الأبعاد السياسية والاجتماعية للخطاب الديني ما بعد عام2003م

(خطب  المرجعية الدينية الشيعية انموذجا)

   أ.د نجم عبدالله غالي الموسوي                       م.د شاكر عطية ضويحي الساعدي

          جامعــــــــة ميسان                           كلية الامــــــام الكاظــم (ع)/ ميســــان

المقدمة :

 لقد كان للخطاب الديني منذ انطلاقته الأولى مكانته وأثره في قول الحق وإحلال الأمن والسلم الفردي والاجتماعي، وقد لا يختص هذا الخطاب بالدين الإسلامي لكونه يعبر عن إرادة السماء وأحكامها، إلا أن الأخير تميّز عن سائر الخطب الدينية السابقة بعدة مميزات تتناسب وحجم المسؤولية والأمانة المكلف بحملها، فضلاً عن حجم المشاكل الحوادث التي يواجهها في مسيرته ودعوته للحقّ.   

  وهكذا كان الخطاب الديني الإسلامي يدعو الى توحيد الكلمة والكلمة الواحدة، ليتمكن من خلالها ترسيخ القيم والمبادئ الإنسانية وتشريع القوانين والأحكام الإلهية, وتحقيق السعادة والعدالة الكبرى للإنسانية كافة, إذ تمكن من إخراج الناس من بحر ظلمات الجهل إلى نور المعرفة وإحلال الأمن والاستقرار للأمة الإسلامية، بحيث أصبح لها حضارة تتقدم بها على سائر الحضارات العالمية آنذاك, بفضل التعاليم والمعارف الدينية التي جاءت بها، غير أنّ مثل هذا لا يروق لأصحاب النفوس الضعيفة والخبيثة، الذين يلهثون وراء المناصب والجاهات والمكاسب الدنيوية، فبدأت الأمة الإسلامية تخطو خطاها في التقدم والتطور اللامحدود في مختلف المجالات على الرغم من وضع هؤلاء للكثير من العقبات في طريقها للحيلولة دون تحقيق أهدافها وتشويهاً لدعوتها, فمكروا ومكر الله والله خير الماكرين, إذ قوض لهذه الأمة أئمة يحفظ بهم تراثها وقوانينها وتشريعاتها، إلى أن آل الأمر بعد الغيبة الكبرى لصاحب الأمر والزمان(عج) فاختار الله تعالى لها من بينها علماء يرثون الأنبياء (ع) علماً وفقاهة في الدين وحماة له، وقد سعى الجميع كل بحسب قدرته في الدفاع عن الدين وحفظه، فكان لهؤلاء الأعلام بصماتهم على وجه التاريخ الإسلامي، وصوراً رائعة في صفحاته المشرقة، تستحق الوقوف عندها واستلهام الدروس والعبر منها...

 وهكذا كان لمراجع الدين وعلمائه مواقف مشرفة في التاريخ في الدفاع عنه وحفظه من الضياع والانحراف بوجه التيارات الانحرافية التي كادت تقضي عليه لولا وجود هؤلاء الأعلام ووعيهم بمكائد الاعداء ومخططاتهم، وقد كان من بين هؤلاء الأعلام الذين تركوا لنا بصمة وأثراً على صفحات التاريخ العراقي السياسي، آية الله العظمى الشيخ محمد تقي اليزدي (قدس) مفجر ثورة العشرين، وآية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر(قدس)، وآية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر(قدس)، وآية الله العظمى السيد علي السيستاني(دام ظله الوارف) صاحب المواقف المذهلة لعقول جميع العباقرة وعلماء السياسة والدين وجبابرة العصر وطواغيته، وهذا ما سنتحدث عنه من خلال بيان الأبعاد السياسية والاجتماعية لمواقفه وخطبه الدينية وأثرهما في حفظ الأمن والاستقرار للعراق والمنطقة الإسلامية برمتها.. ومن الله التوفيق.

الكلمات المفتاحية

الخطاب، الدين، البعد ، السياسية، المرجع، المجتمع

التمهيد: مفاهيم هامة :

  1. مفهوم الخطاب وأهمية :

           الخطاب مصدر للفعل (يخاطب، وخاطب)، وقد جاء من كلمة الخَطب أي الأمر أو الشأن، والخطاب هو سبب الشيء، ويقال للمرء ما خطبك؟ أي ما شأنك، ونَصِفُ بعض الحوادث والأمور فنقول: خطب عظيم أو جليل([1]).

وفي الاصطلاح مواجهة الآخرين بكلام قد يكون على شكل رسالة، أو محاضرة، أو تسجيل، أو نص معين، وقد يتعدى الكلام إلى الرموز، وتتنوع أشكاله فمنه اللفظي الذي يستخدم اللغة كأداة له، وغير اللفظي الذي يستخدم العلامات والإشارات والإيحاءات، يعرف مفهوم الخطاب اصطلاحاً أيضاً بأنه مجموعة متناسقة ومترابطة من الجمل والأقوال، تحمل في سياقها معلومات ومعاني تهم المتلقي أو المرسل إليه([2]).

وأمّا الخطاب الدينيّ أو الإسلاميّ هو خطابٌ يستند إلى مصادر التشريع الإسلامي, وهي القرآن الكريم، والسنة النبويّة، ومصادر التشريع الإسلامية الأخرى، سواءً كان هذا الخطاب صادراً من جهة إسلامية، أو مؤسسة دعوية رسمية، أو غير رسمية، أو أفراد جمعهم الاستناد إلى الدين الإسلامي وأصوله كمصدر لأطروحاتهم.

يتميّز الخطاب الدينيّ بالتجديد ضمن إطار عقيدة الإسلام، ويرتبط مضمونه بما يحتاجه المسلمون، ويكون المقصد منه هو حل ومعالجة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر.

  1. مفهوم الدين :

قال الفراهيدي: (الدين جمعه الأديان، والدين الجزاء لا يجمع, لأنّه مصدر، كقولك: دان الله العباد يدينهم يوم القيامة أي يجزيهم، وهو ديان العباد. والدين: الطاعة، ودانوا لفلان أي أطاعوه).([3]),  وقال العسكري: (ما يطاع به المعبود ولكل واحد منا دين)([4])، وقال أيضاً في موضع آخر: (وهو ما يذهب إليه الإنسان ويعتقد أنه يقربه إلى الله، وإن لم يكن فيه شرائع مثل دين أهل الشرك)([5]), وجاء لفظ الدين أيضاً في لغة العرب على معان متعددة، منها الطريقة والمذهب والملة والعادة والشأن، كما تقول العرب في الريح "عادت هيفُ لأديانها"، ويقولون: ما زال ذلك ديني وديدني، ومنها الجزاء والمكافأة يقال: دانه بدينه ديناً أي جازاه، ويقال: كما تدين تُدان أي كما تجازي تُجازى بفعلك، وبحسب ما عملت، ومنها سيرة الملك ومملكته، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

لئن حللت بجو في بني أسد           دين عمرو وحالت بيننا فَدَكُ

ومعنى الدين في القرآن لا يخرج عن المعنى اللغوي، فمن ذلك قول الله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ ([6])، فدين الله هنا هو الخضوع له والانقياد لحكمه وأمره ونهيه. وقوله تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه)([7]), فكلمة دينكم تعني ملتكم وتعني كذلك نظامكم وقوانينكم وتقاليدكم التي تسيرون عليها في الدولة. فدين الملك سياسته وقانونه وشريعته ونظامه. وقول الله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ([8]), يوم الجزاء والحساب والمكافأة.

وقد عرف الدين في الاصطلاح الكلامي بأنّه عبارة عن مجموعة الاعتقادات والأحكام الفردية والاجتماعية الشاملة لجميع جوانب الحياة الإنسانية بما يحقق للإنسان السعادة في الدنيا   والآخرة ([9]).

  1. مفهوم السياسة :

 

 

 

أمّا السياسة لغة، فقد جاءت في عدة معاني، نذكر منها:

 

  1. (فعل السائس الذي يسوس الدواب سياسة يقوم عليها ويروضها، والوالي يسوس الرعية وأمرهم) ([10]).
  2. (القيام على الشيء بما يصلحه)([11]).
  3. سوسوه وأساسوه وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه)([12]).
  4. (ساس زيد الأمر يسوسه سياسة: دبّره وقام بأمره)([13]).
  5. (سست الرعية سياسة: وسوس الرجل أمور الناس على ما لم يسم فاعله إذا ملك أمرهم)([14]).

