صناعة الهوية الثقافية أثر الثقافة الراهنة في روايات علي بدر

د.عزيز حسين علي الموسوي

جــــــــــــامعــــــــة المثنى/ كــــــــــلية التربية

الملخَّص :

هذا البحث قراءة ثقافية في روايتين للروائي العراقي على بدر، تبحث في اثر الثقافة الراهنة في إنتاج هذين النصين، وترصد اثر المثقف في إنتاج ثقافة جديدة للمجتمع، تتجاوز الثقافات الشعبية المرتبكة التي تعكس التحولات الفكرية والاجتماعية والثقافية الطارئة للمجتمعات، التي لا تمثل ثقافة أصيلة فيها, لأن المثقف ينتج الثقافة لا يعيدها ولا يكررها.

الروايتان هما حارس التبغ وبابا سارتر، تناول البحث فيهما الإشكاليات التي برزت وتجلت من خلالها الآثار المباشرة للثقافة المعاصرة في الإبداع الأدبي الروائي، من استعمال التأريخ الشعبي، تأريخ الناس واعتماده وثيقة مباشرة في الكتابة، من دون تخييل للتأريخ، إلى كشف إشكاليات الثقافة المعاصرة في بناء ثقافة الذات الواصفة في بناء السرد، إلى رصد إشكاليات اثر الثقافة المعاصرة في بناء ثقافة الذات الموصوفة، ثم إلى رصد تجليات الثقافة الشعبية في النص المدروس، من اللغة العامية إلى التقريرية في الأسماء والإحداث والأفكار.

A research a cultural reading

concerning two novels for the novelist Ali Bader, searches the contomparory culture in giving the two texts, it sheds light on the educator's trace in order to emerge new intellectuality to the society, overcome national bemused cultures which reflects the  social , intellective cultural and accidental change to the societies that the two novels " tobacco ranger and dad " represent an origonal culture within them, since the educator produce culture, niether repeat nor copy.

Sarter tackles the paper he states the problematics that appear due to all the direcct modren results evinced in the literary innovation of novels from using national heritage,history of people and depending on it in writing without imagning the history leads to problematics in modren culture in building descreptive self-culture in narrating construction, that looks at the trace of the problematics of culture in self-building,then to find out the cultural in national intellectuality in studied discourse from slang to reportorial in names , events and thoughts

المقدمة:

تتحول المجتمعات، في ثقافتها وسياستها وحالتها الاجتماعية، وتمر بمراحل من الثقافة فيها الاصيل وغيره، فيتحول الادب معها, لانه انتاج مجتمع وحياة، والاديب يعيش مع ابناء مجتمعه وينتمي اليهم، ويكتب بلغتهم، ويشاركهم في انتاج الثقافة، بناء ثقافة جديدة يشارك في صنعها، وربما تنحدر ثقافات المجتمعات وتصل الى مرحلة  من الاضطراب تحتاج فيها الى خلق المبدع وانتاجه الجديد لها.

فالأدبية ليست اعادة الثقافة وتكرارها، بل هي اعادة انتاج الواقع وتقديمه بصيغة تتناسب مع التفكير النخبوي العالي، تستلهم الشعبي فتعيد انتاجه وتقدمه بلغة صافية وسرد عال، والاديب عندما يكتب للشعب ينبغي له ان يكتب بعيدا عن الغوغاء والابتذال، فهو يثبت الذاكرة الجمعية ويعطي الثقافة المكتوبة شرعيتها، لذلك عليه ان يتحول بذاته الفردية الى ذات كبرى جماعية تعكس مرحلة ثقافية عامة.

والرواية اكثر الانواع الادبية مناسبةً لقراءة ثقافة المجتمع وتحولاته, لأنها تعد مجالاً مهماً لمعرفة الذات، فهي ادب اعترافات تكشف الذاتية، وتكشف الغيرية والاخر، وقد مثل على بدر في روايتيه المدروستين، نسقاً ثقافياً مهماً، جعل نصه يصلح للقراءة الثقافية الهادفة، إذ عاد بالروايتين الى حقبة زمنية ماضية، ووازن بين المرحلتين ثقافياً، وهذا ما سيجري كشفه في المباحث القابلة في البحث ان شاء الله.

مدخل الكتابة والثقافة

      لقد بات من نافل القول أنَّ الأدب إنتاج تكويني كبير، يرتكز في بنائه على فواعلَ عدّة، أساسها وفاعلها الأهم، الثقافة، وبات من نافل القول أيضاً أنَّ الكاتب ينبثق من سياق ثقافي عام،" فلا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي يشتبك بها, ذلك أنَّ أدبه يقوم بمهمة تمثيلها، وبيان موقعه فيها"([1]).

      وطالما جاءت الكتابة في سياق فني متساوق مع الثقافي والاجتماعي والسياسي، تنهل منه وتتوجه ببعض موجهاته, لأن الأديب المنتج لأدبه يحاول صهر جماعية الثقافة العامة في ذاته الخاصة ويتمثلها كلّية في عمله، وهو بهذا مدفوعٌ بالبحث عن الهوية، وهذه حاجة جماعية تأتي من المشاركة والتواصل والانتماء، والاتفاق على رموز وإشارات وتوجهات مشتركة معروفة، هي " الرموز والإشارات الخارجة عن الحالات الذهنية الفردية بالتحديد"([2]), وهي الحالات الجماعية التي تكون جزئيات الثقافة التي تكوّن الكل الذي ينهل منه المبدع/الكاتب.

      من اللافت للنظر توجه الكتابة العربية الراهنة في جنسي الشعر والنثر هذا التوجه في الإنتاج، في الشعر جاء شعر العقد التسعيني منجرَّاً إلى الإلحاح على الوصف التفصيلي لوقائع الحياة, إذْ كانت القصائد مولعة برصد الحياة اليومية، وتصوير العوامل المخيفة فيها، ولم يكن هناك قلق منه، وكان الشعر يعكس تداعي الأزمة فيها([3])، فنقل الثقافة في مفرداتها الواضحة الراهنة من دون تغيير، ومثله الرواية، إذْ ظلّت ترصد الخراب العراقي في أزمات الديكتاتورية والحروب والاحتلال والعنف، ناقلة الصراع الدموي وتحولات المجتمع وثقافته على بشاعتها، ترصد الأجواء الشعبية وتستعمل اللهجة العامية في تراكم أفقي للحوادث، وتنهل من الثقافة في جميع تفاصيلها([4]).

      إذْ عكست الكتابة العراقية الواقع العراقي بنوره وظلمته، وعنفه وحروبه، وهذا إنجاز حسن، لكنه انتقل بالكاتب إلى منطقة حرجة، لا ينبغي له الذهاب إليها، فالثقافة على الرغم من أهميتها في إنتاج الإبداع لا يمكن أنْ تطغى على إرادة المبدع وتوجهه كليّاً، وترسم له خطوط إبداعه مسلوب القوة في تحويرها وتوجيهها, لأنه الأديب، والأدبية تقوم على إعادة إنتاج للمرجعية الواقعية وصوغها([5]), وليس نقلها على نحو حقيقي تام.

      الفضل في تخيّر المناسب من الثقافة الموازية، وتثبيت ما يريده الكاتب وتكريسه وإخفاء سواه، الذي يثبته الكاتب هو الخالد، غير الطارئ من حالات الثقافة, لان المجتمعات تمر بحالات طارئة في ثقافتها واُخرى أصيلة خالدة جوهرية، وثمة فاصل بين الشعبي والجماهيري وبين النخبوي العالي، وليس كل ما موجود في الثقافة هو مادة للأدب التي تشكل الوعي النهائي للناس، إنّ تأريخ الوعي الجمعي يصاغ من قِبل أفراد أذكياء بطبيعتهم أصحاب قدرات خلاقة، يمتلكون المقدرة على التأثير في جسد الجماعة بغية تطويعها، يمتلك هؤلاء المقدرة على تحريك المتخيل الجماعي وتغذيته([6]).

      ليس الثقافة من تنتج الكاتب كليّاً، فالكاتب هو من ينتج الثقافة في مجتمعه الذي يعيش فيه، وهو الذي يحرك الأفكار ويثبت الرؤى الأصيلة لينتج ثقافة النخبة الواعية، والكاتب لا يلتقط كل ما تقع عليه عينه، ولا يؤرخ للأشياء, لأن " الرواية خطاب جمالي تُقدَّم فيه الوظيفة الجمالية على الوظيفة المرجعية"([7])، لا تكون الغلبة فيه للشعبي والتأريخي والسياسي، وكأنه نقل مباشر ودقيق للواقع، والمثقف هو من ينتج الثقافة للآخرين، لا يعيد ثقافتهم ويشَّرعها ويثبتها.

