدم الدولة العراقية وقد نجحت في ذلك بفعل التلاحم التاريخي بين المرجعية والأمة .

في تاريخ 14 / 3 / 2013  وجه سؤال لمكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) عن موقف المرجع الأعلى من قوات الائتلاف (الاحتلال)؟ فأجاب : (كان الشعب العراقي يعيش في ظل نظام استبدادي تسبب في كوارث معروفة للعراق وللمنطقة برمتها، ولم يكن هناك أي أفق واضح للتخلص منه عبر الطرق السلِّمية، ولكن بالرغم من ذلك فإنّ المرجعية الدينية لم تكن مع تغيير ذلك النظام عن طريق الغزو والاحتلال بما استتبع ذلك من مآسٍ كثيرة لم يتخلص البلد منها إلى اليوم. ومن هنا فإنّ المرجعية إتخذت من اليوم الأول قراراً قاطعاً بعدم استقبال أي من المسؤولين في سلطة الاحتلال تعبيراً عن عدم الإقرار بمشروعية الاحتلال، وفي الوقت نفسه قررت التعامل مع المسؤولين العراقيين الجدد على أساس تأمين المصالح العليا للشعب العراقي قدر المستطاع ووفق ما تسمح به الظروف والأوضاع المستجدّة )  ([21]).

كانت المرجعية من حيث الأساس غير قابلة على تغيير النظام الصدامي عن طريق الاحتلال ، ففي سؤال لمجلة (دير شبيغل ) الألمانية مفاده : هل تمت عملية إسقاط نظام صدام حسين بالشكل المنشود؟ وكان جواب المرجعية أنه (لم يكن المنشود تغيير النظام الاستبدادي عن طريق الغزو والاحتلال بما استتبع ذلك من مآسٍ كثيرة، ومنها إنهيار مقومات الدولة العراقية وإنعدام الأمن والاستقرار وتفاقم الجرائم وتلف الكثير من الممتلكات العامة حرقاً ونهباً وتدميراً وغير ذلك) ([22]).

وكان موقف المرجعية يمتاز بالقلق الشديد تجاه أهدافهم ، وترى ضرورة أن يفسحوا المجال للعراقيين بأن يحكموا  أنفسهم بأنفسهم من دون تدخل أجنبي  ([23]).

فهي ترى بعدم وجود مبرر لتواجدهم من الأساس ، وإذا كانت هناك حاجة إلى قوات أجنبية لحفظ الأمن والاستقرار في العراق في المرحلة الانتقالية ، فلتكن تحت مظلّة الأمم المتحدة ([24]) .

وبعد خروج قوات الاحتلال واجهت المرجعية مشكلات جديدة وأزمات متعددة بفعل التجاذبات السياسية بين الكتل السياسية ، فسعت لمعالجة المسائل المستعصية على وفق مبدأ العدالة الاجتماعية التي  أهم مقوماتها تتمثل بالمساواة والحرية وتكافؤ الفرص فظلت مواكبة لمسيرة الحكومات العراقية المتعاقبة تحاول ترشيد المسار وتقويم الإعوجاج و (طالما أكدت على المسؤولين ضرورة العمل على تحقيق مطالب الشعب المشروعة ، وكانت تحذّر من مغبة الاستمرار على النهج الحالي في إدارة الدولة ، ومما يمكن أن ينجم عن عدم الإسراع في وضع حلول جذرية لمشاكل المواطنين التي صبروا عليها طويلاً ) ([25]) .

3ـ الحث على التعايش السلمي :

لم تأل المرجعية العليا جهداً ولم تدخر وسعاً في سبيل إشاعة وتكريس التعايش بين جميع المكونات والأديان والمذاهب في العراق ، وسعت وتسعى الى مد جسور الفهم والتفاهم بين الجميع ، مدركةً  لحقيقة كون العراق بلداً متعدد الأعراق والأديان والطوائف ، مسديةً نصائحها

 بالابتعاد عن التطرف وسلوك طريق الاعتدال والتسامح ، ودائما تبذل بصدق وجدية محاولات حثيثة من أجل الاصلاح عن طريق الاقناع  وعدم الاحتكام الى لغة السلاح ، فهي تدرك النتائج المأساوية للكراهية ، وتصر على إقصاء لغة الانتقام لكونها لا تضع حداً للعنف ، ومن الشواهد المعاصرة على هذا النهج البيانات الصادرة عن مكتب سماحة المرجع الاعلى السيستاني (أعلى الله مقامه) فعندما تعرضت الكنائس المسيحية في بغداد والموصل الى اعتداءات آثمة أسفرت عن سقوط عشرات الضحايا الأبرياء بين قتيل وجريح ، كما تضرر من جرائها الكثير من الممتلكات العامة والخاصة ، أصدر مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) بيانا في (15) جماد الثاني (1425 هـ ) المصادف 2 / 8 / 2004 م استنكر فيه التعرض للكنائس المسيحية وشجب فيه وأدان هذه الجرائم الفظيعة ، مؤكداً على وجوب احترام حقوق المواطنين المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية ومنها حقهم في العيش في وطنهم العراق في أمن وسلام .

هناك قوى وتيارات فكرية منحرفة كالوهابية تنظر بعين الحقد للعراقيين من أتباع أهل البيت ، فهي تجمع كيدها وتحصر همها لإغراق المنطقة وخاصة العراق في الفتنة الطائفية نتيجة التعصب المذهبي الذي يرقد في نفوسهم ويبيض ويفرخ فاتبعوا أساليب خسيسة ودنيئة لا تقتصر على خطف وقتل الشيعة والتمثيل بجثثهم بل تجاوزتها شناعة ووحشية وإيلاماً من خلال تفخيخ وتفجير المراقد المقدسة ، وعندما وقعت الكارثة الكبرى بتفجير مرقد الإمامين العسكريين (عليهما السلام ) سعت المرجعية العليا الى اصلاح ذات البين وقطع الطريق على من يريد تعميق الفجوة بين الطائفتين الرئيسيتين في العراق (السنة والشيعة ) وسعت الى فتح قنوات للاتصال بين الاطراف المعتدلة بغية تطويق الحادث الجلل والحد من تداعياته ، وفي وقتها وجه المرجع السيستاني (أعلى الله مقامه) رسالة سامية للشعب العراقي في (22) جمادي الثاني 1427 هـ دعاهم فيها للاعتصام بحبل الله تعالى ونبذ الفرقة وتغليب المنطق والحكمة ، ومن يتمعن في عباراته يلاحظ مقدار الألم الذي يعتصر قلبه الكبير ، جاء فيها :

( بقلبِ يعتصر حزناً وألماً أتابع أنباء ما يتعرض له أبناء الشعب العراقي المظلوم يوميّاً من مآسٍ واعتداءات : ترويعاً وتهجيراً , خطفاً وقتلاً وتمثيلاً , ممّا تعجز الكلمات عن وصف بشاعتها وفظاعتها ومدى مجافاتها لكل القيم الإنسانية والدينية والوطنية. ولقد كنت ـ ومنذ الأيّام الأولى للإحتلال ـ حريصاً على أن يتجاوز العراقيّون هذه الحقبة العصيبة من تاريخهم من دون الوقوع في شرك الفتنة الطائفية والعرقية, مدركاً عظم الخطر الذي يهدّد وحدة هذا الشعب وتماسك نسيجه الوطني في هذه المرحلة, نتيجة لتراكمات الماضي ومخططات الغرباء الذين يتربصّون به دوائر السوء ولعوامل أخرى (الى أن يقول ) حتّى وقعت الكارثة الكبرى بتفجير مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام وآل الأمر إلى ما نشهده اليوم من عنف أعمى يضرب البلد في كل مكان ـ ولاسيّما في بغداد العزيزة ـ ويفتك بأبنائه تحت عناوين مختلفة وذرائع زائفة , ولا رادع ولا مانع. إنني أكرّر اليوم ندائي إلى جميع أبناء العراق الغيارى من مختلف الطوائف والقوميات بأن يعوا حجم الخطر الذي يهدّد مستقبل بلدهم, ويتكاتفوا في مواجهته بنبذ الكراهية والعنف واستبدالهما بالمحبّة والحوار السلمي لحلّ كافّة المشاكل والخلافات. كما أناشد كل المخلصين الحريصين على وحدة هذا البلد ومستقبل أبنائه من أصحاب الرأي والفكر والقادة الدينيين والسياسيين وزعماء العشائر وغيرهم بأن يبذلوا قصارى جهودهم في سبيل وقف هذا المسلسل الدامي الذي لو استمر ـ كما يريده الأعداء ـ فلسوف يلحق أبلغ الضرر بوحدة هذا الشعب ويعيق لأمد بعيد تحقق آماله في التحرّر والإستقرار والتقدم) ([26]) .