6.(سست الرعية: إذا أمرتها ونهيتها) ([15])

ومن جميع ما تقدم من التعاريف التّي تناولتها كتب اللغة لكلمة السياسة يتضح أنّ المفهوم اللغوي للسياسة قد ارتبط بتولي الأمور العامة وانتظام أحوال الرعية وتدبيرها  والقيام بأمرها ونهيها.

 

 

وأمّا السياسة اصطلاحاً، فهي:

 

  1. ما قال البغدادي: (ما كان فعلاً يكون للناس معه أقرب إلى الصواب وأبعد عن الفساد وان لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي)([16]),وهذا التعريف قريب من المعنى اللغوي للسياسة وهو تدبير شؤون الأمة ورعاية مصالحها وإن لم يرد دليل جزئي على ضوء الشريعة الإسلامية, وذلك لأنّ المناط في صحة التعريف هو عدم ورود النقض عليه، والحال أن النقض وارد هنا, إذ إنّ المقياس الصحيح في صحة تعريف السياسة، هو جريانها وفقاً للكتاب والسنة النبوية، وما خرج عنهما فهو واضح الفساد والبطلان, نظراً لشمولية الدين الإسلامي لجميع جوانب الحياة، وعدم إهماله أي مفردة من مفرداتها.
  2. ما قاله ابن نجيم:(فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي كقوله (والمريض يرجم ولا يجلد حتى يبرأ))([17]), وقد أناط هذا التعريف السياسة بفعل الحاكم وفقاً للمصلحة التّي يراها دون غيره وإن لم يرد دليل جزئي من الشرع المقدس على وفقه.
  3. قال ضياء البدران: (هي إعادة ترتيب الأوضاع وفقا للمؤشرات الظرفية مع الاحتفاظ بالثوابت الأخلاقية (بالنسبة للإسلام) ومع الاحتفاظ بالمصالح ( بالنسبة لغير الإسلام) )([18]). وهذا التعريف هو القريب عمّا نحن فيه، حيث أناط ترتيب الأوضاع وفقاً للمؤشرات والظروف المحيطة بها مع الاحتفاظ بالثوابت الأخلاقية بالنسبة للإسلام، ومع الاحتفاظ بالمصالح بالنسبة لغيره، لكنه لو أضاف إلى جملة ترتيب الأوضاع جملة أخرى ـ الأوضاع العامة للناس وما يتعلق بحياتهم - لكان أفضل.
  4. ما قاله قال مايل كومبلاند: (السياسة: فن الممكن)([19])، والسياسة عكس ذلك، إلا السياسة الإسلامية، ففي هذا التعريف اقتصار على فن الممكن، وهو أمر يدعو للتوقف والتأمل بنفس المفردة الواردة في نفس التعريف، وما هو المقصود منها، وهل كل ممكن ويعتبر من فنون السياسة في نظره؟
  5. ما قاله رايموندي:( هي علم الدولة، التّي تبحث عن التنظيمات البشرية وعن تكوين الأحداث السياسية وعن تنظيم الحكومات، وفي فعالية الحكومة التّي لها صله بتشريع القوانين وتنفيذها، وفي علاقتها بالدول الأخرى، وبيان مدى العلاقات القائمة بين الشعب والدولة، وارتباطات الدول بعضها مع بعض، كما تبحث عن تطوّر السلطة السياسية بالنسبة إلى حرية الفرد)([20]),وفيه أنّه اعتبر كل ما يرد في علم الدولة من السياسة، مع أن بعض الأمور التّي تخص الدولة لا علاقة لها بالسياسة، كالتنظيمات البشرية، فهي أمور نظمية وليست سياسية.
  6. ما قاله الحوفي: (هي الحكم، والرجل السياسي هو الذي يمارس أعمال الإدارة المدنية، وهو الحاكم الرسمي الموّجه الناصح)([21])،ويرد عليه, أنه ليس كل حكم هو سياسة، وليس كل من مارس الأعمال المدنية هو رجل سياسي وموجه ناصح.
  7. مفهوم المرجعية :

(المَرجِع) مصدر شاذ، وهو من يكون الرجوع إليه ينتهي عنده.

فقد قال ابن منظور في مادة (رَجعَ) : (رَجَع يرجع رجوعاً ورُجعى ورجعاناً ومرجعاً ومرجعة: انصرف، وفي التنزيل: ﴿إنّ الى ربَّكَ الرُجعى﴾([22])، أي الرجوع، والّمرجع مصدرٌ على فُعلى، وفيه: ﴿الى اللهِ مَرجِعكمُ جميعاً﴾ ([23])، أي رجوعكم)([24]).

  و (مَرجِع): مصدر شاذ، لان المصادر من (فَعَل يَفْعِل( إنما تكون بالفتح([25]), ومن معاني (الرجع) المطر، كما في قوله تعالى: ﴿والسماءِ ذاتِ الرجع﴾([26]),ويقال ذات النفع([27]), كما انَّ كلمة (رَجع) تدل على الردَّ والتكرار، حيث جاء في مجمع المقاييس: (الراء والجيم والعين أصل كبير مطّرد منقاس، يدلُّ على ردًّ وتكرار، نقول: رجع يرجع رجوعاً إذا عاد)([28]).

  أما الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات ألفاظ القرآن فقد قال في بيان معنى (الرجوع): (الرجوع: العود إلى ما كان منه البدء، أو تقدير البدء مكاناً كان أو فعلاً، وبذاته كان رجوعه وبجزء من أجزائه، وبفعل من أفعاله، فالرجوع العود)([29]).

  وعليه فإنّ المستفادة من كلمات اللغويين في المقام بأنّ المرجع هو من يرجع إليه، والمرجعية هي اسم مصدر. وأما في الاصطلاح فلم نعثر على تعريف للمرجعية في كتب العلماء والمجتهدين، الذين كتبوا في المرجعية ـ على حدَّ بحثنا القاصر ـ ولذلك حاولنا انّ نجمعَ تعريفاً لها من خلال بيان موقعها في نظام شيعة أهل البيت^، وكذلك وظائفها، وعلاقة الأمة بها، مستفيدين ذلك من كتابي: المرجعية الدينية، وموسوعة الحوزة العلمية والمرجعية لأية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الحكيم (قده)، وإليكم التعريف: (المرجعية: هي الجهة التي تتبوأ الموقع الأول في الهيكل العام لنظام الجماعة [الشيعة] عند غياب المعصوم)([30])، وقال في موضع آخر: (حيث يرجع لها الإتباع في جميع الموارد المتقدمة، وتكون لها القيمومة على مؤسسات عمل الأمة وحركتها([31]), وقال في كتاب آخر: (والتي تقوم بالوظائف الأساسية للإمامة، وهي الولاية لشؤون المسلمين، والإفتاء لبيان مفاهيم الرسالة الإلهية، وإبلاغها والتبشير والإنذار بها ، والقضاء في موارد النزاع والتداعي وفصل الخصومات)([32]).

  ومما تقدم فإنّ المعنى اللغوي ينطبق على كلَّ  شخص او جهةٍ يكون رجوع الناس إليها في مورد اختصاصها او وظيفتها، ولذلك فهو ينطبق على الأنبياء والأوصياء والأئمة ومن عناهم التعريف لبيان معنى المرجعية في الاصطلاح, وهم العلماء المجتهدون عند غياب المعصوم. امّا المعنى الاصطلاحي فقد انصرف الى المجتهدين الذين يقومون بوظائف الإمام المعصوم عند غيبته، ولهذا عندما يُذكر لفظ المرجعية ـ في زماننا ـ تنصرف أذهاننا الى المرجعيات الحالية والتي سبقتها منذ الغيبة.

  1. مفهوم المجتمع :

  المجتمع لغة مصطلح مشتق من الفعل جَمَع، وهي عكس كلمة فرق، كما أنّها مُشتقّة على وزن مُفتَعَل، وتعني مكان الاجتماع، والمعنى الذي يقصد بهذه الكلمة هو جماعة من الناس، وهذا رد على من يعتقد أنّها كلمة خاطئة ويقول إنّه ينبغي استخدام كلمة جماعة بدلاً منها، ويُسمّى العلم الذي يُعنى بدراسة المجتمع من جميع نواحيه بعلم الاجتماع([33]).

والمجتمع لغة كما جاء في معجم المعاني الجامع هو عبارة عن فئة من الناس تشكّل مجموعة تعتمد على بعضها البعض، يعيشون مع بعضهم، وتربطهم روابط ومصالح مشتركة وتحكمهم عادات وتقاليد وقوانين واحدة([34]).