      لابد لمن يفتش عن الثقافات، في أصيلها وطارئها، وفي عُقَدِ المجتمعات، أنْ يدرسها في الرواية، ويفتش عنها فيها, لأنها العمل الإبداعي الأمثل لكشف الثقافة وبنياتها وال(غيرية) فيها، إذ استحالت الرواية العربية الحديثة إلى أدب الاعترافات([8])، يمكن من خلالها قراءة المجتمع وثقافته، لـ" وظيفتها في تكوين المعرفة حول الواقع الاجتماعي والثقافي، ورصد تحولاته"([9]), ولا سيما إذا ما كانت الرواية تستند في كل شيءٍ إلى هذه الثقافة، فلا بد للرواية أنْ تعيد قراءة الواقع وتعيد إنتاجه بحسب رؤية الكاتب ورغبته في إنتاج الثقافة العامة، وسحب الشعبي والهامشي والجماهيري إليها، لا أنْ تنسحب هي إلى ذلك.

المبحث الأول : التأريخ الثالث

يلتقي الكاتب بمادة توثيقية وصفية في اكتشافه لعناصر المواد الخام التي يسعى إلى بناء نصه الروائي منها، هذه المادة هي التأريخ، وهو في نوعين: أمّا أن يكون التأريخ الرسمي المكتوب، وهو التأريخ الأول، وأمّا تأريخ الذاكرة، الشفوية الجمعية، تأريخ الناس، وهو التأريخ الثاني، الذي ينبغي للكاتب إنتاجه وخلقه هو التأريخ الثالث، وهو مجموع من التأريخ والخيال، وهذا هو التخيل التأريخي الذي قال به عبد الله إبراهيم، وهو المادة التأريخية المتشكلة بوساطة السرد، لا يحيل الكاتب فيها على حقائق الماضي، ولا يقررها، ولا يروج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه ([10])، أمّا إذا اعتمد التأريخ مادةً خالصةً في بناء نصه، ونقله بتوثيقيته ووصفيته، فقد صار ينقل الثقافة المتوافرة عنده بلا تحكّم فيها، وصارت تطغى عليه وعلى إبداعه، وتكون مظهراً من مظاهر هيمنتها عليه، ولا سيما إذا كانت الثقافة تمر بمرحلة من مراحل ارتباكها، أو عدم صفائها.

ثمة تعارض بين البعد المرجعي والبعد اللفظي، أي في كيفية تحول المرئي إلى مقروء([11])، وهنا تكمن القضية الحساسة في الكتابة، وهي الفصل بين المشهد اليومي والبعد اللغوي له، بين الموضوعي والذاتي، فالتخيلات التأريخية منشطرة بين صيغتي التعبير: الموضوعية والذاتية، فهي" نصوص انفصلت عن سياقاتها الحقيقية، ثم اندرجت في سياقات مجازية"([12])، وتحولت من اليومي المتناثر في مشاهد الحياة إلى الإبداعي السردي، إذ لا ينبغي إتباع التصوير المباشر للأشياء على إنها الأدب، فالثقافة ليست كلها مادة مباشرة له، وهذا ليس بالأمر السهل اليسير, " إذ تحقق الرواية، مجدداً، رغبة الانتصار للذاكرة الجماعية، عبر تثبيتها في تنويعات مجازية عديدة، وعلائق شكلية وموضوعية مختلفة"([13])، على الرغم من كون هذه الذاكرة قد تكون توهمات الذات أو مشكلاتها أو ظواهر طارئة في تأريخ الثقافة.

لقد واجهت روايتا علي بدر المدروستان هذا السؤال الكبير، فيما إذا كانت تنقل حقيقة المعاني في صراعات مرحلتها وإشكالياتها، أو تستعمل العلامات الدالة فحسب، لتبني ثقافة خاصة وتصنعها، لا تنقل الثقافة الراهنة.

أول الأمر ما جرى في رواية حارس التبغ, إذ يستمد الكاتب فكرة كبيرة راسخة في ذاكرة الناس ومخيلتهم الشعبية، هي إنَّ تأريخهم الحديث وتحولاته، وسياستهم، تدار من قبل الغرب، وإنهم أدوات لتنفيذ تفكير الغرب فيهم، الذي صنع لهم رموزاً كَبُرت وتلاشت بإرادته، ووضع لهم خطوات حياة لها ملامح خاصة، يقول: " فكثيراً ما نتوهم إننا ندير اللعبة غافلين عن انها هي التي تديرنا، وكثيرا ما نتوهم اننا ننتج قيماً مضادة لتلك التي نشأنا أو أنشأنا أنفسنا على معارضتها..ولكننا في الواقع نستسلم لها"([14]), فقد جعل الكاتب حياة بطله تتحول في ثلاثة مرات، هي متطابقة بنحوٍ أو بآخر مع حياة الوطن، فسيرة البطل هي سيرة الوطن، إذ تتطابق السيرتان  مع نص عالمي غربي كبير، كُتِبَ في وقت آخر ومكان آخر وبيد اخرى، هو نص قصيدة دكان التبغ للشاعر البرتغالى بيسوا، وصورة (التبغجي) فيها،  يقول: " حين زرت منزل كمال مدحت في المنصور، أثناء التحقيق في مقتله، وجدت كتابين (...) الأول هو مذكرات عازف الفيولون الفرنسي ستيفان غرابيلي، وكتاباً آخر باللغة الانكليزية، أحمر الغلاف، مرمياً على طاولة صغيرة من خشب الساج في حجرته، وهو ديوان دكان التبغ للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا، وقد علق على القصائد بقلم الرصاص تعليقات وشروحاً كثيرةً"([15])، الحياة مقتبسة بتحولاتها من حياة وسيناريو مرسوم ومراحل وتحولات دقيقة واضحة تتطابق مع حياة صنَّفها غيرنا، يقول: " السلطة تقرر ذلك، المخرج هو الذي يقرر، انه مسرح كبير يحدث فيه على الدوام التباس الشكل بالمعنى (...) إنها ليست سوى أداء ممثلين ...لم يكن قبل يومين سوى الموسيقار العراقي حيدر سلمان، اليوم أمر آخر ..عليه أنْ يجد لنفسه أداءً آخر، المسرحية القديمة قد انتهت، سيدخل عالماً جديداً"([16]).

استمد الكاتب هذه الفكرة من فهم مستقر عند العامة شكل مفردة من مفردات الثقافة، هي أنَّ الغرب هو من يصنع لنا حياتنا ويرسم مراحلها المفصلية على نحو دقيق، حدث في تحولات التأريخ العراقي الحديث، وصناعة رموزه السياسية والاجتماعية، في سيناريو محكم، فحياتنا متطابقة مع ما يرسمونه، يقول: " يقدم بيسوا في دكان التبغ ثلاث شخصيات مختلفة، وهم عبارة عن ثلاث حالات تقمص، كل شخصية من هذه الشخصيات المخترعة هي وجه من وجوه بيسوا (...) وهكذا قد فعل كمال مدحت، فكانت له ثلاث شخصيات، كل شخصية لها اسم، وعمر، وملامح، وقناعات، ومذهب مختلف عن الشخصيات الاخرى"([17]).

نجد مطابقة لافتة للنظر بين حياة بطل قصيدة بيسوا وحياة بطل رواية حارس التبغ، في مراحلها وتحولاتها، مطابقة تامة، قصدية، في فكرة لدى عامة الناس، أو لدى قدر كبير منهم على الأقل، وهي جزء من ثقافة عامة استوحى الكاتب بعض جوانبها في بناء رؤيته ونصها، صرح بها الكاتب في غير موضع.

الرواية نص ثقافي ينبني على عناصر عدة، تستمد الثقافة والواقع اُسَّاً لها، لكن المهيمن المرجعي الذي يطغى عليها ينتجه وعي المؤلف، لا تنتجه العامة، ما حدث لعلي بدر في روايتيه المدروستين انه نقل الثقافة الراهنة حتى صارت روايته " تنتمي إلى الروايات التسجيلية أو التأريخية"([18])، وربما اعتمدت على وصفية التأريخ وتسجيليته على نحوٍ كبيرٍ.

وفكرة اخرى في الثقافة الراهنة، مفادها إننا نقوم بالحرب بالنيابة عنهم، وندافع عن مشاريعهم، بعيدا عن ديارهم، لخصها الكاتب بفكرة أل (بلاك رايتر)، يقول:" اتصلت بي صحيفة التودي نيوز الأمريكية، وطلبت مني الذهاب إلى بغداد، وكتابة ريبورتاج من ألف كلمة عنه على أن لا ينشر هذا الريبورتاج باسمي إنما باسم جون بار، وهو احد المراسلين المهمين في الصحيفة، وهو ما يطلق عليه في العمل الصحفي البلاك رايتر، وهو كاتب يذهب إلى المناطق الخطرة لكتابة تقرير صحفي عن موضوعة ساخنة لكن التقرير ينشر باسم احد الصحفيين الكبار في الصحيفة"([19]).