لقد أطلق هذا الحادث الأليم مارد الطائفية من عقاله ، لكن المرجعية الرَّشيدة حاولت بكل قوة إحتواء الموقف على الرغم من جسامة الحدث الذي أدمى قلوب الملايين من شيعة أهل البيت المسالمين ، كان إستهدافاً وقحاً لمراقد أئمتهم التي هي أغلى وأعز شىء على قلوبهم والتي يذودون عنها بالنفس والنفيس .

كاد هذا الحادث الخطير أن يوقع العراق والعراقيين في متاهات لا تحمد عقباها لولا حكمة ورحابة صدر المرجعية الرَّشيدة التي هي بالفعل صمّام أمان للعراق . 

أضف الى ذلك ( ان مواقف سماحته و البيانات الصادرة عنه خلال السنوات الماضية بشأن المحنة التي يعيشها العراق الجريح ، و ما أوصى به أتباعه و مقلّديه في التعامل مع إخوانهم من أهل السنة من المحبة و الاحترام ، و ما أكّد عليه مراراً من حرمة دم كل مسلم سنياً كان أو شيعياً و حرمة عرضه و ماله و التبرؤ من كل من يسفك دماً حراماً أيّاً كان صاحبه .... كل هذا يفصح بوضوح عن منهج المرجعية الدينية في التعاطي مع أتباع سائر المذاهب و نظرتها اليهم ، و لو جرى الجميع وفق هذا المنهج مع من يخالفونهم في المذهب لما آلت الامور الى ما نشهده اليوم من عنف أعمى يضرب كل مكان و قتل فظيع لا يستثني حتى الطفل الصغير و الشيخ الكبير و المرأة الحامل ) ([27]) .

تدفع المرجعية الرَّشيدة المواطن العراقي للخروج بوعية من قفص الطائفية المقيتة بعد أن سقط البعض ـ مع الأسف ـ تحت حوافر الفكر التكفيري الوهابي . كما تسعى الى تمتين عوامل اللّحمة الوطنية من خلال رَّص الصفوف وتفويت الفرصة على أعداء العراق .

وقد اتبعت المرجعية أساليب عديدة لتنفيس الإحتقان الطائفي وإشاعة المناخ التسامحي ، والتذكير بأن الحرب الداخلية لايمكن التنبؤ بعواقبها وتأثيراتها الكارثية على السِّلم المجتمعي ، كما مارست الحوار الاقناعي من خلال الإعلام المرجعي ذي البُعد العالمي .

4 ـ الخضوع لسيادة القانون :

تعمل المرجعية الرَّشيدة  ـ والتي تُعد منارةً للتنويرـ  على إعلاء كلمة القانون والعدالة في الدولة العراقية الحديثة بعد إنحلال منظومة الأخلاق والقيم في عهد النظام البعثي البائد  وإحتكام الناس الى القوة والابتزاز والإستقواء بالعشيرة والقبيلة  بعد سقوطه ، منطلقة في ذلك من كون العدل عماد الشريعة ، فهي تفضح وتعري كل أشكال الظلم التي تراها في المجتمع وتكشف ما تنطوي عليه الحياة والقيم الاجتماعية من سلوكيات ومتبينات تفتقر للعدالة والانصاف .

ومن الشواهد على دعوة المرجعية الى الاحتكام للقانون ما يعلنه ممثل المرجعية في خطبه الاسبوعية لصلاة الجمعة ، فهو يحث على  (ضبط الأمور عن طريق القوانين واذا ضُرب القانون عرض الحائط او لم نضع قانوناً أصلا تتحول المسألة الى فوضى وبعض الناس يُشبه الفوضى ،أنها شريعة الغاب،  أي الغابة، ولكننا اذا دققنا نجد حتى في الغابة بين الحيوانات قوانين واذا لم يلتزم البشر بالقوانين سيتحول لأسوأ من شرعية الغاب ويرتكب جميع الحماقات )  وتابع ممثل المرجعية "اذا لم يحترم الانسان القانون لا يحترم نفسه وسيتجاوز ويعتدي لانه أمن العقاب، ولابد من احترام القانون وجزء منه المحاسبة ) وأكد، (ان أسوأ ما يمّر به الانسان عندما يرى نفسه هو القانون ويضرب جميع الأمور عرّض الحائط ) ([28])

ولم تعرف المرجعية المراوغة ولا المداهنة في ضرورة تطبيق القانون بصورة متساوية على الجميع فقد انتقدت الإجراءات التي يتبعها القائمون على القضاء في تطبيق القوانين على الضعفاء، وتجاهل كبار المفسدين .

 وقد أثار قرار محكمة السماوة في محافظة المثنى بسجن صبي يبلغ من العمر 12 عاما لمدة سنة، إثر ادانته بسرقة أربع علب مناديل ورقية !، سخطا شعبياً واسعاً دفع البعض إلى المقارنة بين هذا الحكم وتبرئة مسؤولين كبار من الفساد . ممثل المرجعية الدينية في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي انتقد الحكم في خطبة الجمعة، يوم 27 / 8 / 2016 واصفاً إياه بالظالم، متهماً السلطات القضائية بأنها تطبق القانون بحق الضعيف وتتخوف من تطبيقه على من يمتلك النفوذ أو المال أو الميليشيات المسلحة ([29])

وتلجأ المرجعية ـ عادةً ـ لمكامن قوتنا ممثلةً في تراثنا الديني والفكري الثري ، من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو كلمات أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام )  . ومن الشواهد على هذا النهج ما قاله

ممثل المرجعية الدينية العليا الشيخ عبد المهدي الكربلائي بخطبة صلاة الجمعة التي تلاها في الصحن الحسيني في 22/ذي القعدة/1437هـ الموافق 26/8/2016م ، ما نصه :

روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ) ، فهذه الرواية تتحدث عن واقع الأمم السابقة التي كانت تفرّق في تطبيق القانون ، فهذه الأمم قد بادت واندثرت حينما كان الشريف فوق القانون ويقصد به هنا الشخص الذي يتميز في المجتمع بموقع اجتماعي او ديني أو عشائري أو اقتصادي أو سياسي .

وهذا ما أكده القرآن الكريم عندما دعا المؤمنين الى أن يتحركوا بالعدل حتى ضد الاقربين

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) – النساء 135.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) – سورة المائدة

وطالب الشيخ عبد المهدي الكربلائي من الجميع أن يعيشوا هذا المبدأ الإسلامي القانوني من تطبيق العدل مع الجميع لأن في ذلك حماية للمجتمع والدولة معاً ، ولكي نتمكن أن نصنع مجتمعاً عادلاً ودولة عادلة ([30])

تواكب المرجعية إيقاع الواقع العراقي المتردَي وتقوم برّصد ودراسة المحيط الاجتماعي ، في ظل هشاشة العلاقات الانسانية القائمة وتشابك المشكلات التي تزداد يوما بعد آخر حيث برزت ظواهر جرمية جديدة غريبة على قيم وأعراف المجتمع العراقي المتدين والمحافظ كالاختطاف والإبتزاز والتجاوز على الممتلكات العامة والقتل على الهوية والتهجير القسري والإعتداء على الأعراض وهتك الحرمات وسبي نساء الأقليات وإنتشار المخدرات والمتاجرة بالأعضاء البشرية وتفشي البطالة ، إذ إن نسبة كبيرة من مرتكبي الجرائم عاطلون عن العمل ، وكذلك إتساع ظاهرة الطلاق لأتفه الأسباب والظلم الاجتماعي للمرأة ، فهذه المشاكل المتشعبة تحتاج لحلول ملّحة ترتكز على أسس قانونية صحيحة وعادلة لذلك تسعى المرجعية الى ايجاد حلول قانونية وشرعية لأكثر هذه المشاكل ضرراً وتعقيداً لتحسين نوعية الحياة الاجتماعية .