  وهناك عدة تعريفات للمجتمع من المنظور السياسيّ، والمنظور الاجتماعيّ، والمنظور النفسيّ وغيرها، ويمكن تعريفه اصطلاحاً على أنّه عدد كبير من الأفراد المستقرّين الذين تجمعهم روابط اجتماعية ومصالح مشتركة ترافقها أنظمة تهدف إلى ضبط سلوكهم ويكونون تحت رعاية السلطة([35]), والمجتمع هو مجموعة من الأشخاص الأحياء، وليس مجموعة من الأفكار فحسب، وهؤلاء الأشخاص مكتفون بذاتهم، ومستمرّون في البقاء، ويتنوّعون بين ذكور وإناث، وقد وُصف المجتمع من قبل علماء الاجتماع على أنّه أكبر جماعة يمكن أن ينتمي إليها الأفراد، وله القدرة على التكيّف بذاته، وأن يكون مكتفياً بحيث يستمر إلى اللاّنهاية، ويُعتبر من الصعب أن تُرسم حدود معيّنة وثابتة لأيّ مجتمع معيّن, حيث إنّ هذه الحدود تتغيّر وتختلف باختلاف الأحوال، وحسب الغرض المراد من تحديدها([36]).

البحث الأول: الأبعاد السياسية لخطب المرجعية الدينية (الشيعية) في العراق ما بعد 2003م

لقد كان من بين الأبعاد السياسية لخطب المرجعية الدينية العليا في العراق ، ما يلي:

أولاً: حفظ الأمن والاستقرار : 

  إنّ غياب القانون وسيادة السلطة والدولة من بين أهم الأمور التي تخلق الفوضى العارمة في المجتمع الإنساني، فالإنسان السيء عندما لم يجد رادعاً أو قانوناً يحاسبه على إساءته، فإنه سوف يتمادى في الإساءة الى مستوى يؤدي إلى خلق الفوضى والهرج والمرج والدمار في البلد، «فإنّه متى غابت السلطة قلّ الصلاح، وكثُر الهرج والمرج، وفسُدت المعايش، بل إنّ المعلوم أنّه مع وجود الرؤساء وانقباض أيديهم وضعف سلطانهم، يكثُر الفساد ويقلّ الصلاح»([37]), وهذا بخلاف ما لو كان هناك من يحاسبه على فعل الإساء والدمار، أو يجد من يردعه عن التجاوزات التي يرتكبها، أو يريد ارتكابها، وعندها يؤول المجتمع يؤول الأمن والاستقرار الفردي والاجتماعي...  وقد كان من بين أعظم الانتهاكات هو ما حصل بالنسبة إلى ممتلاكات الدولة وما لحق بها من النهب والتخريب والتدمير، في الوقت الذي لم تكن هذه الممتلكات خاصة بالدولة فقط، بل هي ملك للشعب وتعود بفائدتها لجميع أبناء الوطن، كالمؤسسات الخدمية والتربوية والصحية والدوائر الحكومية ذاب الطابع المدني، فضلاً عن المؤسسات الاقتصادية والانتاجية، فقد تعرضت جميع هذه الممتلكات العامة الى ما لم يتعرض إليه أقرانها في سائر البلدان العالمية الأخرى، رغم تعرضها لانقلابات وثورات وانتفاضات اطاحت بأنظمتها وغيّرت حكوماتها إلا أن مؤسسات الدولة بقيت بعيدة عن الدمار والخراب, ولذا فقد حرصت المرجعية الدينية الشيعية العليا في النجف الأشرف على حفظ هذه الممتلكات العامة، وعدّت التجاوز عليها تجاوز على الملك العام للشعب، وذلك من خلال بياناتها وخطاباتها وفتاواها بهذا الخصوص، ممّا جعل السيد السيستاني (دام ظله) يساهم في ضبط الشارع العراقي عمّا يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الأمنية من تدهور خطير، إذ أصدر في (27/4/2003م) فتوى تحرّم نهب ممتلكات الدولة والوزارات، وجميع الدوائر الحكومية، ودعا إلى المحافظة على هذه الممتلكات، بوصفها ملكاً عاماً لجميع أفراد الشعب العراقي، ورفض قيام العوائل وإن كانت في عوز أن تستخدم هذه الممتلكات الحكومية([38])، غير أنها لم تجد من الكثير  الاذن الصاغية من الجميع، فالأكثرية قد أصمتها طبيعة الظروف القاسية التي مرّت بها أبان الحكم البعثي الكافر، لدرجة أضحت لا تميز بين الفعل الصحيح من الفعل القبيح، وبين ما يعود بالنفع عليها، وما يعود بالضرر عليها، حتى بات العديد من هذه المؤسسات الى يومنا هذا تعاني من نقص في التجهيزات، مما انعكس على عملها في تقديم خدماتها لابناء هذا الوطن المسكين، بل وصل الأمر نتيجة هذه الاوضاع وما رافقها من انعدام تطبيق القانون الى فقدهم الأمن والاستقرار على كلا المتسويين الفردي والاجتماعي، فبدل أن يحل العمار والازدهار، حل محل ذلك الدمار والتخلف على مختلف الأصعدة الحياتية، فأضحت هذه المؤسسات خاوية على عروشها، تفتقر إلى أبسط مقوماتها، فكانت نتيجتها عدم قدرتها في العطاء والانتاج.

ثانياً: حفظ المال والأعراض والممتلكات العامة :

  لقد تعرض الشعب العراقي بمختلف أطيافه ومذاهبه ودياناته الى موجة من العصف والتيار الجارف، متمثلاً بزهق الأرواح وهتك للأعراض وهدر الأموال، نتيجة ما قام به شرذمة من الانتهازيين والتكفيريين والمتعصبين، بحيث أضحت بعض الطرق والمناطق تعرف بطرق ومناطق الموت، فبات الرعب ونهب الأموال وهتك الاعراض سمة لفترة عصيبة مرّ بها العراق، فلا المال والاعراض محفوظة، بل تجاوز هذا الدمار الى أن يتعدى من المال العام الى المال الشخصي، حتى أصبح الناس فيه سكرى وما هم بسكارى ولكن الأمن مفقود والفاسد يصول ويجول، فلا من رادع ولا من محاسب ولا من مدافع عنهم، سوى المرجعية الدينية التي لم تقف موقف المتفرج على ذلك، بل بادرت بكل ما تمتلك من وسائل وطرق وأساليب للحد من هذه الظاهرة والوقوف بوجهها، وذلك من خلال فتاواها بتحريم جميع أنواع التجاوز والاعتداء على الأموال العام والخاصة، وكذلك حرمة الاعتداء على الأعراض مهما كانت ديانتها وعقيدتها، فكانت على خط واحد من جميع الديانات والمذاهب والقوميات العراقية المختلفة دون أدنى تمييز لطرف على طرف آخر، فقد أصدر السيد السيستاني فتواه الشهيرة بحرمة دم العراقي بكلّ طوائفه، وحرمة الدم السنّي بالخصوص، بل قال: إنّ من واجب الشيعي أن يحمي أخاه السنّي، كما دعا السيد وأكّد على جميع العراقيين بجميع أطيافهم إلى التصدي لعدوّهم الأوّل (الإرهاب) الذي يهدد وحدة العراق، مؤكّداً أهميّة بناء جسور الثقة لتعزيز الوحدة الوطنية والسِّلم الأهلي، فاستطاع السيد بحكمته ورجاحة عقله أن يُبعد شبح الحرب الأهلية التي كادت أن تدخل العراق في بحر من الدماء, الأمر الذي يُظهر بوضوح ثقل ودور المرجع السيد السيستاني باعتباره صمّام أمان للعراق والعراقيين([39]).

  كما منع السيد أن تقوم حالة من الانتقام والاحتراب الداخلي، وسفك الدماء بحق رجالات النظام البائد ممّن كان لهم يد في قتل الأبرياء، إذ أوجب أن تحال هذه القضايا إلى المحاكم المختصّة في الدولة بعد قيام حكومة مستقلة ومنتخبة تدير شؤون البلاد، كما قام سماحته أيضاً بإيقاف سيل الدماء والحفاظ على أرواح الأبرياء من المدنيين في مدينة النجف الأشرف في آب (2004م)، حين دخلت إحدى الجهات المسلّحة (جيش المهدي) حالة من المواجهة والصراع والاشتباك المسلّح مع قوات الاحتلال، وقد اتخذت من حرم الإمام علي (عليه السلام) مقراً لها، وأرادت قوات الحكومة العراقية الدخول إلى المدينة المقدّسة بمساندة القوات الأمريكية, ممّا يعني حدوث مذبحة كبيرة، ناهيك عن انتهاك حرمة المدينة المقدّسة وما لها من مكانة في نفوس المسلمين عموماً والعراقيين بوجه خاص، فقد بادر السيد إلى حلّ النزاع بعد لقاءات متعددة بين الأطراف المتنازعة قام بها ممثلون عن سماحته، وقد أثمرت جهوده المباركة بحل الأزمة بعد أن عجز عن حلّها كثيرون من أهل العلم والجاه والساسة([40]),وبذلك استطاع حفظ الأمور وصيانة الاعراض عن الانتهاك والتعدي بحجة الانتماء الديني أو المذهبي أو السياسي أو العرقي أو القومي.