ترسخت هذه الفكرة في الثقافة العراقية الراهنة بوصفها طريقة جديدة للاستعمار، أو لتدمير المنظومة الاخرى، العربية أو الإسلامية، أو لمحاربة الإرهاب، في هذه الأرض البعيدة، ارض العرب او الشرق، وهذه الفكرة كانت تستفز الكاتب، وتغضبه- فكرة البلاك رايتر- يقول: " هل دورك في هذا الكتاب عن كمال مدحت هو بلاك رايتر؟ قال لي. "لا .. أبدا .. سيكون الكتاب باسمي هذه المرة" قلت له ذلك (...) أنت تعرف إني كتبت العديد من التقارير باسمهم، لكن هذه المرة أريد أن اكتب هذا الكتاب باسمي"([20])، وكأنه يرد على الغرب أو الاستعمار له، ولبني جلدته، فعمله وإنتاجه تكون ثمرته لهم وباسمهم, فكرة النيابة عنهم، وفكرة التحرر منها، مرجعيتها الثقافة الشعبية والنخبوية المعاصرة، وفهمها للتأريخ، نقلها المؤلف بوعي الناس لها.

لابد من قراءة جديدة للأحداث، الرواية لا تنقل الحدث بل تعيد إنتاجه، على وفق تصورات المثقف (الكاتب) للأحداث، وتعيد ترتيب قيم الذات، تثبت ما تثبته وتترك ما سواه، لتأسيس خيال جمعي جديد ينقل جماليات الإبداع الروائي، مع شروط الوعي الثقافي الكاتب, لان الرواية تؤوِّل العالم لا تنقله.

تَكَررَ استعمالُ التأريخ لا بوصفه مادة للسرد، بل بوصفه تأريخاً بزمان ومكان بلا تخيل ولا كثير من الطاقة الأدبية فيه، يقول مخاطباً زوجته فريدة: " تصوري إنَّ الجماهير تصفق للزعيم قاسم وتقول له: "  أعدم..أعدم..لا تقول ما عندي وقت" بغداد بعد الثورة قد تغيرت، لقد أحدثت الثورة زيادة في النزعة الشعبية والجماهيرية وهيمنة الغوغاء على الشارع (...)، أما الثورة فلا تفعل شيئاً للناس على الإطلاق، ذلك أنَّ البيوت متداعية وسط سحب من الغبار الامغر، والدكاكين رديئة التجهيز، وهي أشبه بمكعبات ينقصها الوجه الأمامي"([21])، هذا النص مكتوب بتقريرية كبيرة، هو تأريخ فحسب، يصف زمناً معيناً على نحو من التفصيلية العلمية، وهذا مُشكِلٌ, إنَّ الاختلاف في الكيفية التي يتعامل بها المبدع مع التأريخ التي يمزج فيها بين الحقيقة التأريخية والعلامات الدالة، أهم ما يُنظر إليه في بناء النص الروائي الذي يستعمل التاريخ مادةً له, لا أنْ يوردَ التأريخَ دقيقاً مفصلاً.

في رواية بابا سارتر، استلهم المؤلف فكرة من الثقافة العامة المعاصرة، فكرة قد تكون شعبية، وقد تكون نخبوية أيضا، هي أنَّ الغرب يفهمنا جيداً، ويسيرنا من حيث لا نشعر، ويتركنا نعيش حالة من تصديق أنفسنا، باننا نخدعه أو نتغلب عليه، والحقيقة ( في الثقافة العامة) أنه يتظاهر بتصديقنا، يقول: " إلا إنها( الفرنسية) تظاهرت بتصديقه، والإيمان بفلسفته، وجنونه، وحماقاته، وهي أحياناً بعد أن تنزلق من السرير لترتدي (...) وسط الحجرة، تعترف له بأنها هي أيضا شعرت بشيء غريب غير معقول (... ) غثيان"([22]).

كانت تخدعه، تتظاهر بتصديقه ومشاركته الفلسفة والإحساس، وهي على العكس من ذلك، فهي الغربية التي تسايره.

فكرة أنَّ الغرب يتظاهر بتصديقنا في ثوراتنا وأفكارنا وسلوكنا السياسي، فكرة مستوحاة من الذاكرة الشعبية التأريخية، التي استلهم الكاتب بعض جوانبها.

ومن التاريخ ما وَظَّفَهُ الكاتب، وهو من الثقافة أيضا، انه أراد أن يكرس حَسَنَةَ في تأريخ وطنه في يوم من الأيام، وهي توافق أبناء الوطن، وابتعادهم عن العنصرية والفوارق الدينية والقومية، يقول: " في الواقع لقد أصبح الاثنان، عباس فلسفة وسلمان أهم مثقفي الستينات فيما بعد، الأول: كان قد تزوج من كركوك إلى بغداد، ليصبح شاعرا (...) وكان يسمي سارتر ذلك الوقت بـ(كاكا سارتر). أما الآخر فقد جاء من الشطرة إلى بغداد بقليل من المال، ليدرس في الجامعة"([23])، إذ جمع الكاتب ابن الشمال بابن الجنوب في وسط الوطن الواحد، وقد كرس هذه الفكرة – تأريخ وحدة الوطن – من خلال مكوناته الأساس، وهي ثقافة راهنة، أو مطلب ثقافي راهن، عندما جعل بطلها الذي تحول بين (اليهودي والشيعي والسني) يصادق الكردي، وكأنه – الكاتب – لم ينس (المكوِن) الكردي، على لغة الثقافة الراهنة، وبتقريرية واضحة.

يغترف الكاتب من تاريخ الناس مجددا، من الثقافة الراهنة والتأريخ، وهي فكرة ذوبان الأديان والطوائف في وطن واحد، واختفاء الفوارق بينها، يقول: " مسيحية...ها. مسيحية وتحبين مسلم؟" قال. صمتت. لم تشعر بأي ارتباك، (...) كنت أظنك لا تفرق بين مسيحي ومسلم" – " وأنت لا تفرقين؟" – حين أحب لا افرق... الحب لا يفرق"."([24]).

هذه ثقافة تواجه الثقافة الطاغية في العصر الراهن، لكن بتقريرية ودافع معروف، فالحادثة التأريخية أو الثقافة التي سادت في تأريخ معين لا تطرح بحادثتها، ولا بصورتها الحقيقية، بل بسردية وتخيل، بما يبعدها عن التقريرية.

المبحث الثاني : ثقافةُ الذاتِ الواصفةِ

الرواية هي النص الأحسن، والمجال الأفضل لدراسة الثقافة وحيثياتها, لأن الرواية أدب اعترافات([25])، تشكل الذات بنحوٍ أو بآخر، والمجتمع، فهي تعطي المعرفة الكافية حول الواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع، وكشف تحولات تأريخه وانقلاباته، ثم لمعرفة الآخر, لان فضاء الرواية هو " الفضاء الأمثل لتحقيق الـ(غيرية) بمختلف تجلياتها، فهو فضاء امثل, لأنه يحتضن الصلات المشكلة لموضوعات الصراع والحب والعنف والصداقة والأحقاد والرغائب ذات الطبيعة الاجتماعية والنفسية والفكرية، من هنا يصبح الأجدى الحديثُ على "مجتمع السرد"."([26])، لا الحديث على شخصيات وزمان ومكان وحدث وحوار يقوم عليها السرد، ومجتمع السرد هذا هو المجال الأجدى لفهم الغيرية والذات والثقافة.

كشفت روايتا علي بدر المدروستان عن مشكلات ثقافية واجتماعية مهمة، تعكس ثقافة المجتمع في مرحلة الكتابة، وتعكس الاتكاء الكبير على هذه الثقافة في إنتاج النص الروائي، مشكلات في الذات التي تصف الأشياء، وبما يلفت النظر، أولها قضية الذكورة والأنوثة، والنظرة إلى الآخر بوصفه المؤنث كثيراً، وهذه جزئية من الثقافة, إذ جاء اللقاء بالآخر في هاتين الروايتين يدور في حدود الأنا ذكر والآخر أنثى، وينتهي بغلبة الأنا (جسدياً) واستغلاله الأخر غالباً.

التركيز على تقديم الآخر جنسياً يكشف سمات الواصفة، لا سيما إذا كان الوصف من نوع الانتشاري، وهو ذلك الوصف" الذي يراكب الأشياء والمشاهد واللوحات، بشكل يسمح له أنْ يصير محوراً مهيمناً يخضع لمشيئته محور السرد"([27])، بما يصنع التشبُّع في النص.