5 ـ التصدي للفتنة الطائفية :

لا يخفى بأننا في العراق  نعيش الفتنة الطائفية ، وهي مرحلة خطيرة من التمزّق والتشرذم ، وقد غدت وحدتنا  أنكاثاّ بعد قوة وتسود حالياً مظاهر التشتت والفرقة ، وهناك شروخات كبيرة  في الجسد السياسي العراقي لكون السلطة لا تمثل سوى المجتمع الذي تنبثق منه .

ولا يخفى ان الارهاب والفتنة مشروع معاد لفكرة الدولة التي تنشدها الجماهير .  لكن المرجعية العليا الرّشيدة تسعى بقوة للخروج من النفق أو الفكاك من المأزق الطائفي من خلال سعيها الدائب وسيرها الحثيث لتكريس مبدأ التعايش السِّلمي بديلاً للمواجهة والتصدي لمظاهر التشتت والفرِّقة ، فهي ترى بأن أسوأ المعالجات معالجة الأمور بالقوة وتدرك بأن الفتنة الطائفية لا ينتهي إوارها الا وقد أحرقت الأخضر واليابس وتركتها قاعاً صفصفا ، وأنها تصب في خدمة المشروع التفكيكي للمنطقة ، والمتمثل بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ من خلال حروب أهلية مذهبية .

تجدر الإشارة الى أن الأجيال الجديدة من تنظيمات العنف أصبحت تستخدم وسائل وأساليب أكثر وحشية وجرأة خاصة ظاهرة الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة . ولقد تحول الشارع الشيعي الى بركان ملتهب إثر فاجعة جسر الأئمة في الكاظمية المقدسة عام 2005 ، وكادت تقع الفتنة لولا تدخل المرجعية الرَّشيدة وموقفها الداعي الى ضبط النفس ، وإدراكها للنتائج المأساوية للعنف و الكراهية ، وفي وقتها أصدر المتحدث الرَّسمي لمكتب سماحة السيد السيستناني تصريحاً دعا العراقيين الى وحدة الكلمة ورصَ الصفوف وتفويت الفرصة على مثيري الفتنة ([31]) .

ومن يتمعن في رسالة السيد آية الله السيستناني (دام ظله) التي وجهها الى الشعب العراقي في (22) جمادي الثاني 1427 هـ عقب نشوب الفتنة الطائفية نجد أنه يستشهد بالخطاب القرآني الذي يؤكد على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق ويستنكر على ((الذين يستبيحون دماء المسلمين ويسترخصون نفوس الأبرياء لانتماءاتهم الطائفية بقول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في حجّة الوداع : ( ألا وان دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, ألا ليبلغ الشاهد الغائب) وبقوله صلّى الله عليه وآله ( من شهد أن لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله فقد حقن ماله ودمه الاّ بحقهما وحسابه على الله عزّ وجلّ) وبقوله صلّى الله عليه وآله (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ).

وخاطب الذين يستهدفون المدنيين العزّل والمواطنين المسالمين بما قاله أبو عبد الله الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء مخاطباً من راموا الهجوم على حرمه (إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد فكونوا أحراراً فى دنياكم وإرجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون..[ان] النساء ليس عليهن جناح), فما بالكم تستهدفون أناساً لا دور لهم في كل ما يجري من الشيوخ والنساء والأطفال وحتّى طلاّب الجامعات وعمّال المصانع وموظّفي الدوائر الحكومية وأضرابهم؟ إن لم يكن يردعكم عن ذلك دين تدّعونه أفلا تصدّكم عنه إنسانية تظهرون في لبوسها؟ وأقول لمن يتعرّضون بالسوء والأذى للمواطنين غير المسلمين من المسيحيين والصابئة وغيرهم ، أما سمعتم أن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) بلغه أن إمرأة غير مسلمة تعرّض لها بعض من يدّعون الإسلام وأرادوا إنتزاع حليّها فقال (عليه السلام) :  ( لو أنّ إمرءاً مسلماً ماتَ من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً) فلماذا تسيئون إلى إخوانكم في الإنسانية وشركائكم في الوطن؟!([32])

وقد اسهمت هذه الرسالة في تخفيف حدة الاحتقان الطائفي وتهدئة النفوس وإمتصاص ردود الأفعال غير المنضبطة ، وتعتبر رسائل وكلمات وتوجيهات المرجعية وخاصة السيد السيستاني (دام ظله) بمثابة المصل الواقي الذي يمنح الأمة المناعة ضد فيروس الانقسام والتفرّق والتمزق ، وبالتالي فهو يدفع المواطنين للإنصهار في  بوتقة الدولة العراقية .

وفي هذا الصدد ترى المرجعية بان (العلاقة الأخوية بين الشيعة والسنة في العراق لن تتأثر ببعض الحوادث المؤسفة التي وقعت مؤخراً ، وقد سعى الكل في تطويقها واتخاذ ما يلزم لعدم تكرارها ، ومن المؤكد أن العراقيين جميعاً سنة وشيعة وغيرهم حريصون على وحدة بلدهم والدفاع عن ثوابته الدينية والوطنية ، كما أنهم متفقون على ضرورة التأسيس لنظام جديد يقرّ مبدأ العدالة والمساواة بين جميع أبناء هذا البلد في جنب مبدأ التعددية واحترام الرأي الآخر ) ([33])

والأمر الآخر هنا أن المرجعية ترى أنه (لا يوجد صراع ديني بين الشيعة والسنة في العراق، بل هناك أزمة سياسية، ومن الفرقاء من يمارس العنف الطائفي للحصول على مكاسب سياسية وخلق واقع جديد بتوازنات مختلفة عما هي عليها الآن ... ويجب أن يسعى الجميع ـ ولا سيما الزعامات الدينية والروحية ـ لتثبيت قيم المحبة والتعايش السلمي المبني على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين أتباع مختلف الأديان والاتجاهات الفكرية ) ([34])

6 ـ المشاركة السياسية :

لا يخفى بان المحك الحقيقي لاختبار مدى صلاحية  أو شرعية أي نظام هو مدى مشاركة الناس في السلطة والثروة ، والمرجعية العليا قد حثت المواطنين على المشاركة الفاعلة في الانتخابات لكونها الطريق السليم للمشاركة السياسية وقيام حكم سياسي قوي ومستقر وقادر على الإستمرار والتجدد والاستيعاب لمطالب العراقيين بشتى أصنافهم ومكوناتهم وطوائفهم ، لا سيما وأن البرلمانية هي أرقى صيغة تمثيل شعبي وصل اليها العالم لتمثيل الشعب . والمرجعية بدورها قد بذلت جهوداً حميدة ومساعي طيبة من أجل دفع العراقيين للمشاركة السياسية من خلال الإدلاء بأصواتهم في صناديق الإقتراع على الرغم من التقصير الحكومي الذي يدفع الناس باتجاه اليأس من التغيير وزرع بذور الإحباط في نفوسهم ، لكن المرجعية الرَّشيدة وهي تدرك بأن العراق يجتاز منعطفاً خطيراً ، وان ديمقراطيته لم تثبت دعائمها بعد ، تحث المواطنين على المشاركة الواسعة والفاعلة . وحول التساؤلات في الشارع العراقي عن مدى الجدوى في المشاركة في الانتخابات بعدما لوحظ أن الانتخابات الماضية لم تسفر عما يحقق آمال الناس ولم يكن الكثير من أعضاء مجلس النواب والمسؤولين الحكوميين بمستوى المسؤولية التي عهدت اليهم ، مع التسليم بذلك ، ترى المرجعية  ان الانتخابات النيابية تحظى بأهمية كبرى ولا سيما في هذه الظروف العصيبة التي يمّر بها العراق العزيز ، وهي المدخل الوحيد لتحقيق ما يطمح اليه الجميع من تحسين أداء السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (الحكومة) ، وكان بيان سماحة السيد السيستاني (دام ظله) صريحاً في ضرورة أن يشارك فيها جميع المواطنين من الرِّجال والنَّساء الحريصين على مستقبل هذا البلد وبنائه وفق أسس العدالة والمساواة بين جميع أبنائه في الحقوق والواجبات ، مؤكداًً على أن العزوف عن المشاركة لأي سبب كان سيمنح الفرصة للآخرين في تحقيق مآربهم غير المشروعة . وشدد سماحته : على ضرورة أن يختار الناخب من القوائم المشاركة ما هي أفضلها وأحرصها على مصالح العراق في حاضره ومستقبله وأقدرها على تحقيق ما يطمح اليه شعبه الكريم من الاستقرار والتقدم  ([35]).