ثالثاً: حفظ العراق من الاحتلال الخارجي :

ذلك من خلال الوقوف بوجه المخططات العدائية لتفريق الصف واقتتال ابناء الشعب الواحد على أسس قومية أو عرقية وأو مذهبية أو دينية، التي سعى الاحتلال الامريكي إلى إيجادها في الأوساط العراقية عبر شبكاته وسائله الاستخبارية الخبيثة، غير أنّ وعي المرجعية وما تتمتع به من حنكة سياسية وحكمة في العمل حال دون تحقيق اهدافها الخبيثة، لذا عدّ السيد السيستاني وجود القوات المحتلة في العراق غير شرعي، وهذا الموقف لا غبار عليه عند القاصي والداني في العراق وخارجه، ولكنه (دام ظله) يرى أنّ المعركة من أجل استقلال العراق بحاجة إلى العقلانية، وإلى مرجعية سياسية وطنية ومرجعية دينية، تتظافر جهودهم مع كلّ أطياف الشعب واتجاهاته السياسية والاجتماعية، ومن خلال استخدام الأساليب المتحضرة والديمقراطية والمدنية سبيلاً لتجنيب العراق المزيد من الدماء، وطريقاً لنيل الاستقلال الكامل لكلّ أرض العراق، إذ يرى وجوب أن يعمل كلّ المعنيين بالمسألة الاستقلالية وحركتها الوطنية بكلّ السبل والإمكانات، من أجل إخراج الاحتلال بأقل الخسائر البشرية والسياسية من العراق، وأن يبقي نفسه على مسافة واحدة متساوية من جميع الفرقاء والقادة والاتجاهات في الساحة العراقية، إذ نلاحظ هذا الدور من خلال اهتمامه(دام ظله) بصورة كبيرة وملحوظة بموضوع الانتخابات البرلمانية وتشكيل الجمعية الوطنية، وذلك الاهتمام نابع من كون المجلس يمثّل المؤسسة الأقوى في الدولة، وهو الممثّل الشرعي للشعب العراقي([41]), ومن هنا كان السيد من أشدّ المناصرين لإجراء الانتخابات, وذلك لما للجمعية من أهمية في رسم ملامح المستقبل السياسي للعراق الجديد، إذ سعى بكلّ ثقله لإنجاح الانتخابات رغم المعارضة السنّية الواسعة([42]).

رابعاً: الدعوى الى تشكيل الحكومة :

  لقد أكد السيد السيستاني المرجع الأعلى(دام ظله) من خلال خطب الجمعة إلى الاسراع بتشكيل الحكومة المنتخبة وفق أسس المستحقات الانتخابية مع الابتعاد عن المحاصصة السياسية  والحزبية , إذ يرى هناك حاجة ماسّة جدّاً لسلطة عُليا تقوم على إدارة شؤون المجتمع وتسيير أُموره العامّة, وذلك لتحقيق التناسق بين الاحتياجات الاجتماعية المتفاوتة، وأساليب إشباع هذه الاحتياجات، وتجميع القوى الفعّالة وتوجيهها الوجه التي تؤهلها لخدمة المجتمع على النحو الأكمل، كما أنّ هذه السلطة ضرورية لإشاعة العدل بوجه الظلم والاعتداء على الآخرين وحقوقهم، وبالتالي يحتاج المجتمع إلى الموقف فيها رأياً موحداً يمتلك القاطعية والواقعية، والقدرة على التنفيذ([43]), فإنّ ضرورة حفظ النظام العام في الدولة ككيان تجتمع فيه الأفراد والجماعات، والذي يتم من خلاله إرساء مبادئ العدل والسلام، وأحقّية العيش الكريم، ضرورة تتفق عليها كلّ الآراء والأفكار الإسلامية من حيث النتيجة وإن اختلفت في شكل النظام السياسي السائد، وحدود الممارسة السياسية، والمعالجة الميدانية للحوادث في هذا البلد أو ذاك([44]), ولذا كان للسيد السيستاني موقفاً واضحاً في رفضه سياسة الاحتلال، وقد بيّن ذلك في مواقف عدّة، منها: رفضه استقبال الحاكم المدني بول برايمر لمرّات عدّة, لعدم وجود ما يستدعي هذا اللقاء([45]), إذ أُشير لهذا الأمر في ردّ على أحد أسئلة صحيفة اسهاي اليابانية ونصُّ السؤال هو: ما هي العلاقة بين الحكومة المؤقتة وبينكم؟ هل تتلقون الدعم منهم؟ أم ماذا؟ وكان جواب مكتب السيد ما يلي: «لا علاقة بيننا وبين السلطة المؤقتة، وأمّا الحكومة المؤقتة، فلم تتشكل بعدُ»([46]).

   لقد أكّد السيد على أبناء العراق الذين يمتلكون الكفاءة والمؤهلات أن يتصدّوا لإدارة البلاد، وليس عليهم أن يفعلوا ذلك تحت أيّ سلطةٍ أجنبيةٍ، ورفض السيستاني كلّ أشكال التدخل في الشأن العراقي، ووجوب نيل العراق لاستقلاله بصورة كاملة غير منقوصة([47]).

خامساً: الدعوة إلى كتابة الدستور الالتزام به :

  لقد ترك النظام البعثي المنحل دستوراً جائراً، ذبح تحت مقرراته وتشريعاته الكثير من الشرفاء العراقيين، وانتهك تحت مظلته الحقوق، استقوى به الظالم على المظلوم، حرم في البائس الفقير من أبسط حقوقه وممارسة حرياته، ولذا كان سقوط النظام الدكتاتوري إيذاناً ببداية مرحلة سياسية جديدة، تقوم على أساس المساواة في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها، لكن هذا التغيير السياسي للأسف الشديد في العراق رافقه مرحلة من الاحتلال العسكري الأجنبي، حاول هذا الاحتلال تجيير المرحلة لصالحه, بُغية الحصول على مكاسب، وفرض قوانين وتشريعات وآليات حكم تنسجم مع آيديولوجيته وتضمّن بقاء وجوده على أرض العراق بشكل أو آخر([48]), فكان على المرجعية الرشيدة التي أدركت خطورة هذه المرحلة باعتبارها تمثّل عودة للدكتاتورية تحت غطاء الديمقراطية, ولذلك أكّدت المرجعية على أهمية كتابة الدستور بأيدي أبناء العراق، وليس عن طرق آليات توضع من قِبل المحتل وبعض رجالات السياسة من العراقيين، الذين لا تهمهم هموم ومطالب أبناء الشعب العراقي، وقد جاء تأكيدها هذا من خلال العديد من البيانات التي تؤكّد عدم وجود أيّ جهة مخولة لكتابة الدستور ما لم يتم انتخابها من أبناء الشعب، عن طريق آلية الانتخابات الديمقراطية([49])، وعليه فلم تقف المرجعية موقف المتفرج على المذبوح وهو يلفظ آخر أنفاسه، بل بادرة من خلال دعوتها إلى كتابة الدستور العراقي الجديد، بالنحو الذي يؤمن الحقوق لكافة أطياف الشعب العراقي ، حيث جاء ذلك في معرض جواب سؤال وجّه من قِبل (جمع من المؤمنين) إلى مكتب سماحته في النجف، وكان السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعلنت سلطات الاحتلال في العراق أنّها قررت تشكيل مجلس لكتابة الدستور العراقي القادم، وأنّها ستُعيّن أعضاء هذا المجلس بالمشاورة مع الجهات السياسية والاجتماعية في البلد، ثمّ تطرح الدستور الذي يقرّه المجلس للتصويت عليه في استفتاء شعبي عام. نرجو التفضل ببيان الموقف الشرعي من هذا المشروع، وما يجب على المؤمنين أن يقوموا به في قضية إعداد الدستور العراقي.