لقد طرح علي بدر في روايته علاقة خاصة بين أنا البطل والذات الاخرى، تقوم على تكريس الرجولة والأنوثة، يتغلب فيها البطل دائماً، ويمتلك الأنثى في كل زمان ومكان، ويظل هو المسيطر في النهاية، فهو يجد المرأة في كل مرحلة من مراحل الأحداث، وكأنها حالة يومية عنده، يمتلكها جسدياً، من دون مسوغ لهذا الامتلاك، إذ نجد الجنس وممارسته في كل مفصل من مفاصل الروايتين([28])، وبما يشير تكريس الذكورة تجاه أنوثة الآخر، وربما يجري فهم الآخر ولا سيما الغربي منه على انه الأنثى أو التفَوق عليه من خلال انتصار ذكورة العربي الشرقي في نوع من إعلان التفوق، وهذه سمة ثقافية في أدب الرواية العربية([29]).        

انتشرت مشاهد النساء في ثنايا الروايتين، من الزوجة إلى بائعات الهوى في الملاهي وخارجها، إلى الصحفيات والموظفات، بما يعكس التشبع بصورة المرأة الرخيصة (الكلام هنا على العاهرات)، في وصف سينمائي يستمد تفاصيله من صورة الراقصة وبنت الليل في الثقافة المعاصرة، التي أنتجتها السينما العربية المباشرة، يقول: " في حين كانت مغنية بدينة، ذات أفخاذ بيضاء، وصدر ممتلئ، وشعر احمر ناري، تتأوه في المايكروفون بصوت مفجوع ودنيا الملهى مقلوبة،(...) وقد كان مولعاً براقصة آثورية صغيرة، يلقبها أهل الملهى، بــ(وزة)، كانت وزة بيضاء متميعة، كل شيء يهتز فيها مع علكتها، صدرها، عجزها..."([30]).

إنّ البغي بوصفها شخصية روائية، تكشف الذكورة في المجتمع([31])، وطغيانها عليه، كما إن الجنس الطافح هنا في النصوص يكشف ثقافةً وعقداً اجتماعية تنتمي إلى الثقافة العامة التي استمد الكاتب بعض جوانبها، وهذا ما نجده في مفاصل الروايتين في الأماكن العامة والرسمية، والمباني المهمة والشوارع والفنادق والمقاهي، ولا يخلو منه مكان أبدا، يقول:" شعرها منسدل على الجانبين، خلعت سترتها، خلعت قميصها وبنطلونها،.. التفت حول جسده (...)، مدَّ يده يتحسسها"([32])، إن الوصف في الرواية " يحدد نوعية الأشياء من حيث دلالتها الاجتماعية، ونوعية تفكير الذات المستحضرة لها، وتكوينها النفسي، وانتماءاتها الطبقية"([33])، وكل ما يشير إلى طريقة تفكير الذات الواصفة وثقافتها، ولا يمكن أن يندرج وصف الجنس والأنوثة، إذا ما تشبّع به النص إلا في إطار أخذه حيزاً في الثقافة التي ينهل منها الكاتب في النص السابق وغيره من النصوص كثير في الروايتين، وهي ثقافة اما ان تكون في اطار النظرة السالبة للآخر الغربي في التفوق عليه وامتلاك أنثاهم وهذا حدث مع النساء الغربيات في الروايتين، وأما ان يدل على عطش ونقص في تحقيق الرغبات الإنسانية والاجتماعية، وهذا حدث للنساء غير الأجنبيات ممن لا يمثلن الآخر، وكلاهما حاصل في الروايتين المدروستين.

وملمح ثقافي اجتماعي آخر، هو تكريس الخمرة وتناولها، والتركيز عليها في بناء السرد، وكأن الخمرة وردت في كل صفحة من صفحات الروايتين، وكأن النص يفرِّغ عقدة وحاجة ماسة آنية إلى حرية الشرب، وهي عقدة في الثقافة المعاصرة، يقول: " في الطائرة كان التزاحم اشد، (...) كنت أتممت شرب علبة البيرة المثلجة ورميتها فارغة في كيس اسود قربي، فالتفت الصحفي الذي اجهل اسمه وسألني فيما كنت أريد واحدة اخرى، فتح سدّادتها وناولني إياها، كان جدارها باردا وعليها قطرات ندى صغيرة"([34])، هذه في الطائرة، وهي حالة تتكرر في أكثر الأمكنة رسمية وعمومية، مثلاً، في مكتب محامٍ مشهور في بغداد، يقول: " قلت بينما كان جواد يصوب نظراته إلى حجرة صغيرة بابها نصف مفتوح، تضوع برائحة الويسكي"([35])، وفي المنازل وفي كل مكان، يقول: ((" ثم نهض من مكتبه واتجه نحو الزاوية، وجاء بكأسين من الويسكي. – " هل تشرب؟" قال – " لا " فناول الكأس إلى نونو"))([36])، لقد أكثر من توزيع حالات الشرب في أماكن كثيرة في الروايتين في حالة تلفت النظر، وتنقل ثقافة مكتسبة من الثقافة المعاصرة للمبدع.

نشر الحانات والمشارب مع تسلسل الأحداث في مراحل الروايتين، يصف (المنطقة الخضراء) في العراق قائلاً: " توجد هنا سبع حانات، وديسكو ليلة الخميس، بار رياضي، حانة بريطانية، حانة فوق السطح تديرها جنرال الكتريك، وحانة مقطورة تديرها شركة بكتيل"([37])، كل هذا يؤشر حاجة ثقافية واجتماعية بارزة في المجتمع، تعاني منها الذات الواصفة، في رغبتها إلى بعض الأشياء، رغبة اجتماعية وتوق إلى الحرية المجتمعية، مصدرها الثقافة العامة للناس، التي نهل منها الكاتب بكرم، من سمات المجتمع، وعامة الناس فيه، ضياع الهوية، إذ يتذبذب الناس بين التمسك بالتراث، وتركه، ولأن الكاتب تأثر بثقافة مجتمعه المعاصرة، وجدناه يتذبذب بين حب التراث وتركه، وهذا يدخل في جدل الهوية الذاتية ثقافياً أيضاً، وهي أزمة ثقافية جديرة بالدرس.

تجسد موقفه المحب للتراث في أماكن عدة، أهمها حالة حب بطل رواية حارس التبغ لــ(فوزية)، ذلك الحب الذي ختم به حياته، ووجد معها الصفاء الذي أغناه عن كل الحب الذي مر به، ولم يوصله إلى ما وصل إليه معها، ومزية (فوزية) التراثية: أنها ابنة الريف النقية، ابنة الحياة العراقية الأولى، الحياة بدرجة الصفر، بإنسان من دون أيديولوجيا ولا توجيه، يقول: " وقد اندهش لرؤيتها، اندهش من بشرتها الطرية الصافية، والبريق اللاصف في عينيها، (...)، لقد أحبها من النظرة الأولى، لقد أحب روحها الفطرية الريفية البدائية التي تطبع كل شيء فيها، (...)، وإن كانت أمية مقهورة، فقد كانت منتشية متلذذة إلى أقصى حد، (...) هذه الروح كانت متوائمة مع الحياة الطبيعية"([38])، هذه سمات تراثية موجودة في تأريخ وطنه، وكأن (فوزية) العودة إلى فطرة هذا الوطن، وأصالته.

يقول في مكان آخر: " كتبت إلى فريدة: ( لقد أحببت هذه الصبية من كل قلبي، لم أكن يوماً مندهشاً أمام امرأة مثلما أنا مندهش أمامها (...) لها معرفة فطرية حتى في الجنس، معرفة لم تفسدها الحياة الحضرية أبداً، هذه الأمية تعلمني الحياة من جديد"([39])، فوزية هذه- التي جاءت من الريف – جاءت بها زوجته نادية، من إحدى القرى، صبية، بوجه اسمر، يقدمها السرد على إنها ارتباط بتراث الوطن وأصالته وخصوصيته الثقافية، يقدمها بصورة الحل والسعادة.

والمجلى الآخر للتمسك بالتراث، زوجته الأولى (فريدة)، إذ أبقى عليها زوجةً في مراحل السرد كلها، على الرغم من انتقاله بين زوجات عدة، وهذا يُقرأ نقدياً تمسكاً بالتراث، وارتباطاً بجذره الأول، لا سيما إنها مَن أعادت الوثائق المهمة والرسائل التي شكلت أساس كتابة حياة الموسيقار وتأريخه.

والملمح الآخر للتمسك بالتراث، عمله على إنتاج موسيقى جديدة مرتبطة بالتراث، يقول: " لقد شعر بفرح كبير، بسعادة طاغية وهو يكتشف هذا العالم، شعر بأنه قادر على إظهار الإمكانية القوية لآلة الفيولون التي تقترب حسب رأيه من الصوت البشري وفي الوقت نفسه يمكنه المحافظة على الخصوصية العربية للموسيقى"([40])، حرص على ربط موسيقاه بالتراث الموسيقي العربي والعراقي، وبحث عنها في هذا التراث كثيراً، يقول: " دون شك.. كان يريد للثقافة العربية تكون حاضرة في موسيقى عربية، أو موسيقى كلاسيكية، وهو يؤلف كان يشعر باشتعال الأصابع بالدفء الروحاني للصحراء"([41])، لكنه وفي الوقت نفسه، كان ينحرف عن التراث والتمسك به، ويستعمل اللغة الأجنبية في عملية السرد، بأن يطلق اسماءً أجنبية على المطاعم  والفنادق والحانات، في الروايتين على نحو عام، في مدن عمان ودمشق وبغداد، وكأنه يكرس اللغة الاخرى.