ان بناء الدولة وهي مؤسسة المؤسسات لا يتم إلا من خلال ترسيخ النظام الديمقراطي وتعميق جذوره من خلال المشاركة السياسية الواسعة والحوار المجتمعي ، فالمرجعية تحاول إعادة الدفة الى اتجاه الأمل في الاصلاح والتغيير ، لذلك أكدت دوماً على أهمية الانتخابات ودورها الأساس في تقرير مستقبل البلد وحفظ حقوق أبنائه ، وهناك بيان صادر عن مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) حول انتخابات مجالس المحافظات يؤكد على أهمية المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات وعدم العزوف عنها على الرغم من عدم الرِّضا الكامل عن التجارب الانتخابية السابقة .

وضرورة أن يختار الناخب بعد الفحص والتمحيص مَن يكون مؤهلاً لعضوية مجلس المحافظة ممن يلتزم بثوابت الشعب العراقي ويسعى في تحقيق مصالحه ويتصف بالكفاءة والنزاهة والاخلاص لخدمة هذا الشعب الكريم  ([36]).

ومن المهم الإشارة الى أن المرجعية تعمل على تنقية العقول من غواشيها فيما يخص مكانة المرأة وحقوقها لكونها تمثل التنوير في مجابهة الظَّلامية التي تحجر على حرية المرأة وتقلل من مكانتها ودورها ، لذا تحترم حقوقها وخاصة المنسجمة مع الشريعة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز حقوق الإنسان ، وتعمل على تعميق الوعي في هذا الشأن ، وقد طرح سؤال من قبل مجلة (دير شبيغل) الألمانية على المرجعية ، ومفاده أنه ( كثر الجدل فيما يتعلق بحقوق النساء في العراق، فهل تجدون مانعاً من مشاركة المرأة العراقية في العملية السياسية وتسلمها للمناصب المختلفة كعضوية البرلمان والوزارة وغير ذلك؟ فكان جواب المرجعية أنه (لا مانع من ذلك مع توفر الشروط والمؤهلات القانونية، ومن المؤمّل أن يكون للمرأة العراقية دور كبير في تطور العراق ورقيّه ورفعته ) ([37]).

7 ـ تعرية الفساد :

تأخذ قضية الفساد مكان الصَّدارة في إهتمامات وخطب المرجعية من أجل تعريته في المجتمع وكشف خطورته بهدف الوصول الى الاصلاح ، فليس خافياً بأن الفساد يشكل عقبة كأداء أمام التنمية والإعمار وهو مستشرٍ حاليا في كل مفاصل الدولة وقطاعات المجتمع يضرب بجذوره بعيداً في تربة الدولة العراقية الحالية ، وبفعل الفساد الضارب أطنابه غدت التنمية في هذا البلد كجذع شجرة ملقاة على قارعة الطريق وقد نخرها السوس .

لقد حاربت المرجعية الفساد بكل صوره من خلال الإستفتاءات التي تُعرض من قبل المواطنين ، ومن خلال البيانات التي تقتضيها التطورات والأحداث ، ومن الشواهد على ذلك ماعرّضه جمع من المؤمنين في 29 محرم 1424 هـ  على المرجعية ، وجاء فيه أنه (في هذه الأيام العصيبة ومع عدم تواجد الموظفين والمسؤولين في عدد من دوائر الدولة يقوم بعض الناس بالاستحواذ على الممتلكات العامة كمحتويات المدارس والبلديات وأدوية المذاخر والمستشفيات ونحو ذلك ،فما هو حكم ذلك في الشرع الشريف؟) وكان جواب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) : (لا يجوز أخذ شيء منها ، ويحرم التعامل به ومن فعل ذلك كان ضامناً والله الهادي) ([38]) .

 وفي استفتاء آخر عُرض على المرجع الأعلى (دام ظله) وجاء فيه أنه (يقوم بعض الناس باستخدام بعض الممتلكات المسروقة من الدوائر الحكومية كمولدات الكهرباء والسيارات في إطار الخدمة العامة ، فهل يجوز لهم التصدي لذلك كتصرف شخصي؟) ، وكان الجواب :

(لا يجوز، والله العالم ) ([39]) . وفي فتوى صدرت في 18 / صفر / 1424 هـ اعتبر المرجع الاعلى بأن : الأسلحة المنهوبة من مراكز الجيش ونحوها تبقى ملكاً للدولة ولا يجوز التعامل بها بل لا بدّ من جمعها وحفظها باشراف لجنة من أهالي المنطقة لتسلم إلى الجهة ذات الصلاحية لاحقاً .

كانت المرجعية لا تبخل بتوجيه النصح  للحكومات المتعاقبة على حكم العراق بعد 2003، وأغلبها ان لم نقل جميعها لا تمتلك الرؤية أو الكفاءة الازمة لإدارة الأزمات ، فأغلب المشكلات التي واجهتها البلاد تحولت الى أزمات ، ثم تحولت الأزمة الى كارثة ليس لها من دون الله

كاشفة !.

 ورغم أن إدارة الأزمة هي الحد الأدنى المطلوب من أي سلطة حكم رشيدة ، لأنها تعني إحتواء تلك الأزمة ومنع تفاقمها وخروجها عن السيطرة ، لكن الملاحظ  أن أغلب الحكومات المشار اليها أعلاه  تثبت في كل مرّة فشلها في تحقيق الحد الأدنى بإدارة الأزمة بالشكل الصحيح .

في كل لقاء تجريه المرجعية العليا مع المسؤولين تذكرهم بضرورة تحسين الإدارة في الدولة وأهمية مكافحة الفساد المستشري .

وقد وصل الفساد الى مديات خطيرة من خلال المتاجرة بدماء العراقيين وحياتهم والعبث بأمنهم فهناك عناصر أمنية فاسدة تُسهل دخول السيارات المفخخة والمتفجرات مقابل حفنة من الدولارات ! ، وهناك جهات أمنية تسهل للإرهابين الذين وقعوا في قبضة العدالة سُبل الهروب من المعتقلات والسجون وتعقد معهم الصفقات وتتلقى الهبات ، ليستأنفوا إجرامهم من جديد ويسفكوا المزيد من دماء الأبرياء .