 وكان جواب السيد السيستاني بخصوص هذا الأمر ما نصّه:

«إنّ تلك السلطات لا تتمتع بأيّة صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور، كما لا ضمان أن يضع هذا المجلس دستوراً يطابق المصالح العليا للشعب العراقي، ويعبّر عن هويته الوطنية والتي من ركائزها الأساسية الدين الإسلامي الحنيف والقيم الاجتماعية النبيلة، فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولا بدّ أوّلاً من إجراء انتخابات عامّة, لكي يختار كلّ عراقي مؤهل للانتخاب مَن يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثمّ يجري التصويت العام على الدستور الذي يقرّه هذا المجلس، وعلى المؤمنين كافّة المطالبة بتحقيق هذا الأمر المهم، والمساهمة في إنجازه على أحسن وجه، أخذ الله تبارك و تعالى بأيدي الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»([50]).

وكان الموقف الأوّل الواضح الذي صدر من المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف أن رفضت بشدّة إلغاء دور الشعب، وتعطيل إرادته الحرّة في اختيار دستور لبلاده عبر ممثلين، تضمّهم جمعية وطنية تختصّ بكتابة دستور جديد دائم للبلاد([51]), وبذلك استطاع السيد السيستاني أن يحمي التجربة العراقية وأن يصون حقوق الشعب العراقي دون انغلاق على الحكم وإن لم يعلن الإسلام كياناً للدولة، وأنّ الأسباب التي تدعوا المرجعية لدعم هذه التجربة، هي أنّ السلطة أصبحت شرعية بصندوق الاقتراع وليست قهرية، كما أنّها تعمل وفقاً لدستور ارتضاه الشعب([52]).

وهي بذلك تريد بذلك أن تحقق وتؤمن للشعب العراقي بكافة أطيافه ومذاهبه حقوقه كل بحسب استحقاقه وما له وما عليه من واجبات اتجاه  البلد الذي ينتمي إليه بحسب هوية العراقية.

المبحث الثاني: الابعاد الاجتماعية لخطب المرجعية الدينية (الشيعية) في العراق ما بعد 2003م

أولاً: فض النزاعات والاختلافات فيما يرتبط بحكم البعث المنحل :

  لقد ترك الحكم البعثي المقبور لوعة في صدور الشعب العراقي ، وذلك نتيجة ما قام به من جرائم بحق جميع أبناء الشعب العراقي أثناء فترة حكمه الجائر، فلم تسلم من سطوته شريحة من شرائح المجتمع العراقي على مختلف مستوياتهم العلمية والثقافية، فكما أن المعارض له من أبناء الشعب قد طاله سوط التعذيب والتنكيل والإعدام والزج في السجون، كذلك طال المخلصين له بالولاء ممن يسمونهم بالرفاق الحزبيين وقادة الجيش والشرطة ورجال الأمن، بل وصل الأمر إلى قتل كبار المسؤولين في الدولة والمقربين إليه والمدافعين عنه لاختلاف بسيط بين زعيم الحزب ورئيسه في العراق، أمثال قتل النائب الاول للقائد العام للقوات المسلحة عدنان خير الله نتيجة ارتكابه لخطأ بسيط في نظر القائد العام ورئيس مجلس قيادة الثورة صدام أنه جريمة يعاقب عليه بالاعدام, إذ كانت جريمته العفو عن الهاربين عن الجيش، إلا أن هذا العفو جوبه بالرفض من قبل صدام وراح ضحيته المئات من الأبرياء الذين انخدعوا بالعفو وسلموا انفسهم للجهات المختصة، كما طال الاعدام أقرب الناس إليه نسباً ومنصباً ـ الذي طالما دافع عنه بنفسه وارتكب الجرائم لأجله ـ المعروف بابن عمه حسين كامل، فضلاً عن مجزرة الرفاق الحزبيين الأوائل شاهد على هنجهية هذا الحزب وقياداته وجرائمه، وأما بالنسبة لما تعرض إليه الخيرة من أساتذة الجامعات ورجال العلم والطب والهندسة والتربية والتعليم فذلك غير خفي عن أحد, إذ لم يسلم أحد من جرائمه النكراء ، هذا على مستوى الأفراد والجماعات. وأما على مستوى القوميات والاقليات وما تعرضت له أثناء حكمه فتكفينا جرائم الانفال وما رافقها من تهجير الاطفال والنساء ودفن الغاليبة الكبرى منهم أحياء في الصحراء الغربية ، وما حادثة الدجيل التي راح ضحيتها من الأبرياء من النساء والأطفال كاف في إثبات هذه الجرائم، وقد كان لما يعرف عنهم بأعضاء الفرق والشعب والفروع الحزبية ورجال الأمن والمخابرات وغيرهم من أجهزة النظام البعثي القمعية الظاهرة والمخفية، دور كبير في القضاء على هذا الشعب المسكين الذي بابت يعيش الرغب والخوف في قرارة نفسه، وكأنه يتخطفه الطير، فلم يؤمن أحد على معاشه وحياته وأمواله وأعراضه, نتيجة هذه الممارسات القمعية الظالمة الجائرة، التي باتت لا تفارق الشعب ليلا ونهاراً، علناً وخفاءً، وقد ملئت هذه الجرائم قلوب الأحرار من أبناء هذا الشعب المظلوم، حتى بقي يتحين الفُرص للانقضاض على هذا الحكم وأزلامه، وقد جاهد بنفسه بتعريضها الى خطر الموت، وضحى بخيرة شبابه في انقلاب عرف عنه بالانتفاضة الشبعانية في عام 1990م، ولكن غياب القيادة والتخطيط والتنسيق وحضور الأعداء ووقوفهم الى جانب الطاغية وحزبه الكافر، لم يوفق الشعب في انتفاضته من تحقيق أهدافه في القضاء على هذا الحكم والسيطرة على زمام الأمور، فدفع الثمن غالياً بسبب ذلك حتى أن الأحصائيات بلغ مبلغ موهلاً يقدر بخسارة أكثر من خمس ملايين شهيداً من خيرة الشباب الشيوخ والنساء والاطفال، فضلاً عن هروب أكثر من خمسة ملايين إلى خارج العراق بحثاً عن الأمن والأمان والاستقرار، حتى أضحى العراق خالياً من أبنائه، ومرتعاً لجلاوزة البعث ورجال الأمن، وحل ما حل بالعراق من الدمار والجوع ونقص في الأموال والأنفس، ولكن من خرج عنه لم يكن بعيداً عما يجري في العراق، بل راح يخطط لإسقاط النظام من خلال استراتيجيات وبرامج يعدها ويعمل بها سائر المكونات والفصائل والأحزاب من خارج العراق، إلى أن جاء اليوم الذي يقتص به من هذا النظام بقيام دول التحالف العالمي بالهجوم عليه وإسقاطه، ومن ثم العمل على إلقاء القبض على كبار رجاله ومنهم طاغيته الكبير هدام حسين، الذي قتل شر قتله, ليكون أضحية لجميع الشهداء الابرار من أبناء هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره.

  وهنا سنحت الفرصة للاقتصاص من هؤلاء المجرمين ممن تلطخت أيدهم بدماء العراقيين وتنسجت أنفسهم بأعراض المساكين، وحلت الفوضى في غياب القانون الحاكم، فلم يبق سواء المرجعية الدينية قانوناً يلتجأ إليه الناس في تأمين حقوقهم، ومعرفة أحكامهم ،وتشخيص مواقفهم ووظائفهم، ازاء ما حل بهذا الشعب وأبنائه الشرفاء على أيدي هؤلاء المجرمين، ولأجل أن لا تكون الفوضى حاكمة على الجو العام، وتراق الدماء أكثر مما أريقت سابقاً، وبما أن الشعب العراقي تحكمه مجموعة من الروابط الاجتماعية تحكمها مجموعة من الأعراف والرسوم والأحكام عشائرية ، ولئلا تراق الدماء ولأجل فض النزاعات والاختلافات بين القاتل والمتقول، ولأجل إحلال الأمن والسلام بين أبناء هذا الشعب، وجهت المرجعية الدينية خطابا دينياً معتدلاً يعتمد الاسس والمبادئ الشرعية في حقن الدماء وصيانة الأموال والأعراض، ودعت الشعب إلى محاكمة هؤلاء المجرمين الى القانون العادل، فإن ثبت ما يدعيه المتضرر وتورط الضار بذلك اقتص منه بالقانون، إما بالقصاص العادل، وإما بدفع الدية لأهل المقتول، وعندها بدأت الأوضاع تقترب نحو الهدوء، والعمل وفق القوانين والموازين الشرعية.