ونجده يغادر التراث والماضي في مكان آخر، بأن يقطع العلاقة بالآباء، قول: " لقد كره عبد الرحمن أمه كرها لا صفح عنه، ويتفاقم هذا الكره في ظروف القسوة والعنف، لقد كانت أمه اشد الكائنات رقة (...)، إلا انه كان قد انتزعها من طبيعتها الجميلة الهادئة الحميمة عنف ابنها"([42])، هذه المشاعر من الام تُقرأ مشاعراً بإتجاه الماضي والتراث، يقول : " ومنذ ذلك اليوم بدأ كرهه لامه وابيه تتزايد، لم يكن يريد ان يشعر انه ثمرة اتحاد قائم على الاثم، ومتأصل بالدم, وانه فاسد ومثير للاشمئزاز الى الابد"([43])، ومثل هذا الاحساس يتوجه به البطل الى جده، وقد فارق دنيا السلطة والجاه، يقول: " كان يريحه ان يرى عائلته وقد هبطت الى الدرك الاسفل، ولم تعد لها هذه الهيبة والأبهة التي كانت لها يوما من الأيام، فنجده لم يعد يتكلم كثيراً، وقد نحل عوده آخر أيامه، وتهدل شاربه"([44]).

ثمة تعارض في الموقف من التراث، بين السلب والإيجاب، ينم هذا عن صراع في الذات، صراع الهوية، ازدواج الهوية وتذبذبها بين القديم والحديث، وهي ازمة في الثقافة التي استقى منها الكاتب ادبه، كشفت الإشارات التي وردت في الروايتين المدروستين الثقافة التي سيطرت على تفكير المبدع وقادت قلمه إلى هذا الاتجاه في نصه المكتوب، ان الاشياء " لا تقول لنا ما تعاني وما تفكر, لأنها لا تعاني ولا تفكر، غير انها تقول لنا ما نعاني وما نفكر به، وتساعدنا في الوقت ذاته، على قول ذلك"([45]), وقُدمت الذات الواصفة على النحو الذي ظهرت فيه.

المبحث الثالث : ثقافة الذات الموصوفة

اتبع الكاتب طريقة خاصة في بناء السرد، وبناء روايته عموماً، طريقة توحي بأنه ينهل من ثقافة مجتمعه المعاصر، بما فيها من مرتكزات قد تكون طارئة لا اصيلة، تجسدت هذه الطريقة في بناء وصفه للشخصيات والاشياء، الذات الموصوفة، هي ثقافة الجمهور أو الشعب أو المرحلة، منها ما نجده في بناء الشخصيات التي تمثل الآخر والامكنة والازمنة.

ابرز هذه الاتجاهات في الثقافة المعاصرة، صورة اليهودي النمطية، ذات الابعاد التي تكاد تكون معروفة ومستقرة في الثقافة العربية، اذ كانت صورة غير حسنة، وربما كانت قبيحة الى حد كبير، يقول: " وفي يوم من الايام كان شاؤول قد طرد سليم الذي كان يعمل في متجره، وهو اليهودي الكريه، الذي كان يضع نظارتيه على انفه وينظر من الاعلى مثل قنفذ، وحين كان يتكلم فإنه يُخرج الكلام من انفه، ولم يكن سليم يحب ابراهيم، فقد كان يظنه مخادعاً كبيراً، جاء ليسلب رب عمله ماله لقاء تصاوير ورقية لا تساوي شيئاً، وفي صباح يوم السبت، انقذف سليم من باب المتجر ليسقط على وجهه في الشارع، فسقطت نظارته من أنفه على الارض، وخرج شاؤول وراءه يزبد ويربد: " لك سليم تبوقني، آني الي سويتك آدمي."([46])، سليم هذا يهودي جاءت شخصيته ثانية في السرد، قدمه الروائي على هذا النحو من القبح وسوء الخل (يسرق)، ومثله شاؤول، وهو الشخصية اليهودية الاهم في الرواية، التاجر البخيل، الذي يصرف مالاً طائلا للحصول على صور اباحية من اسماعيل، شاؤول اليهودي الذي يخاف زوجته خوفاً شديداً([47])، شخصية بشعة في الرواية، يقول الروائي: " – " علينا ان نصلح التأريخ لا ان نقتله". هكذا قال شاؤول وهو يلمظ بلسانه الذي كان يخرج بين آن وآن ليبلل شفتيه، كان يخرجه مثل جلدة حمراء مسلوخة، بينما كانت عيناه تتلاقطان خلف النظارات الطبية السميكة، عينان مسطحتان لا حياة فيها، يتحركان يميناً وشمالاً مثل خرز لدن، بينما اختفى حاجباه خلف اطار النظارة البلاستيكي الاسود، ولم يظهر منهما سوى عروتين مسلوختين تتحركان بصورة منتظمة"([48])، شكل قبيح وبخل وبشاعة وحيلة وغدر وخوف وضعف عام، هذه مكونات صورة اليهودي في هذه الرواية، وهي مكونات صورة اليهودي في الثقافة المعاصرة، تكملها النظرة اليه بأنه الغني الذي يعرف كيف يُدار المال، ويُجمع ويُنمى، يقول الروائي: " وما ان دخل الاثنان من البوابة المصنوعة من خشب الصاج المشرَّج، بعد ان اجتازا الحديقة الشاسعة، حتى احس اسماعيل بدفء المكان، وبالحرارة المنبعثة من الوجاغ الذي يتوسط الصالة، وكانت الصالة مؤثثة تأثيثاً جميلاً، في كل زاوية من زواياها الواسعة هناك مكتبة عظيمة من خشب السنديان، كانت المزهريات المليئة بالزهور النادرة تصطف عند المدخل المرقوم بخشب الصاج، فجلس كلاهما على أرائك وثيرة مفروشة بالسجاد الإيراني الناعم بصورة متقابلة، كانت الستائر الحريرية الى يمين اسماعيل.."([49])، هذه الصورة البيت اليهودي، بيت كبير فيه من الاثاث الجيد والنفيس، صاحبه غني متمكن من المال وصونه وحفظه، هي صورة استلهمها الروائي من الثقافة المعاصرة العامة، ولم يتدخل بها بما يتناسب مع السرد ومقومات ادبيته.

تمثل شخصية اليهودي محوراً للصراع الحضاري والثقافي بين ثقافتين متنازعين، لم يستطع المؤلف الخروج برسمها عن نمطها المألوف العام، كما انه استعمل لها نوع الشخصية المسطحة، ورسمها من الخارج، ولم يعطها فرصة لتنمو وتتطور، انها ثقافة الذات الموصوفة، وهي من ثقافة الناس.

من الصور النمطية كذلك، صورة شخصية المرأة في الروايتين, فقد ركز على الوصف الدقيق لها في تفاصيل الجسد، من دون وصف العقل، وطريقة التفكير، فالراقصات والمغنيات في الملاهي وصاحباته اللاتي يصادفنه في عمله وسفره وفي اقامته، يركز على جسدهن كثيراً، ويستمد صفات الجسد من الثقافة المعاصرة، في السينما والثقافة بعامة، يقول: " كانت (نانسي) نموذجا طاغيا من الانوثة والجاذبية: كانت طويلة، سمراء، نحيلة، رقيقة بملامح ناعمة، لها بنية تصلح لأن تكون عارضة أزياء، كما إنها جذبتني ايضاً بوجهها الذي يرشح عذوبة ورقة، وبجسدها المتناسق تحت ملابسها الأنيقة"([50]) ، نانسي هذه امريكية من اصل فلسطيني، صورها الكاتب على هذا النحو، وهي من صورتها في الثقافة المعاصرة، قبل ان يخلقها المبدع، صحفية متحررة، ركَّز الكاتب على جسدها قبل كل شيء.

أمَّا ريجينا، وهي من تلكيف، فقد جاء وصفها يقتصر على جسدها فحسب([51])،  أمَّا بنات الليل وبائعات الهوى، فلهن صورة نمطية واضحة جدا، يجري التركيز فيها على الشكل الخارجي فيها، في مفردات صورة شاعت واستقرت في الثقافة المعاصرة، يقول: " اقتربت واحدة منه، وسحبته من ساعده، كانت رائحة السكر تفوح من فمها، كان وجهها ربلاً، وقد غطته بالمساحيق، بينما كان شعرها مصبوغا باللون الاحمر الناري، لم تكن ترتدي سوى (...) داخلي يكشف عن نهديها الضخمين من الاعلى، وساقيها السمينين من الاسفل، وكان شعر ابطها تفوح منه روائح داعرة"([52]).