لقد أدانت المرجعية بشدة التهاون مع الفاسدين والفاشلين على حساب دماء وأرواح المواطنين واعتبرته أمراً لايطاق ! ولابد من وضع حد له ، جاء ذلك في أعقاب التفجير الإجرامي الذي حصل في الكرادة  يوم 8 / 7 / 2016 ، وعبرت المرجعية عن عظيم الأسى والأسف للدماء الزَّكية التي أُريقت في هذا الحادث المفجع وعن بالغ الألم لآهات الثكالى ودموع اليتامى وأنين الجرحى والمصابين ، وطالبت الحكومة بالعمل على كشف مخططات الارهابيين وإلقاء القبض عليهم وعلى من يدعمونهم وتقديمهم الى العدالة وإتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع وقوع هذه المآسي الفظيعة ، التي تكررت خلال السنوات الماضية عقيب حوادث مماثلة ، ولكن تلك المطالبات لم تحقق شيئاً في ظل غياب الرؤية الصحيحة لأصحاب القرار وتفشي الفساد والمحسوبيات بالرغم من كل النصح المرجعي والضغط الشعبي ، وطالبت المرجعية بإحداث تغيير جوهري في أداء المسؤولين وضرورة قيامهم بمكافحة الفساد بصورة جديّة ، وتطبيق ضوابط مهنية صارمة في التعيينات الحكومية ولا سيما في المواقع والمناصب المهمة كالمهام الأمنية والاستخبارية  ([40]).

صفوة القول تسعى المرجعية العليا الى تقويم الإعوجاج وترشيد المسار بكل السبل المتيسرة لديها كإصدار الفتوى وتقديم النصح والإرشاد ، وفق قاعدة : (الميسور لا يترك بالمعسور) وكان للخطب الإسبوعية التي يلقيها ممثل المرجعية في الحضرة الحسينية في صلاة الجمعة الدور الكبير في فضح وتعرية الفساد ، ففي يوم الجمعة 24 / 6 / 2016 كشف ممثل المرجعية في كربلاء السيد أحمد الصافي عن قيام بعض الجهات المسؤولة بطلب نسبة من المال من الذين لديهم مستحقات على الدولة مقابل تسديدهم أموالهم ! ، قال : ( إن هناك بعض الأشخاص لديهم مستحقات مالية على الدولة بسبب مشاريع تم إنشاؤها أو أي اغراض أخرى ...

أن هناك شكاوى ومعلومات تشير إلى أن الجهات المسؤولة عن صرف هذه الأموال تقايض أصحاب المستحقات بدفع 20% نسبة لهم مقابل صرف مستحقاتهم) عاداً الأمر بأنه حرام شرعاً وإثم كبير([41]) .

وهناك مظاهر فساد أخرى كشفت عنها المرجعية ، ومن أمثلة ذلك في زماننا ما أصبح أمراً ثابتاً في معظم الدوائر الحكومية من أنه لا تعيين في الوظائف إلا بدفع المال فمن يريد التعيين فيها وهو حقه بموجب القانون ، لا يجد بداً من أن يدفع مبلغاً بمئات الآلاف او بالملايين حتى يتعين.

وعلى وفق رأي المرجعية : هذا أنموذج من منع الحاكم الناس حقوقهم ، فيضطرون الى شرائها بالرّشا، وهذا الأمر أثار استغراب المرجعية فتساءلت مستنكرة : أي فساد هذا؟!!  ان يشتروا الحق الذي هو حقهم الذي فرضه القانون لهم .. ان يشتروه بالمال ؟!! .

لقد أصبح هذا الطريق أي الحصول على الحق بالرّشوة أو الإنتماء السياسي وغيره ،هو الطريق الذي لا محيد عنه للفقراء والبسطاء من الناس الذين لا ينتمون لخط أحزاب السلطة وأصحابها وليسوا من المقرّبين لهم سياسياً أو عشائرياً او مناطقياً أو غير ذلك .

وما نلاحظه في أيامنا هذه من إستشراء الفساد والتواطؤ على الغض والسكوت عما يمارسه من ذلك أصحاب الجاه والسلطة وإنزال العقوبات الشديدة لصغار السرّاق والمختلسين وترك الكبار منهم يسرحون وينهبون كيفما يحلو لهم  ([42]).

ولفتت المرجعية العليا النظر الى مفارقة صارخة في العراق وهي أن المواطنين محرومون من أبسط الحقوق والفاسدون يتنعمون بخيراته !! ، كما انتقدت تفشي الفساد المالي والإداري وتراجع الواقع الخدمي والمعيشي في البلاد  ([43]).

فالمرجعية لن تتوقف عن المطالبة بحرب حقيقية على الفساد ، هذا المرض المزمن الذي ينهش في جسد الدولة العراقية . ولكي ننتصر بسرعة في معركة الإصلاحات الاقتصادية ونجتاز عنق الزّجاجة التي عانى منها المواطن في الخدمات ومجالات أخرى معروفة للجميع ، لابد من التركيز بقوة على مكافحة الفساد ، وأن يكون المواطن والدولة يداً واحدة لاستئصال جذوره وسيقانه المتسلقة التي تخنق المواطن والتنمية ، بل تهدد الدولة كياناً ومؤسسات .

ضمن هذا الإطار تستنهض المرجعية الهمم الخيرة للنهوض بالبلد وتعمير ما تهدم منه ، قال ممثل المرجعية الدينية أحمد الصافي خلال خطبة الجمعة في الصحن الحسيني المطهر أن (اعمار الارض لايتم الا بتعاون الجميع، ومن الخطأ الاعتماد على خراجها اي ثروتها وتركها دون إعمار واستثمار، وضرورة تهيئة مستلزمات المعيشة واستثمار الطاقات لإعمار البلد والأرض ،وبنظرالمرجعية من المعيب ترك الارض بلا إعمار واستثمار) ([44]) .

ولكي نستجيب لتوجهات المرجعية في هذا الصدد ، لابد من توجه الدولة نحو تنفيذ استراتجية تنمية حقيقية ، وهي لن تتأتى بالكلام فقط ومجرد التصريحات المعسولة من بعض المسؤولين ، إنما بالخروج من الاقتصاد الريعي الذي هوالصفة البارزة للاقتصاد العراقي المعتمد على النفط ، لابد من تشجيع الصناعة والزراعة وتفعيل السياحة وخاصة الدينية منها . ولا يخفى بأن  التفكير التنموي هدفه استيعاب العمالة ورفع الناتج القومي للبلاد وتحسين مستوى دخل الفرد، واستيعاب العمالة الجديدة ، وتوفير فرص عمل أكثر للمواطنين وخاصة الخرّيجين .

إن ما ينشر ويعلن حول التنمية من قبل الحكومة والكتل السياسية ليس سوى قنابل صوتية تطلق في الفضاء العام لحسابات داخلية بحتة أو لإهداف إنتخابية . والحال لابد من عملية إصلاح اقتصادي جدّي فليس من المعقول ولا المقبول أن تستمر الدولة في الاقتراض الخارجي على طول الخط ، وتركض وراء مؤسسات المال الكبرى كصندوق النقد والبنك الدوليين ! ، وتكون أسيرة لشروطهم وما يفرضونه من قيود كرفع الدعم عن الوقود والطاقة وتقليل الدعم للفئات الفقيرة والمستضعفة . والمفارقة الملفتة للنظر هي توقيع اتفاق( الاستعداد الائتماني) المبرم بين الحكومة العراقية وصندوق النقد الدولي  في 7 تموز عام  2016

وغدا هذا الصندوق يتحكم في مفاصل اقتصاد الدولة العراقية ، بحيث أن موازنة عام 2017 جاءت متوافقة مع طلبات صندوق النقد الدولي ، حسب تصريح السيد (مظهر محمد صالح) المستشار المالي لرئيس الوزراء للصحافة يوم 1 / 11 / 2016 ، وبدلاً من وضع سياسات اقتصادية أكثر عمقاً وإصلاحات كبيرة في نظم الإنتاج يرى الخبير السيد مظهر : بأن الدَّين لا ينبغي أبداً أن يكون بديلاً للنفط ، وان البديل الصحيح هو تعظيم الايرادات وإيجاد مصادر من الرّسوم والايرادات التي كانت مختفية ولم يكن وعاؤها الضريبي معروفاً .