  قد دعت المرجعية إلى التفكير بما حصل بالعراق والهجمة العدائية والاحتلال لأرضه واستغلال ثرواته تحت غطاء الحماية والنصرة لأهله، إذ بات العراق بين مرارتين مراة المحتل، ومراة الحكم المنحل والقضاء عليه، فإن له خلايا تعمل بالخفاء ضد هذا الشعب وتتآمر عليه بجميع أنواع المؤامرة للانقضاض عليه بأمل العودة والرجوع الى الحكم مرة أخرى تحت مختلف المسميات وبشتى الطرق والاساليب المعاصرة، وهكذا وبعدة فترة وجيزة من سقوط النظام واحتلال البلاد من قبل قوى الاستكبار العالمي المتمثلة بقيادة أمريكا ومخططاتها لتدمير جميع النبى التحتية للعراق، بحيث نجحت أيما نجاح في خلق الفتن والنزاعات الطائفية والمذهبية والحزبية بين مكونات الشعب العراقي, ليصفو لها الجو في تمرير مخططاتها وتنفيذ خططها، وقد انشغل ابناء هذا البلد الجريح فترة طويلة بالاقتتال والنزاع فيما بين مكوناته راحت ضحيته الالاف من الأرواح البرية، فضلاً عم حصدته السيارات المفخخة والتفجيرات في مختلف مدن العراق، وبالخصوص المناطق التي يكثر فيها التواجد الشيعي، إذ هو المستهدف الأول من وراء جميع هذه الهجمات بتدبير وتخطيط أمريكي صهيوني سعودي. فكان لتلك الخطابات الدينية من مكتب سماحة المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني(دام ظله الوارف) صداها وأثرها الإيجابي في حفظ الأمن والاستقرار وحقن الدماء وصون الأعرض في المناطق الشيعية بما يرتبط بعملية الاقتصاص من أيتام البعث المقبور، إذ فضت الكثير من النزاعات والاختلافات بدفع الدية، أو العفو عنهم عند عدم قيام الدليل على إثبات تورط البعض منه في مثل هذه الجرائم العظيمة بحق أبناء هذا الشعب المجاهد.

ثانياً: فض النزاعات والاختلافات المذهبية بين المكونات العراقية :

  لقد وقفت المرجعية الدينية موقف عادلاً ازاء جميع مكونات الشعب العراقية بما فيهم من يختلف معها في الدين والمذهب, إذ لم تجعل الاختلاف الديني والمذهبي عنوانا لحركتها وحراكها ازاء ما يرتبط بالأوضاع المأساوية التي يمر بها أبناء العراق المجاهد، وبالأخص ما يعصف به نتيجة الخلافات المذهبية التي كانت وراءها المخططات والمؤامرات الامريكية الصهيونية، التي تعذى بفتاوى علماء الفتنة، من علماء الوهابية وحكومة آل سعود المجرمة بحق الشعوب الإسلامية الشيعية المتحررة، فضلاً عمن يقوم بها من أزلام البعث المقبور ورجال أجهزته القمعية، قلم تصدر فتوى من المرجعية العليا في النجف الأشرف بقتل ومحاربة أهل السنة ولا سائر الديانات الاخرى التي باتت هي الأخرى ضحية لفتاوى التكفير، حالها حال الشيعة في العراق، على الرغم من أن العراق عاش حالة من الرعب والقتل والتنكيل بأبنائه من قبل أغلبية أبناء المذهب السني في بغداد وأطرافها، حتى أضحت بغداد تصبح وتمسي على دوي السيارات المفخخة وأصوات سيارات الاسعاف والاطفاء وسيارات فرق الانقاذ، فضلاً عن نصب السيطرات الوهمية على الطرق العامة باسم المجاهدين ورجال المقاومة من أهل السنة الدواعش، الذين تركوا المحتل يعيث الفساد وينهب الخيرات ويتوجه بفوهة بنادقه الى صدر أخيه، الذي لم يأل أدنى لحظة عند استصراخه وانقاذه من شتى المصاعب والازمات، ولم يعبأ بالمخاطرة بنفسه من أجله، فقد حصدت تلك المؤمرات والعمليات الارهابية أرواح الألاف من الشيعة وسائر المكونات الدينية الأخرى، ولم تسلم منها الأماكن المقدسة ودور العبادة، فقد أعادوا بأفعالهم هذه أفعال أسيادهم الوهابيين في هجمتهم على العتبات المقدسة لكربلاء الشموخ والتضحية.

  ولكن على الرغم من ذلك كله وحصد آلاف الأرواح من الأبرياء من الشيعة والاعتداء على دور العبادة كالمساجد والحسينيات وأهلها، فضلاً عن الاعتداءات التي تعرضت لها الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء، وقتل الخيرة من علماء العراق وخبرائه، إلا أن المرجعية الدينية في النجف الأشرف كانت على وعي تام بهذه المخططات والمؤامرات ومن رواءها وما هي أهدافها، فراحت تخاطب القاتل المغرر به، أنكم لستم أخواناً فحسب، بل أنتم أنفسنا، وهي كلمة لا يقولها إلا من أدرك عظم المؤامرة وأرادة تفنيدها وتفنيد أهدافها وزرع اليأس في قلوب أصحابها، في الوقت الذي تسمع وترى علماء الفتنة في العديد من البلدان العربية بإطلاق فتوى الإرهاب والقتل والتنكيل بالشيعة، وبالأخص شيعة العراق، وتجنيد الالاف من أبنائها لما يسمى بالجهاد في ارض الإسلام ضد الروافض من شيعة أهل البيت (ع)، بل الأدهى من ذلك تسمع الأصوات وترى الشخصيات من علماء أهل السنة من العراق وهم يصطفون جنبا إلى جنب قادة الإرهاب ويهتفون بقتل الروافض والشيعة في ساحات الفتنة ومنصاتها في الأنبار والتكريت والموصل وغيرها من المدن، التي أضحت ساحاتها أبواق ومزامير لأرباب الفتن وقادته، ولكن ذلك لم يغير من موقف المرجعية الدينية العليا، التي أخذت على نفسها أن تقف سداً منيعا وصمام أميناً أمام جميع الفتن، لتفويت الفًرص على أهلها من دعاة الفتنة وطلابها ومن يخطط ويعمل لأجل إثارتها بين مكونات الشعب العراقي، مهما كلف ذلك من الثمن الباهظ, إذ بوأدها وتفنيدها أفضل وانجع من الخوض والوقوع فيها، فعلاج السبب أنجع من علاج المسبَبَ، فبالقضاء على السبب يتعافى المسبب، ثم يشفى منه ولا يعود إليه، هذا هو ما كان نتيجة لفعل المرجعية, إذ بات الشريف من أهل السنة المغرر بهم في السابق يحسدون الشيعة على ما أنعم الله به عليهم من هؤلاء العلماء الأفذاذ من ذي العقول الراجحة، حتى أصبحت أقواله وخطبه وبياناته تصغي إليه الآذان منهم، وأضحى العدو بالأمس مسالماً له يقف إلى جنبه ويعمل بفتواه، كالتي أيقضت ضمائر الجميع (فتوى الجهاد الكفائي) واصطف الجميع للقتال تحت مظلتها والاستشهاد والتطوع والالتحاق بصفوف المجاهدين من ابناء الحشد الشعبي والعشائري، وقام ببذل الغالي والنفيس لأجل الخلاص من عدو الإنسان قبل الدين (دواعش العصر) ربائب مثلث الانتقام امريكا والصهيونية والوهابية، حتى انتهى الأمر بقتل وأخراج جميع الدواعش التي دنست أرض العراق بأفكارها وأفعالها, إذ لم يسلم منها لا النسل والحرث، مكروا ومكر الله والله خير الماكرين، فباءوا بعارها وشنارها، وانتصر الأشراف من العراقيين بجميع مكوناتهم بفضل قيادتهم ومرجعيتهم الدينية الحكيمة، وخرج العراقي مرفوع الرأس يحمل بشائر الانتصار ورسائل السلم والسلام والإسلام للعالم برمته، فلم يكن من موقف يشهد له كموقف الحشد الشعبي، ولا قيادة حكيمة كقيادة المرجع الأعلى في النحف الأشرف في العراق، على الرغم من جميع المخططات والمؤامرات للحد من حركته وتفريق الناس عنه، إلا أنّ حبّه بات في ضمير كل عراقي شريف، يريد الخير ويحبّه لأهله، فجعل الله الخلاص من هذه المؤامرة الكبيرة على يده فشهد له القاصي والداني، ومات العدو بحقده وضغينته، وبقي يتحين الفرص للبحث عن وسيلة أخرى غير المواجهة الميدانية، ولا زال يبحث ويجرب شتى الطرق والأساليب لإيجاد فجوة بين القيادة والمرجعية الدينية وأبناءها من الشرفاء والأصلاء من جميع مكونات الشعب العراقي، بغض الطرف عن دياناتهم ومذاهبهم وتوجهاتهم الحزبية والطائفية، فالحذر كل الحذر من شيطان يبحث عن مدخل يدخل به مرة أخرى, ليزرع الفرقة والخلاف ويعمل على تأجيج الفتنة بين أبناء هذا المكون والنسيج الواحد بفضل قيادته الحكيمة.