اما الايرانية، فكانت طويلةً، وجهها مدوراً، عيناها سوداوان واسعتان([53])، اما الراقصة في الملهى، فصورتها لم تكن بعيدة عن النمط العام في الثقافة وفي التصور لهذه الشخصية، يقول: " في حين كانت مغنية بدينة ذات افخاذ بيضاء، وصدر ممتلئ، وشعر احمر ناري، تتأوه في المايكروفون بصوت مفجوع"([54])، في هذه النماذج وسواها من نماذج اخرى، اعتمد المبدع الذاكرة العامة والثقافة العامة في رسم شخصياته من النساء، في صورة نمطية مستقرة هي صور المرأة الغربية والراقصة والعاهر.

ومثلها صورة (الحرامي) في الرواية، فقد جاءت نمطية وكأنها من ذاكرة الاطفال وعامة الناس، جواد الذي كلفه (حنا) بمرافقة الراوي في رواية (حارس التبغ)، يقول: " كان لجواد وجه شبيه بوجوه النشالين: الملامح المجعدة القاسية، السمرة الضاربة نحو الاحمرار، والشارب المتهدل المصفر بسبب التدخين"([55])، ومثلها صورة الشرطي، نمطية واضحة المعالم مسبقاً، يقول: " وفي الركن كان ثمة شرطي يقف بصورة منتصبة، كان شرطياً فارع القوام، يلف على بطنه حزاماً عريضاً، وكان بنطاله الكاكي ضيقاً من الحجل، يكاد يلامس البصطال العليا، وقد وضع المسدس المزيت من الجهة اليسرى من خاصرته، وكان يمسك بيده القوية عصا الجوز الغليظة المحززة، وينظر بصورة مباشرة الى الامام"([56])، هذه الشخصيات لا تختلف في طريقة عرضها الخارجي، لم يحللها المؤلف من الداخل، اعتمد في بناء شكلها الخارجي على انماط مستقرة ومعروفة في الثقافة العامة.

اما شخصية المثقف، فقد انتزعها المؤلف من الثقافة العامة ايضا، اذ جاءت مستغَلة من السلطة، مغلوبا على امرها، خاضعة بالخوف، جسدتها حالة الموسيقار كمال مدحت مع صدام حسين في رواية حارس التبغ, إذ عزف له اكثر من مرة مع عدم قناعة بهذا الرئيس غير المثقف، يقول: " كانت بغداد ذلك الوقت تحتفل بذكرى النصر على ايران، وقد بدأت الاحتفالات اسبوعاً كاملاً، وقد وقف كمال مدحت امام صدام حسين للمرة الثانية بيوم النصر، امام قوس النصر الذي شيده صدام لهذه الذكرى، (...)، كان صدام سعيدا جدا، عيناه تلصفان من البهجة والفرح، كان هناك عدد من المهنئين بينهم فنانون ومسرحيون وكتاب ومعماريون واطباء، تقدم الموسيقار نحوه، (...) صافحه وقد احنى برأسه كما يفعل اثناء اداء موسيقى، قال له: " اهلا وسهلا .. نريد حفلة خاصة، ان تعزف لنا في القصر الجمهوري بيوم النصر" " حاضر سيدي.. " قال ذلك مبتسماً"([57])، هذه العلاقة بين المثقف والسلطة مستقرة في الثقافة العراقية الراهنة، في ان المثقف مسحوق مغلوب على امره، يأتون به ليعزف ويرسم ويغني ويقرأ الشعر، أو ليأخذ نصيبه من القمع اذا ما رفض أو تذمر، ها هو الموسيقار يعزف امام السلطة على عدم قناعة بها.

المبحث الرابع : تجليات الثقافة الشعبية

لقد تجلت الثقافة الشعبية في صور ووجوه عدة، عكست تأثراً كبيراً للمبدع بهذه الثقافة الراهنة، وكأنها وجَّهت كتابته وابداعه وجهة خاصة، إذ ظهرت على صورة اللغة العامية الشعبية المستهلكة عند عامة الناس، وصورة الخلط بين التفكير النخبوي الفلسفي العلمي والتفكير الشعبي، وصورة التعبير بتقريرية واضحة باستعمال الاسماء والاحداث والافكار، وفي بروز الأدب ميداناً للصراع الإنساني، بين الأيديولوجيات، وصارت الأنا تطفو على السطح، وتطغى على الذات الجماعية الكلية.

استعمل الروائي اللغة العامية في حالات، منها، انه اسندها الى الشخصية الشعبية، ذات التفكير الشعبي المغرق في محليته، إذ عبَّر عن الشعبي باللغة العامية، ومنها، انه اسندها الى شخصية الآخر، المختلف فكرا وعقيدة، وكأنها تمثل خصوصية هذا الآخر في ارتباطه الشعبي العميق القديم بهذا الوطن، كثقافة اليهودي والموصلي والبغدادي المتجذِّر ببغداديته، لكن نقل الافكار باللغة العامية لا يعني نجاحاً في ايصال الفكرة والمعنى، الذي ينبغي للكاتب العناية به في حواراته هو كشف طريقة تفكير المتحاورين من الشخصيات، وهذا ممكن باللغة الفصيحة العالية المشرقة، طريقة التفكير الشعبية لا تلتزم لغة عامية، فاللفظة ليست هي القيمة، القيمة في المعنى، والحفاظ على اللغة سليمة عالية من مميزات النصوص المكتوبة باللغة الفصيحة، وربما تنجح اللغة الفصيحة في نقل الافكار الشعبية والخاصة والمحلية اكثر من نجاح اللغة العامية، لغة المقاهي والحارات وشتائم الناس، يقول الروائي: ((" ثم صرخت بوجهه: " لك ..سامي.. بقة انت اشجايب لي..مايكفيني عجاياك بقة.." " حوري أشفارق لك..قابل اخليه يموت بالمطر"))([58])، جاء الخطاب هنا باللغة العامية، بقصد الربط بين الخطاب وبين اصحابه من الثقافة الاصلية في بغداد، الشعبية، فالمتخاطبان من اليهود االبغداديين وهذه لغتهم العامية، لجعل ثمة تناغم بين الشخصية وصيغة الخطاب، وتناغم بين الصوتين، وتكرر هذا في قوله: ((" الكتب شللك بيها قابل انت تقرأ انكَليزي" " يمعود شقره انكَليزي انوديها للسوق، وانبيعها..ماكوشي يطلع من بيت اليهود                  ما ينباع ".))([59])، هذا حوار بين السراق، (يفرهدون) بيوت اليهود، وربما كان مستوى الحالة الاخلاقي ومستوى المتحاورين جعله يستعمل اللغة العامية، لكن هذا لا يشفع للمؤلف, لان   اللغة الفصيحة تفي بنقل الحالة وتوصيلها.

لكن الحالة الاهم في استعمال اللغة العامية هي اسنادها الى البطل، وهو الشخصية المثقفة الاخطر في الرواية، يقول : ((" وقد دار بينهم الحوار التالي: " انت موسيقي مهم ونحن نسفرك على اسرائيل.." " اروح لاجئ ..اصير منفي وانا عندي بلد..بلدي هو.." " مابلدك هذا..يجي يوم راح يقولون لك فيه اطلع من هنا.. بلدك هناك..اليوم انا اقول لك هذا..ولكن بعدين هم راح يقولون لك روح هناك.."))([60])، لم تشفع اهمية الشخصيتين المتحاورتي في النص بإستعمال اللغة الفصيحة، جاء الحوار بالعامية على الرغم من اهميته ثقافياً وسردياً.

في هذه النصوص، وفي نصوص اخرى، ظهر اثر الثقافة الشعبية الراهنة جلياً على كتابة الروائي، ولم يستطع ان ينقل افكاره وافكار شخصياته بلغة فصيحة عالية, لسيطرة الثقافة الشعبية بعاميتها وجماهيريتها على قلمه.

في رواية بابا سارتر، تكرر استعمال اللغة العامية للسبب ذاته، يقول: " لك سليم تبوقني آني الي سويتك آدمي تبوقني"([61])، ومن هذا القبيل كذلك قوله: " دليني على تاريخ واني اخليلك مصارينه بالكاع"([62])، في رواية بابا سارتر، ركز العامية مع اليهود والشخصيات المذمومة المسطحة، وكذلك في حوارات فيلسوف الصدرية، لنقل افكار وخطابات معينة، يقول شاؤول: " ولكم هم صدقتوا ان هذا الحمار كان ملفوف مثل الاوادم بقماط، لكم هذا نغل مصلَّخ، كانت امه القحبة زاتته بشطيط"([63])، بهذه اللغة قدم خطاب اليهودي شاؤول بخصوص اسماعيل الذي ادَّعى الفلسفة، بما يتناسب مع قبح تفكير شاؤول وشخصه، منقاداً الى الثقافة الشعبية.