 بعبارة مختصرة تريد الحكومة تحميل المواطن عبء عجز موازنة الدولة وإغراق العراق بالديون ، وذلك مخالف قطعاً لتوجهات المرجعية الرّشيدة التي تلتزم بحكمة أمير المؤمنين (عليه السلام ) المذكورة في نهج البلاغة : (احتج لمن شئت تكون أسيره ، واستغنِ عمن شئت تكن نظيره ..الخ) .

فكيف تحقق الدولة العراقية إستقلالها الاقتصادي ـ وهو ما تنادي به المرجعية ـ والحال أنها مكبلة بديون وقروض لسنوات قادمة ، وهي خاضعة لتوجهات وشروط مؤسسات المال الكبرى والبعض منها مجحفة  ، ثم أن فوائد الديون أو مايطلق عليه (خدمة الدَّين ) سوف تستنزف ثروات البلد وتسبب ضرراً جسيماً للاجيال القادمة .

 8ـ الإعلام والتعليم :

 للمرجعية العليا وجهات نظر شاسعة وخصبة في مجالات حيوية كالإعلام والتعليم ، فهي الينبوع الثَّرالذي يروي ظمأ أجيالنا من زمزم العلم والمعرفة .

وفي وقت يتعرض فيه أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الى مظاهر العداء الإعلامي والتصعيد الكلامي من آلة الإعلام المعادية  ، وفي وقت تعصف فيه رياح التكفيرالوهابي مثل ريح السَّموم نجد أن المرجعية تؤمن بقوة الكلمة الصادقة وتسعى الى فك أغلال العقل وتحريره  ، ورفع الغشاوة عن عيون المتأثرين بالدعاية الوهابية المضللة .

فالمرجعية تدرك بان وسائل الإعلام الحديثة أصبحت أكثر خطورة في تأثيراتها الإيجابية أو السّلبية لذلك فان ( مكتب سماحة السيد دام ظله لا يتعامل مع وسائل الإعلام إلا في حدود الضرورة، وفقاً للمنهج الذي رسمه له سماحة السيد دام ظله ) ([45])

ثم أن مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) أدان (إتخاذ وسائل الإعلام ـ ولا سيما القنوات الفضائية ـ وسيلةً لإثارة النَّعرات الدينية والطائفية والإساءة إلى الآخرين والتحريض ضدّهم وتناول رموزهم ومقدساتهم بالقذف والسبّ ونحو ذلك ـ بالإضافة إلى كونه على خلاف تعاليم النبي المصطفى وآله الطاهرين عليهم السلام ، فان له  تداعيات خطيرة على التعايش السِّلمي بين أبناء المجتمعات الخليطة من أديان ومذاهب مختلفة ويمهّد لممارسة العنف فيها من قبل البعض ضد البعض الآخر. وتقع المسؤولية على أصحاب القرار وعلى ذوي العقل والحكمة من مختلف الطوائف والاتجاهات في توجيه المعنيّين بالكفّ عن هذه الممارسات التي تؤدي إلى مزيد من العناء والبلاء على الجميع والله الهادي )([46]) .

 لذلك تركز المرجعية على معايير محدّدة للإعلام تنسجم مع مبادىء ومتبنيات مدرسة  أهل البيت (عليهم السلام) ، ولعل من أهم ركائز الاعلام المرجعي هو نشر الحقيقة المتعلقة بالمعلومات بعد التأكد من دقتها وصدقها ، وفي هذا الصدد :

وجه ممثل المرجعية الدينية العليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكر بلائي الإعلاميين بالعتبة الحسينية المقدسة (إلى الالتزام بمعايير الإعلام الحسيني، وتوخَي الدِّقة والتثبت من كل ما يطرح وتطابقه مع مبادئ أهل البيت عليهم السلام، وان يكون صوت إعلامهم يمثل صوت الحق وخال من التزييف والتحريف والكذب وينبع من قلب نقي محب للخير، وان لا يكون دعاية لجهة سياسية، والتطابق بين ما يَدعون إليه وما يعملون به ومخلصين في عملهم بما يجعل الكلام الملقى يصل إلى قلب المتلقي ويتأثر ويعمل به  ... إن النبي صلى الله عليه واله وسلم عند بداية الدعوة لم يكن لديه دولة أو جيوش أوسائل إعلام، وقريش قباله تتوفر لديها إمكانيات هائلة ولكن في النهاية انتصر الرسول وبقى الإسلام، وأن الإمام الحسين عليه السلام ليس لديه الإمكانيات التي كانت لبني أمية ومع ذلك وصل صوت الإمام الحسين عليه السلام إلى جميع بقاع الأرض بمرور الوقت وعبر مئات السنين ويبقى تأثيره في مجال السعة المكانية وكذلك على مستوى الأفراد، والآن نرى رجلاً هو السيد السيستاني (دام ظله) يجلس في بيت بسيط متواضع ولا يمتلك قنوات فضائية ولا يمتلك وسائل إعلام، ولكن يمتلك التأثير في قلوب عشرات الملايين ! ! ( وأكد الشيخ عبد المهدي الكربلائي على الإعلاميين) بوجوب تثبيت معايير الإعلام الحسيني، من خلال بث صوت الحق، مشيراً إلى إن بني أمية كان لهم إعلام دولة كبيرة ومترامية ولكن انتهوا لأنهم باطل، بينما الإمام الحسين وزينب وزين العابدين عليهم السلام كانوا هم الحق لذلك صداهم إلى الآن يتردّد على مساحة الكرة الأرضية، فيجب التأكيد على هذه المعايير والتذكير بها دائما لكي لا نقع بالخطأ، ولان الإنسان دائما يتأثر بالعقل الجمعي والإعلام من حولنا لا توجد لديه هذه المعايير)  ([47]).

فعلى الإعلام الحكومي أن يقتدي بمعايير وضوابط الإعلام المرجعي الذي  يمتاز بالمبدئية  من جهة تحرّي الصدق والبحث عن الحقيقة ، وأن يخرج من أسر ضيق النظرة والتحيز غير المشروع لمن يمتلك النفوذ والسلطة ، وأن يضبط عدسة رؤيته على منظور إعلامي سليم ،  ويكون إعلاماً جماهيرياً يستمع لما يقوله الناس و يستقصي آراءهم من خلال المقابلات الشخصية أو إرسال قائمة بأسئلة معينة للإجابة عنها من قبلهم ، وأن يواجه التضليل الإعلامي والدعاية التي تطمس على عيون البعض منهم ، وأن يقف بالمرصاد لمن يحاول إدخال المواد الفكرية الظَّلامية السامّة الى عقولهم .

 أضف الى ذلك ان الإعلام ان لم يكن حراً ونزيهاً ومستقلاً ومتجرداً يمكن أن يقود البلاد الى كارثة لا يمكن الخروج منها الا بالتضحيات الجسام . وبذلك تكون المرجعية هي النجم الذي يهتدي به الإعلاميون  ويسيرون وراء خيوط الضوء المنبعثة منه .

ويتبدى أهمية دور المرجعية التي هي بالأساس مؤسسة علمية تربوية في الإهتمام بقطاع التعليم والتربية في العراق وقد أصدرت المرجعية الدينية يوم الجمعة المصادف   23 / 9 / 2016 توصيات إلى الأساتذة والمعلمين مع قرب بدء العام الدراسي الجديد، حاثةً إياهم على حُسن التعامل مع طلبتهم وعدم التَّعالي عليهم، فيما دعت وزارة التربية إلى توفير مستلزمات التعليم للطلبة وتشخيص أسباب هبوط معدلات النجاح .

 وقال ممثل المرجعية الشيخ (عبد المهدي الكربلائي) خلال خطبة صلاة الجمعة التي أقيمت، في الصحن الحسيني الشريف ([48])  إن (المأمول من الاستاذة والمعلمين أن يلتفتوا إلى أن الطلبة لأنهم أمانة في أعانقهم”، مخاطباً إياهم بالقول إن “الاباء والامهات والمجتمع بأكمله سلموا إليكم عقول وقلوب هؤلاء الأبناء تصيغونها بتعاليمكم فأعيدوا هذه الأمنة صالحة بالمبادئ والخلق الرفيع ومصونة من الجهل والانحراف ) .