ثالثاً: فض النزاعات والاختلافات العشائرية :

  إنّ من بين الكوارث والحوادث المهلكة للحرث والنسل، التي لا تقل خطورة عن كوارث وحوادث التفرقة المذهبية والنزاعات الدينية، هي ما يتعرض له بلد المقدسات في مختلف مناطقه ـ على حد سواء ـ من نزاعات بين العشائر والقبائل العراقية في ظل غياب تطبيق القانون وتحكيمه، من نزاعات واختلافات تنتهي في أغلبها إلى الاقتتال والتهجير ونحو ذلك، فقد باتت العشيرة التي كانت بالأمس مأوى الضيف وصمام أمام الحوادث والنزاعات والحيلولة دون حصولها قبل وصولها إلى حالة الاقتال وزهق الأرواح البرية، عن طريق تفعيل بعض العادات والتقاليد التي اعتادها زعماؤها عليها، كالهدنة وأخذ العطوة، لئلا تتوسع المشكلة وتنحو منحى آخراً، فكانت تحل بالطرق الشرعية والقانونية والعرفية العادلة، ولكن غياب القانون أو تطبيقه والتجاوز على بعض الأعراف والعادات القبلية والعشائرية في الآونة الأخيرة مع امتلاك انواع الأسلحة الفتاكة وسوء استخدامها من البعض، أدى إلى حصول كوارث عظيمة بين مكونات الشعب بطابع عشائري مقيت، إذ إنك تجد العشيرة برمتها تقف الى جنب الفاعل ظالماً كان أم مظلوماً، ممّا أدى إلى حدوث الصراعات والصدامات كثيرة راح ضحيتها عشرات الأبرياء وزهق فيها الأنفس المحترمة، بل تعدى الأمر وتجاوز حدوده العرفية، فلم يسلم ـ كما كان سابقاً ـ من حصول هذه الحوادث العشائرية الأموال والمساكن ونحوها، إذ بدأ البعض بنهب أموال الخصم وحرق بيوته وهدمها وتلف ممتلكاته ونحو هذه الأفاعيل، التي لم ينزل الله فيها من سلطان، وعلى خلاف ما اعتاد عليه في الأعراف السابقة، بل تجاوز ذلك كل القيم والمباديء الانسانية, إذ لم تبق حرمة لمن يريد لهم الصلاح والستر، أعني بمن يتوسط لهم بأخذ الهدنة والعطوة، فقد تجاوز البعض عليهم مستهيناً بجميع القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية،  مستخفاً بجميع ذلك، فيبدو بالغدر والخيانة بعد أن أعطى الأمان والعطوة لبعض العشائر التي سعت لأطفاء الفتنة وأنهاء النزاع والاقتتال، كما أن من صور التجاوز على الأعراف والمبادئ العشائرية المطالبة بأخذ الدية بما يتجاوز حدها الشرعي والقانوني، مما يثقل كاهن العشيرة الأخرى، حتى أذ وصل الأمر الى وقوف رئيس  عشيرته بوجه وعدم القبول بذلك، انسلخ عن عشيرته وانفرد بمطالبته دون أدنى احترام للقيم والمبادئ التي تمليها عليه عشيرته وسنن العشائر الأخرى، مصراً على فعله ومطالباً بنفسه دون رضا عشيرته، متنصلاً بذلك عن جميع تلك القيم والمبادئ والأعراف ويقول قولته التي تعارف عليها في المجتمعات العشائرية (أخذ بختي) ظناً منه بأن ذلك من أفعال الرجال وقدرتهم في الظلم، ونسي قدرة الله عليه، ولأن للظالم سيفاً ينتظره، وعندها يستغيث فلا يغاث، ويستصرخ فلا مستصرخ له، ويستنصر فلا ناصر له..

  وعلى أية حال فإن ما حصل بعد عام 2003م من مصائب وحوادث وكوارث نتيجة النزاعات العشائرية والاصتدامات بينها ما لا تحمد عقابه، ومنها ما يندى الجبين لها، لخستها وخسة فاعلها، غير أن هذا لا يعني أن المرجعية الدينية غائبة أو بعيدة عن هذه الحوادث، ولم يكن لها موقف إزاءها، بل بادرت المرجعية الدينية من خلال خطبها في الجمعة، وبياناتها الموجهة، وسفراءها المرسلة إلى رؤساء العشائر، بتصحيح المسار والعمل وفق الموازين الشرعية والحفاظ عليها، لأن العشائر تمثل في نهجها وتشيعها خط أهل البيت (عليهم السلام) ، فهم الأولى في العمل بمنهج أئمتهم (عليهم السلام) وهم من دافعوا عن الدين والمقدسات وقارعوا الظلم والظالمين وطهروا البلد من دنس الدواعش والمحتلين من قوى الاستكبار العالمي على مر التأريخ، ولهم من المواقف المشرفة في الأخذ والعمل بفتوى المرجعية الدينية في النجف الأشرف، فبدأت المرجعية تخاطبهم خطاب الأب الروحي لابنه المشفق عليه، فالتزم البعض وأخذ بقولها وتردد البعض من مشاكلها العويصة، من خلال إرسال وفود خاصة من قبلها لفض نزاعاتها المستعصية على فضها وانهائها من قبل سائر العشائر الأخرى، وعجز عنها قانون الدولة ورجالها، فلم تقف المرجعية الدينية إزاء هذه الحوادث العصيبة موقف المتفرج عليها, وهذا هو دأب المرجعية العليا كما عهدنا في زمننا الحاضر وحاجة المجتمع إليها.

رابعاً: رعاية المؤسسات الاجتماعية والخدمية والصحية :

  هناك عدة مؤسسات خدمية واجتماعية ظهرت بعد عام 2003م كان للمرجعية دور كبير في ايجادها من قبيل مؤسسة العين لرعاية الايتام ورعاية الفقراء والمحتاجين للعلاج ممن ليس لدية قدرة على مواصلة العلاج أو اجراء بعض العمليات الجراحية الكبرى وعمليات النظر ونحوها، فلم يكن للمرجعيات السابقة دوراً بارزاً كهذا الدور الذي قامت به مرجعية السيد علي السيستاني (دام ظله الوراف) بعد عام 2003م, نتيجة الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يمر بها بلد المقدسات العراق، مما دعى بها إلى الإشراف الخاص لمتابعة عمل هذه المؤسسات الخدمية والاجتماعية , وذلك من خلال تشكيل لجان خاصّة تعمل تحت اشرافها ووفق توجيهاتها                     وارشاداتها الابوية.

  علاوة على هذا قامت بالإشراف على البرامج والخدمات التي تقوم بها العتبات المقدسة، وعلى وجه الخصوص العتبتين الحسينية والعباسية في كربلاء من مشاريع اجتماعية وخدمية واقتصادية كبيرة ساهمت بشكل كبير في توفير وسائل الراحة للزائرين، كالمدن الزائرين التي أقيمت لهذا الأمر، والمستشفيات ومراكز الصحة ودور الضيافة ونحوها، إذ لم يكن قبل عام 2003م أي دور للعتبتين المقدستين في تأمين وتوفير مثل هذه الخدمات الكبيرة.

خامساً: دعمها للتكافل الاجتماعي :

  لقد تجلى هذا الأمر عندما سمحت المرجعية بالاذن في صرف اموال الخمس لدى المؤمنين على فقراء العراق والمحتاجين وسائر وجوه البر، دون ان تقوم باستلام هذه الاموال من ثم القيام بتوزيعها بحسب ما تراه من وجوه البر، بل كان ذلك العمل خطوة نحو التكافل الاجتماعي بين ابناء البلد الواحد، وقد ساهم بدور كبير في معالجة العديد من مشاكل الفقر وسد الاحتياج لدى الفقراء والمساكين، بل وشجع ذو المال على اخراج حق الخمس من اموالهم ، لانهم يرون ذلك خطوة نحو الاصلاح وطهارة النفوس والاموال، دون ان تراودهم ادنى الشكوك ووساوس الشيطان.