ومن تجليات الثقافة الشعبية، التقريرية، وهذه تجسدت في اتجاهات، في إطلاق الأسماء وفي تشكيل الأحداث، وطرح الأفكار، إذ اعطى الروائي شخصيات روائية مغرقة بالتقريرية والمباشرة، وربط اسماء ابطاله بمرجعيتهم الثقافية ربطا تاما، فقد اطلق الاسم (يوسف سامي صالح) على اليهودي، و(حيدر سلمان) على الشيعي العائد من ايران، وربما كان لـ(سلمان) دلالة اخرى اعطاها له وطنه (فارس)، ثم (حسين) على ابن الشيعي حيدر، من زواجه في ايران، واطلق (كمال مدحت) على العربي السني، و(عمر) على ابنه من السنية (نادية العمري)، ثم (كاكة حمة) على الكردي، بما يكشف مرجعيتها الواضحة على نحو تقريري جدا.

لم يصنع المؤلف اسماءً من نسج خياله، وانما اخذ اسماءً مرجعية غير تخييلية، من ثقافة مرحلته الراهنة، أخذا مباشراً.

وقع المؤلف في التقريرية في الوصف كذلك, إذ شكَّل حالة في رواية حارس التبغ استند فيها إلى الثقافة العامة في رسم ملامحها، ذلك في وصفه للمطار وحالة المسافرين فيه، فقد عكس الوصف انتماءات العراقيين الفكرية والسياسية والدينية في مرحلة ما بعد عام 2003م، في كونهم من المغتربين الإسلاميين والعلمانيين والمدنيين، وكأنه يستند في وصف المسافرين إلى طبيعة التشكيلات السياسية والحزبية في العراق في ذلك الزمن، في ملبسهم وحاجياتهم ووجوههم،([64])، وعلى نحو تقريري واضح، مفرداته هي مفردات الثقافة السياسية المعاصرة.

وتجلت هذه التقريرية في الأحداث ايضاً، عندما صوَّرَ حدثاً هاماً من احداث حياة البطل في رواية حارس التبغ، وهو حدث عودة ابائه المغتربين، بعد طول الغياب، إذ تطابقت حالة عودة الابناء مع حالة التيارات والأيديولوجيات العراقية الى عادت الى العراق مع التغيير، وهي تتطابق مع (مكونات) العراق الثقافية، إذ مثل حسين الشيعة ومثل عمر السنة ومثل مئير (الاقليات) من غير المسلمين، ومثل كاكا حمة الكرد، بوصف واضح ودقيق وتقريري ومباشر، يخلو من التخييل، يقول: " جاء حسين الى منزل والده (...) تفاجأ والده، شعر ابنه الاسود المفروق من الطرف، وهناك لحية تحد الجبين، لحية سوداء، كثَّة، ونظارة بإطار اسود، يرتدي جاكيتة عريضة، وبنطلونا واسعا، وقميصا ابيضا، دون رباط وقد زره من الياقة"([65])، ثم الابن الآخر عمر، " عمر القادم من مصر(...) بشواربه الكثة والممشطة على فمه حتى تخفيه، وشعره الأسود المردود الى وراء، بخدوده السمينة ونظراته القاسية"([66])، ولم يبق إلا الأول، ابنه من زوجته اليهودية، الاولى، يقول: " أمَّا مئير فقد جاء هو الاخر يحدِّث والده عن مشاريع الديمقراطية التي تربط البلاد بالغرب، وصورة المستقبل الذي سينقل العراق الى جنة الشرق الاوسط (...)، صورة محلومة ومصنوعة في اجمل مختبرات الغرب"([67])، جاء الابناء الثلاثة، وهم فرقاء العراق الثلاثة، (شيعة وسنة واقليات)، اكمل عقدهم المؤلف بأن وضع معهم الفريق الرابع سياسيا، وهم الكرد في (كاكة حمة)، بأن أعطاه دور في اللقاء الأخير، وجعله يدل حسين الابن بعنوان والده في العراق، جعل الروائي (حسين) يتحدث عن قناعات دينية ثقافية شيعية مباشرة، ومثله عمر، ومئير، كل واحد منهم نقل افكار وقناعات انتمائه على نحو مباشر وتقريري، وكأنه اخذ كل شي من الثقافة الشعبية المعاصرة.

من سمات الثقافة العامة التي تجلت بلون من ألوان التفكير الشعبي، الخلط بين التفكير النخبوي العلمي والتفكير الشعبي، فان رواية بابا سارتر، تحمل تعاشقا وتداخلا بين ما هو شعبي أو خاص، وما هو نخبوي فلسفي رفيع، ويأتي هذا في العنوان اولا، فقد جمع ما بين (بابا) وهي شعبية، وما بين (ساتر) وهي فلسفية نخبوية، باتجاه التناغم ما بين ما هو عام وخاص، وما هو شعبي ونخبوي رفيع([68]).

ثم يتجلى هذا الخلط بين ما هو فلسفي وما هو شعبي في ممارسة فيلسوف الصدرية لبعض الافكار الشعبية, وفهمها فهماً فلسفياً, والخلط بين الفهمين, يقول: "الأشياء التي يحبها الفيلسوف كثيراً، واقربها الى نفسه تلك التي تركز في ذهنه هذا الشعور الطاغي بالغثيان، مثل: القشدة البيضاء وعليها شيء من مربى الكرز، فهي الذ شيء يتمتع به، ويطالب بأكله يومياً تقريبا، هذا اللون الاحمر المزهر الشفاف الناتج من خلط القشدة البيضاء الناصعة مع مربى الكرز الشفاف, هذا اللون الملوكي يجعله يتذكر لون النبيذ الذي كان يشربه سارتر في السان جرمان دوبريه"([69]), هكذا فهم فيلسوف الصدرية بعض فلسفة سارتر.

ومن تجليات الفهم الشعبي للفلسفة، موقف الفيلسوف مع بائع الخضار على العربة في محلته، الاعور، الذي يحسده الفيلسوف لعوره كثيرا، ويتمنى لو كانت له هذه العين العوراء، العين الفلسفية، ذلك العور الوجودي، لتطابق في ملامحه مع سارتر، صاحب الفلسفة الكبير، وهذا فهم شعبي آخر للشأن الفلسفي.

ومن تجليات التفكير الشعبي المعاصر، طغيان الصوت الفردي، إذ صارت الذات تطفو على السطح، وصار كل فرد يعيش بطريقته، والآراء متاحة للجميع، تجسدت في الروايتين المدروستين عندما سمح الروائي لصوته ان ينطلق بعيدا، بأن جعل له نصيبا كبيرا في الرواية الى جانب الابطال، من خلال تقنية الميتاسرد التي اعتمدها، وصنع رواية في داخل رواية، وبدأ رحلة بحث طويلة، شكلت قصة الى جانب قصة البطل في الروايتين، في انشاء كتاب عن الموسيقار العراقي في رواية حارس التبغ، ورحلة انشاء رواية عن حياة فيلسوف الصدرية، في رواية بابا سارتر، واحتل حديثة عن تأليف الكتابين مساحة كبيرة في الروايتين، بما ضخم من حجم الذات الكاتب واحتلت مساحة ليس لها، وابرزت الانا كثيرا، من تجليات الثقافة المعاصرة ايضا.

الخاتمة

بعد هذه القراءة الثقافية في روايتين للكاتب العراقي على بدر، انكشفت لنا النتائج الآتية:

تعد الرواية النص الإبداعي الأفضل لدراسة ثقافة المجتمعات، بتحولاتها التأريخية والاجتماعية، فهي أدب اعترافات يتيح معرفة ثقافة الذات والغيرية على نحو جلي.

تتيح القراءة الثقافية فرصة فضلى لدراسة النصوص الروائية الحديثة، لما تحمل هذه النصوص من انساقاً ثقافية مضمرة، ذات أهمية كبرى في فهم الثقافة العامة للأدب والمجتمعات.

توفر كتابة الروائي علي بدر أرضاً خصبةً للقراءة الثقافية, لأنها تنطوي على انساق ثقافية مضمرة ومكشوفة، تتيح فهماً طيباً للثقافة العراقية التي كتب بها الروائي.

اعتمد الروائي على بدر اعتماداً كبيراً على الثقافة العراقية المعاصرة في بناء نصه السردي الروائي، فقد تجلت الثقافة المحلية واضحة في أدبه الروائي، ونقل الواقع الاجتماعي والثقافي بدقة ووضوح ومن دون تخييل وسردية عالية.

استعمل الروائي التأريخ بوصفيته وعلميته، ولم ينقله تخييلاً وسرداً، واستعمل منه التأريخ الشعبي والرسمي، وكان جديراً بأن يستعمل التأريخ الثالث، وهو إنتاج التأريخ مع الخيال.