وأضاف الكربلائي : (تذكروا أن مهمتكم لا تقتصر على التعليم المهني بل مهمتكم هي التعليم والتربية على الاخلاق الفاضلة والمواطنة الصالحة”، مستدركاً :  لا ثمرة للتعليم بدون الاخلاق وتربية النفس على هذه القيم ) .

وفي ذات الوقت حث الأساتذة إلى (حسن التعامل مع الطلبة وعدم التعالي عليهم وإرشادهم بالموعظة الحسنة وتنبيههم على ضرورة الاهتمام بأخلاقهم، وعلى المعلم احترام جميع الطلبة وعدم إهانة أحد , ان من يمارس التعليم عليه ان يعلم ان لسلوكه ومنطقه ابلغ الاثر في طلابه ولا يتصور انه مجرد استاذ في مادة الطب، فعليه ان يراعي الجوانب الدينية والاخلاقية في اقواله وتصرفاته، ومن ذلك التواضع لمن يعلمهم من الطلاب وعدم التعالي عليهم ، وخلق جهاز تربوي قادر على أداء هذه الرسالة العظيمة ) .

وبذلك تنتقل المرجعية العليا  ـ وهي تنشر شلالات النور ـ الى مَدار توعوي حيوي متمثلاً بالتعليم بغية تحرير العقل العراقي من حبال الوَّهم والخرافة وجعله ينهل من ينابيع العلم والمعرفة ويتحلى بالأخلاق الفاضلة والسعي الى خلق أجيال معاصرة ترتضع من لّبان ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) الحضارية .

9 ـ الاهتمام بالصحة والبيئة :

من المعروف أن الإسلام دين ودنيا ، وفي الوقت الذي تهتم فيه المرجعية العلمية بالأمور الدينية وتمارس الدور الدَّعوي ، فهي لا تغض الطَّرف عن الأمور الدنيوية المتعلقة بالصحة العامة وبنظافة البيئة ـ بحسب الاستطاعة والمكنة ـ ولذا فهي تضطلع بالدور التوعوي الذي ينطلق من حقيقة (أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة ) .

فلم تغفل المرجعية عن توجيه النصح والإرشاد للحكومة بالاهتمام بصحة المواطنين ، كما أوصت الأطباء بعدم المتاجرة بالمرضى من خلال رفع الأجور ، كما طالبتهم بتوفير الخدمة للمراجعين من دون تفريق بين غني وفقير . ونقلاً عن الشيخ مهدي الكربلائي في خطبة الجمعة ليوم 11 رمضان المبارك المصادف 17 / 6 / 2016 أن سماحة المرجع السيستاني (دام ظله) التقى بنخبة من أطباء النجف الأشرف وأوصاهم بالخدمة الجيدة للمريض والاهتمام بدقة التشخيص الطبي والتعاطف مع المريض بإشعاره بالرّحمة من خلال استخدام العبارات والكلمات الطيبة التي تبعث في نفسه الأمل بالشفاء ، كما أهاب بالطبيب بان تكون غايته العمل على شفاء أكبر قدر ممكن من المرضى وإنقاذ حياتهم ليكتب له بذالك الأجر والثواب ، وان لا تكون همته تحقيق الأرباح المالية من خلال المتاجرة بصحة المريض ([49]) .

كما للمرجعية دور جدير بكل تقدير للتصدي للظواهر والممارسات غير الحضارية التي تضر بالبيئة العراقية ، وقد أعلنت وزارة البيئة يوم الجمعة  9 / 9 / 2016 بان عدداً من المراجع الدينية قد أصدرت فتاوى لتحريم رمي وحرق النفايات والصيد الجائر وتصريف مياه المجاري في الأنهر ورمي النفايات في الشوارع والأماكن العامة لتأثيرها على صحة الإنسان وبيئته ، فبعض الصيادين يستعمل المبيدات الكيمياوية والمفرقعات والصعق الكهربائي ، وان استهلاكها من قبل المواطنين يؤدي الى انتقال المواد الكيمياوية الى الإنسان المستهلك ويسبب له أمراضاً خطيرة ، أما عملية الصيد الجائر للطيور فتؤدي الى قتل أنواع نادرة من الطيور وتهددها بالانقراض وتتسبب بانهيار التوازن البيئي .

وحسب تصريحات مديرية صحة النجف أنها خاطبت سماحة السيد علي السيستاني والشيخ بشير النجفي (أعلى الله مقامهما) وأن المرجعية أفتت بحرمة هذه الأعمال واعتبرتها مخالفة للقانون الذي وضعته الدولة للحفاظ على صحة الناس وسلامة البيئة  ([50]).

الخاتمة :

مما تقدم يظهر لنا جلياً بأن المرجعية تمثل شجرة كبيرة تضرب بجذورها المباركة في جميع مناحي الدولة العراقية ، وسر قوتها يكمن في وقوف أغلب العراقيين تحت ظلها وخضوعهم لتوجهاتها ، وينعمون بظلالها الوارفة ، فهي لهم بمثابة القطب من الرحى .

مما جعل أنظار العالم تتجه اليها والألسن تتحدث عن دورها ومنهم السيد (كوبيش) ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الذي يقول : (تشرفت كثيراً بلقاء سماحة السيد السيستاني وأنه لشرف لي شخصياً ولنا في الأمم المتحدة) ويضيف بأن (سماحة السيد والمرجعيات الدينية يراقب الوضع العراقي بإهتمام ، ويأسفون لما وصل اليه الوضع في العراق ، وأنهم يتدخلون ان وجدت ضرورة لذلك ، وما أخذته من هذا اللقاء أن المرجعية تهتم بما يجري في البلاد وانها ستتدخل اذا دعت الضرورة لذلك) ([51])

وهناك مراقب أجنبي منصف نشرعلى موقع هافينغتون مقالاً بعنوان : (بعد مرور سنة على فتوى الجهاد للسيد السيستاني : الرجل الذي سحب العراق من حافة الهاوية ببيان واحد) يقول : كان لي شرف اللقاء بالسيد السيستاني الرجل الذي حافظ بمفرده على وحدة العراق عندما كان على وشك أن يتمزق !!.

ويرى بأن دعوة آية الله السيد السيستاني في عام 2014 للمساعدة في إعادة بناء القوات المسلحة العراقية بعد إنهيار الموصل ليس أول تدخل إيجابي قام به ، فعلى الرغم من أنه لا يميل لإشراك نفسه في سياسات العراق اليومية ، ولكنه عندما يتحرك فانه يتحرك بحسم بما يعود بالنفع على جميع العراقيين . كانت دعوته لتشكيل الجبهة الوطنية بعد تغيير النظام عام 2003 مفتاح البدء للعملية السياسية في كتابة الدستور العراقي ، كما ساعد في نزع فتيل الفتنة الطائفية بعد تفجير مرّقد الإمامين العسكريين في سامراء من قبل تنظيم القاعدة في عام 2006 . ولعب دوراً هاماً في تأمين إنتقال سلس للسلطة في الانتخابات العامة ، وكسر الجمود السياسي في عام 2006 وعام 2011 ، وواصل السيد السيستاني توجيه الجمهور من خلال ممثليه أثناء صلاة الجمعة بالدعوة الى الوحدة ، ومحاربة الفساد ودعم النازحين داخلياً ، ومكافحة النزعات الطائفية والكثير من الشخصيات العامة الغربية اهتموا به ورشحوه لجائزة نوبل بسبب جهوده لحفظ السلام ) ([52]).

فالمراجع يفرضون إحترام الآخرين لهم بأسلوب تفكيرهم الناضج والمتوازن المنطلق من ثقافة واسعة الأرجاء عميقة الأغوار ولما يمتلكونه من رؤية واضحة وحكيمة تعي ما هو كائن وما يجب أن يكون ، وترصد رياح التغيير العاتية التي تهب على العراق من كل صوب.

 

[1]  . جعفريان ، رسول ، التشيع في العراق وصلاته بالمرجعية وايران ، ص 77 .