كشفت كتابة علي بدر ثقافة الذات الواصفة، ومشكلاتها وعقدها، وموقفها من الآخر، وتصويرها للآخر بأنه أنثى في متناوله، ومشكلة الجنس والخمرة، وهي عقد ومشكلات ثقافية أخذها الكاتب من الثقافة الراهنة، انعكست على كتابته، وأثرت عليه كثيراً.

كشفت كتابة على بدر ثقافة الذات الموصوفة، وخصوصيتها، ومشكلاتها، من صورة اليهودي إلى صورة المرأة إلى صورة المثقف، في الرواية، وهي ثقافة مستمدة من الثقافة العامة الراهنة، استلهم منها علي بدر ما شاء.

كشفت القراءة عن تجليات الثقافي الشعبي في روايتي على بدر المدروستين، وكان ذلك في استعمال اللغة العامية والتقريرية الواضحة.

أطلق على بدر اسماءً مغرقة بالتقريرية والوضوح، انطلق بها من مرجعيتها الثقافية المستقرة، وهي من الثقافة الشعبية المحلية، لم يترك لإبداعه أن يجترح أسماءً غير مرجعية.

اتضحت التقريرية- وهي من سمات الثقافة الشعبية الراهنة- في إنتاج الأحداث والأفكار في نص علي بدر.

 أثَّرت الثقافة المعاصرة في إنتاج على بدر الإبداعي أثراً كبيراً، وهي التي وجهت تفكيره وقلمه، وهيمنت على كتابته، ولم تترك له المجال لينتج ثقافة جديدة نخبوية يثبت فيها الجمالي والسردي الأصيل، ويبتعد عن الشعبي الطارئ.

مصادر البحث

  • بابا سارتر، علي بدر، دار رياض الريس، بيروت، ط1، 2001.
  • بناء الرواية، سيزا قاسم، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984.
  • البناء والدلالة في الرواية، عبد اللطيف محفوظ، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، ط1، 2010.
  • بويطيقا الثقافة، بشرى موسى صالح، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2012.
  • التخيبل التأريخي، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2011.
  • جدل الهوية والشخصية في رواية حارس التبغ، علاء مشذوب عبود، مجلة الأقلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ع 2، سنة 47، 1يار-آب، 2012.
  • حارس التبغ، علي بدر، المؤسسة العربية للنشر، بيروت، ط1، 2008.
  • الراية العربية والمجتمع المدني، نبيل سلمان، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010.
  • الرواية العراقية، رصد الخراب العراقي في أزمات الديكتاتورية والحروب والاحتلال وسلطة الطوائف، سلام إبراهيم، مجلة تَبَيُّن، قطر، ع 24، مجلد 1، خريف 2014.
  • السرد، والاعتراف، والهُوية، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2011.
  • شرق وغرب رجولة وأنوثة، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط4، 1997.
  • الشعري، ميكال دوفرين، ترجمة: نعيم علوية، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 10.
  • الفتنة والآخر، ماجدولين شرف الدين، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، ط1، 2012.
  • في الأصول الرمزية للمجتمعات، جون فرانسوا دورتييه، ترجمة: محمد ميلاد، مجلة الثقافة العالمية، ع 120.
  • الفكر الإسلامي (قراءة علمية)، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1987.
  • النص والحياة، حسن ناظم، دار المدى للثقافة والنشر، بغداد، 2008.
  • الوصف في الرواية، عبد اللطيف محفوظ، منشورات الاختلاف، الجزائر ، ط1 ،2009.
  • وظيفة الوصف في الرواية، عبد اللطيف محفوظ، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، ط1، 2009.

 

مستقبل الهوية العراقية في ظل التحديات المعاصرة

 

 

 

([1]) السرد، والاعتراف، والهُوية، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2011، 5.

 

 

 

([2]) في الأصول الرمزية للمجتمعات، جون فرانسوا دورتييه، ترجمة: محمد ميلاد، مجلة الثقافة العالمية، ع 120، 56.

 

 

 

([3]) ينظر: النص والحياة، حسن ناظم، دار المدى للثقافة والنشر، بغداد، 2008، 38.

 

 

([4]) ينظر: الرواية العراقية، رصد الخراب العراقي في أزمات الديكتاتورية والحروب والاحتلال وسلطة الطوائف، سلام إبراهيم، مجلة تَبَيُّن، قطر، ع 24، مجلد 1، خريف 2014، 175.

 

([5]) ينظر: بناء الرواية، سيزا قاسم، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984، 74.

 

([6]) ينظر: الفكر الإسلامي (قراءة علمية)، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1987، 243.

 

([7]) التخيبل التأريخي، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2011، 9.

 

([8]) ينظر: شرق وغرب رجولة وأنوثة، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط4، 1997، 12.

 

([9]) البناء والدلالة في الرواية، عبد اللطيف محفوظ، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، ط1، 2010، 25.

 

([10]) ينظر: التخيل التأريخي.

 

([11]) ينظر: الوصف في الرواية، عبد اللطيف محفوظ، منشورات الاختلاف، الجزائر ، ط1 ،2009 ، 21.

 

([12]) التخيل التأريخي، 6.

 

([13]) الفتنة والآخر، ماجدولين شرف الدين، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، ط1، 2012، 103.

 

([14]) حارس التبغ، علي بدر، المؤسسة العربية للنشر، بيروت، ط1، 2008، 235.

 

([15]) حارس التبغ، 12.

 

([16]) حارس التبغ، 235.

 

([17]) حارس التبغ، 12.

 

([18]) جدل الهوية والشخصية في رواية حارس التبغ، علاء مشذوب عبود، مجلة الأقلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ع 2، سنة 47، 1يار-آب، 2012، 166.

 

([19]) حارس التبغ، 10.

 

([20]) حارس التبغ، 86.

 

([21]) حارس التبغ، 190، 191.

 

([22]) بابا سارتر، علي بدر، دار رياض الريس، بيروت، ط1، 2001، 48.

 

([23]) بابا سارتر، 49.

 

([24]) بابا سارتر، 210، 211.

 

([25]) ينظر: شرق غرب رجولة أنوثة، 12.

 

([26]) الفتنة والآخر، 34.

 

([27]) وظيفة الوصف في الرواية، عبد اللطيف محفوظ، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، ط1، 2009، 54.

 

([28]) ينظر: حارس التبغ، 26، 27، 28، 30، 32، 33، 35، 40، 138، 210، 215، 226، 240، 241، 242، 243، 250، 261، 62، 263، 272، 277، 279، 299، وبابا سارتر، 8، 25، 44، 45، 56، 57، 58، 59، 101، 117، 130، 131، 176، 188، 200، 207.

 

([29]) ينظر: شرق وغرب رجولة وأنوثة، 11، 12، 14، 15، 16.

 

([30]) بابا سارتر، 58.

 

([31]) ينظر: الراية العربية والمجتمع المدني، نبيل سلمان، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010، 23.

 

([32]) حارس التبغ، 250، 251.

 

([33]) وظيفة الوصف في الرواية، 23.

 

([34]) حارس التبغ، 74، 75.

 

([35]) بابا سارتر، 28.

 

([36]) بابا سارتر، 39.

 

([37]) حارس التبغ، 84.

 

([38]) حارس التبغ، 312.

 

([39]) حارس التبغ، 113.

 

([40]) حارس التبغ، 208.

 

([41]) حارس التبغ، 209.

 

([42]) بابا سارتر، 161.

 

([43]) بابا سارتر، 162.

 

([44]) بابا سارتر، 184.                                                                                      

 

([45]) الشعري، ميكال دوفرين، ترجمة: نعيم علوية، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 10، 48.

 

([46]) بابا سارتر، 81.

 

([47]) بابا سارتر، 80.

 

([48]) بابا سارتر، 83.

 

([49]) بابا سارتر، 86.

 

([50]) حارس التبغ، 34.

 

([51]) بابا سارتر، 175، 176.

 

([52]) بابا سارتر، 88.

 

([53]) حارس التبغ، 241.

 

([54]) بابا سارتر، 58.

 

([55]) بابا سارتر، 17.

 

([56]) بابا سارتر، 24، 25.

 

([57]) حارس التبغ، 305، 306.

 

([58]) حارس التبغ، 115.

([59]) حارس التبغ، 133.

 

([60]) حارس التبغ، 148، وينظر، 75، 76، 79، 82، 85، 115، 113، 150، 203.

 

([61]) بابا سارتر، 81، وينظر: 29، 31، 83، 91، 99.

 

([62]) بابا سارتر، 83.

 

([63]) بابا سارتر، 99.

 

([64]) ينظر: حارس التبغ، 72.

 

([65]) حارس التبغ، 326.

 

([66]) حارس التبغ، 327.

 

([67]) حارس التبغ، 328.

 

([68]) ينظر: بويطيقا الثقافة، بشرى موسى صالح، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2012، 117.

 

([69]) بابا سارتر, 71, 72 .