 

[2] . الجبوري ، هادي ، الشيعة والخوئي / جهاد واجتهاد ، ط 1 عام 1997 م ، الناشر المؤلف ،  ص 22 .

 

[3] . انظر الرابط :   : http://www.qanon302.net/in-focus/2016/07/27/88166

 

[4] . كتاب : المرجعية الدينية وقضايا أُخرى / حوار صريح مع سماحة المرجع الديني الجليل السيد محمد سعيد الحكيم /الطبعة الأولى 1419 هـ ـ 1998م /مطبعة ستارة ـ ص 39 ـ 40 .

 

[5] . عن النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني دام ظله في المسألة العراقية ،إعداد حامد الخفاف ، تمهيد الطبعة الأولى ، بيروت ـ لبنان الطبعة السادسة . وهذا الكتاب، يجمع كل ما صدر عن سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، أو عن مكتبه في النجف الأشرف، حول المسألة العراقية، من فتاوى، وبيانات، ورسائل، ومقابلات صحفية، وتصريحات، منذ سقوط النظام السابق في 9/4/2003 .  

 

[6] . المصدر السابق ، تمهيد الطبعة الثانية  .

 

[7]  . عن الرابط : http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=560161

 

[8] .عن الرابط :  http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=557310

 

[9] .  مركز الاعلام الدولي التابع للعتبة الحسينية المقدسة زار السفارة الفرنسية في بغداد يوم الاربعاء 20 / 10/ 2016....

 

[10].عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم (2) جواب مكتب السيد السيستاني لسؤال وكالة رويترز عن رؤية سماحته لمستقبل الحكم في العراق .

 

[11]  . عن النصوص الصادرة ، وثيقة (7)  جواب مكتب السيد السيستناني عن السؤال (1) لمراسل وكالة أنباء أسوشيتد برس الأمريكية عن ما هي الحكومة التي تريدون في عراق ما بعد صدام حسين وكيف يجب أن يتم تشكيلها؟ هل ستلعبون دوراً فيها؟ .

 

[12] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم :52  ، جواب السيد محمد رضا السيستاني في  21 / 12 / 1424 هـ .

 

[13]. أنظر :  النصوص الصادرة ، وثيقة رقم 22 ، من أسئلة جريدة الاقتصاد اليابانية ، وجواب مكتب السيد السيستاني في 28 / جمادي 1 / 1424 هـ .

 

[14] .  موقع مكتب السيد السيستاني / البيانات / تاريخ الرسالة في 17 / ربيع الثاني / 1425 المصادف 6 / 6 / 2004 .

 

[15] . موقع مكتب السيد السيستاني / رسالة جوابية الى السيد الأخضر الابراهيمي تتضمن الموقف من قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية / 27 محرم 1425 في 19 آذار 2004 .

 

[16] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة (19)

 

[17]  . عن المصدر أعلاه ، وثيقة رقم (20) عن سؤال لصحيفة سان فرانسيسكو ، وكان جواب مكتب سماحته بتاريخ 14 جمادي الاول 1424 هـ .

 

[18].عن المصدر أعلاه ، وثيقة رقم (17) عن سؤال لصحيفة (لوس انجلوس تايمز) ،وكان جواب مكتب سماحته في 2 / جمادي الاولى / 1424 هـ .

 

[19] . عن المصدر السابق ، وثيقة رقم (25) ، عن سؤال لصحيفة بايونير الهندية .

 

[20] .  موقع السيد السيستاني / بيانات / في 19 ذو القعدة 1429 هـ المصادف 18 / 11/ 2008 م .

 

[21] . عن النصوص الصادرة ... رقم 113 ، الجواب بتاريخ 3 / 3 / 1434 هـ  .

 

[22] . عن النصوص الصادرة ...رقم 53  .

 

[23] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم (7) عن سؤال لوكالة برس الأمريكية .

 

[24] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم (33) من ضمن أسئلة صحيفة أوبزرفر الفرنسية ، وجواب مكتب السيد السيستناني في 1 / رجب/ 1424 .

 

[25] . عن المصدر السابق ، وثيقة رقم (112) ، بتاريخ 22/3/1432 هـ ، المصادف 26 / 2/ 2011 .

 

[26]  . رسالة السيد السيستاني للشعب العراقي في (22) جمادي الثاني 1427 هـ .

 

[27]  .  المصدر :مكتب السيد السيستاني (دام ظله ) النجف الأشرف في 14 محرم الحرام / 1428 ، المصادف 3 / 2 / 2007 .

 

 

.  عن وكالة رووداو يوم 30 / 9 / 2016 [28]  

http://www.faceiraq.net/inews.php?id=5118739

 

 

.[29]  http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=609857

 

[30]  .عن وكالة نون الخبرية ، يوم 26 / 8 / 2016 .

 

[31] .  موقع السيد السيستاني / تصريح المتحدث الرسمي لمكتب السيد حول فاجعة جسر الأئمة في الكاظمية بتاريخ 25 رجب 1426 هـ المصادف 31 / 8 / 2005م . 

 

[32] .  أنظر : رسالة السيد آية الله السيستناني (دام ظله) التي وجهها للشعب العراقي في (22) جمادي الثاني 1427 هـ عقب نشوب الفتنة الطائفية عام 2006 .

 

[33] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم (45) ، صادرة عن مكتب سماحة السيد السيستاني في 13 ذي القعدة 1424هـ .

 

[34]  .عن المصدر السابق ، وثيقة رقم (96) ، صادرة عن مكتب سماحة السيد في 4 / رمضان / 1427 ، وهي أجوبة عن أسئلة مجلة (فور سايت) اليابانية .

 

[35]  . موقع السيد السيستاني / بيان سماحته  حول الانتخابات المقبلة / في 2 ربيع الأول 1431هـ .

 

[36]  .(موقع السيد السيستاني / البيانات / في 21 / 1 / 1430 هـ المصادف 18 / 1 / 2009 م .

 

[37]  .عن النصوص الصادرة ، الوثيقة رقم (53) ، وجواب مكتب السيد في 24 ذي الحجة 1424 هـ .

 

[38] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم (1) ، والفتوى صدرت في 29 / محرم / 1424 هـ .

 

[39] .عن المصدر السابق ، الوثيقة رقم (4) ، والفتوى صدرت في 25/ صفر / 1424 هـ .

 

[40] .  عن الرابط :

http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=574667

 

[41] .  عن وكالة موازين نيوز الخبرية ، الرابط :

http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=565127

 

[42]http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=609123

 

[43]   .  عن وكالة نون الخبرية / ليوم 12 / 8 / 2016  .

 

[44]http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=595637

 

[45] . عن النصوص الصادرة ، وثيقة رقم (52) ، انظر : جواب محمد رضا السيستاني في 21/12/ 1424 هـ  ، عن سؤال حول الاعلام .

 

[46]  .لمصدر السابق ، وثيقة (118) ، مكتب السيد في 11/5/ 1435 هـ .

 

 

.[47] . من خطبة ممثل المرجعية الدينية العليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكر بلائي للإعلاميين بالعتبة الحسينية المقدسة  يوم  الثلاثاء   6  / أيلول عام 2016 ، عن وكالة نون الاخبارية .

http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=615112

 

[48] . عن الرابط :

  http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=623191

 

[49]  . وكالة موازين نيوز ، بتاريخ 17 / 6 / 2016 عن خطبة الجمعة من قبل ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي ، الرابط : http://newsaliraq.com/inews.php?NewsID=560149

 

[50]  . وكالة شفق نيوز ليوم 9 / 9 / 2016 ، الرابط :

http://www.ara.shafaaq.com/92399

 

[51]  .عن وكالة نون الخبرية ليوم 30 / 5 / 2016 .

 

[52]  . عن مركز البيان للدراسات والتخطيط ، قسم الترجمة والتحرير ، إعداد : لؤي الخطيب ، 14 / 6 / 2015 ، عن موقع هافينغتون