 

الخاتمة

النتائج والمقترحات

أولا: النتائج النهائية :

لقد توصلنا إلى مجموعة من النتائج الكلية، نذكر منها:

  1. إنّ المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف بعد عام (2003م) لم تكن بعيدة عما جري ويجري في العراق بعد الإطاحة بنظام الحكم البعثي الطاغي آنذاك، دون أن يكون لها أيّ دور كبير وبارز إزاء ما يحدث في العراق، بل كانت مع الأحداث قلباً وقالباً.
  2. إنّ موقفها إزاء الأحداث التي جرت في العراق بعد عام (2003) لم تشهده سائر المرجعيات الأخرى في بلدان العالم الثالث عند حصول مثل هذه الانقلابات والتغييرات في الحكم.
  3. إنّ مسؤوليتها كانت كبيرة وعظيمة توزعت على مختلف المجالات الحياتية، وهي بذلك صمام الأمان لهذا البلد الجريح، وتسجل موقفاً مشرفاً يضاف إلى مواقفها المشرفة في التاريخ الإسلامي لمرجعيات مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، بل يعدّ تحولاً جديداً في مسارها ومسؤوليتها الدينية والاجتماعية متحدية بذلك جميع الخطط والاستراتيجيات العدائية للعراق بجميع أطيافه وطوائفه وعلى مختلف الأصعدة الحياتية، هذا من جانب.
  4. لقد أزالت الستار عن وجه العمل الديني ومسؤوليته الإلهية ازاء التحديات والمواقف العدائية والاحداث الاجتماعية والسياسية، وبذلك فتحت أفقاً جديداً لمن يتصدى للمرجعية الدينية العليا, وفيما عدا ذلك لا يستحق التمثيل والمسؤولية الدينية الكبيرة ازاء الجميع.

ثانياً: المقترحات والتوصيات :

  1. نرى أنَّه من الواجب الإنساني والوطني والديني أن نقف جنباً الى جنب المرجعية الدينية العليا في مواجهتها للهجمة العدائية التي تحاوت فصل الأمة عنها، والتقليل من أهميتها ودورها السياسي والاجتماعي، وذلك من خلال التعريف والتشييد بمنجزاتها ومعطياتها ومواقفها ضد المخططات الاستعمارية للدول الاستكبارية ومن يقف معها من دول الأخرى بهدف ضرب وحدة العراق وتدميره ونهب خيراته ورزع التفرقة بين مكوناته المختلفة.
  2. ربط الأمة بمرجعيتها وبالأخص الطبقة الشبابية المثقفة، من خلال إقامة المؤتمرات والندوات والأنشطة الثقافية بما يرتبط بتعريفهم بأهمية المرجعية الدينية ودورها.

 

فهرست المصادر

القرآن الكريم

  1. ابن فارس، جعفر بن احمد  ، مجمع المقاييس في اللغة،  نشر المكتب الاعلام الاسلامي 1404هـ.
  2. ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، باب السين، نشر ادب الحوزة، قم، 1405 هـ.
  3. ابن نجيم، البحر الرائق، كتاب الحدود، نشر دار الكتب العلمية بيروت ، 1997م.
  4. أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1412هـ.
  5. البدران، ضياء، مجموعة مقالات الثورة الإسلامية والمتغير الدولي، كيهان العربي شعبان 1995م/ 1414هـ.
  6. البغدادي الحنبلي، علي بن عقيل، كتاب الفنون، در الفكر،بيروت.
  7. البغدادي، عمار، مبادئ الدولة والقيادة لدى مراجع الحوزة العلمية مقاربة في رؤى الخميني ـ النائيني ـ الصدر ـ السيستاني.
  8. بهشتي، د. أحمد، فلسفة دين [فارسي]، دار الكتب الاسلامية ، طهران.
  9. الجزولي، د. محمد بن علي اليولو "إصلاح المجتمع"، alquatan.org، اطّلع عليه بتاريخ 5/3/ 2018.
  10. الجوهري، إسماعيل بن حماّد، الصحاح: تحقيق د. إميل بديع يعقوب.
  11. الجوهري، د. محمد المدخل إلى علم الاجتماع، طبعة بيروت.
  12. الحائري، كاظم، المرجعية والقيادة، نشر مكتب اية الله العظمى السيد كاظم الحائري، قم.
  13. حسن عبد الرازق منصور، بناء الإنسان الطبعة الثانية / 2013، عمان- الأدرن: أمواج للنشر والتوزيع.
  14. الحكيم، محمد باقر، موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، طبعة قم.
  15. الحوفي، احمد محمد، أدب السياسة ، طبعة بيروت.
  16. الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية .
  17. خلاف، عبد الوهاب، كتاب السياسة الشرعية.
  18. الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد  ، معجم  مفردات ألفاظ القرآن، مادة رجع .
  19. رايموندي، كارفيلد، العلوم السياسية، طبعة مصر.
  20. الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس، دار الفكر، بيروت، 1994م.
  21. السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً
  22. السيد سلمان، حيدر نزار، فكرة الديمقراطية عند المرجعية الدينية في النجف الأشرف، بحث منشور في كتاب إشكاليات التحوّل الديمقراطي في العراق.
  23. الطوسي، محمد بن الحسن، الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد ، دار الفكر بيروت.
  24. الظالمي، صالح، المرجعية والمواقف الصريحة السيد السيستاني أُنموذجاً، بحث منشور في مجلة آفاق نجفية، العدد الثاني، 2006م .
  25. عبد الرزاق، صلاح، المرجعية الدينية في العراق والانتخابات البرلمانية وتعزيز الوحدة الوطنية .
  26. الفراهيدي، الخليل بن احمد، العين، تحقيق مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، تنقيح اسعد الطيب.
  27. الفيومي، احمد بن محمد بن علي، المصباح المنير، دار الهجرة، قم، 1414هـ.
  28. مقابلة مع السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع علي السيستاني، جريدة الحياة: العدد 14634)، 18/4/2003م.
  29. موقع: "تعريف و معنى مجتمع في معجم المعاني الجامع"، almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 5/3/ 2018.
  30. النبراوي، خديجة، حقوق الإنسان في الإسلام، طبعة بيروتـ الطبعة الاولى.

 

([1]) نقلا عن موقع الثقافة التربوية ( www.manhal.net ) مقالة تحت عنوان (الخطاب).

([2]) نقلا عن موقع الثقافة التربوية ( www.manhal.net ) مقالة تحت عنوان (الخطاب).

([3]) الفراهيدي، أحمد، العين، ج8، ص73.

([4]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص299.

([5]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص509.

([6]) يوسف/ 40.

([7]) يوسف/ 76.

([8]) الفاتحة/ 4.

([9]) انظر، بهشتي، د. أحمد، فلسفة دين [فارسي]، ص43.

([10]) الفراهيدي، الخليل بن احمد، العين، تحقيق مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، تنقيح اسعد الطيب، ج2، ص778.

([11]) الطريحي، فخرا لدين، مجمع البحرين، ج4، ص78.

([12]) ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، ج6، ص429، باب السين.

([13]) الفيومي، المصباح المنير، نقلا عن نظام الحكم في الإسلام، ص3.

([14]) الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، ج2، ص935، باب السين، فصل السين؛ ابن منظور جمال الدين، لسان العرب، ج6، ص108.

([15]) الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس، ج4، ص169، باب السين، فصل السين.

([16]) البغدادي الحنبلي، علي بن عقيل، كتاب الفنون، ص513.

([17]) ابن نجيم، البحر الرائق، كتاب الحدود ، ج5، ص11، ؛ خلاف، عبد الوهاب، كتاب السياسة الشرعية، ص3.

([18]) البدران، ضياء، مجموعة مقالات (الثورة الإسلامية والمتغير الدولي)، كيهان العربي شعبان 1995م/ 1414هـ.

([19]) مايل، كومبلاند، لعبة الأمم، ص10.

([20]) رايموندي، كارفيلد، العلوم السياسية، ص16.

([21]) الحوفي، احمد محمد، أدب السياسة، ص7.

([22]) العلق: 8.

([23]) المائدة : 48.

([24]) ابن منظور، محمد بن مكرّم، لسان العرب: ج8، ص114، مادة (رجع).

([25]) الجوهري، إسماعيل بن حماّد، الصحاح: ج3 ص1216، تحقيق د. إميل بديع يعقوب.

([26]) الطارق: 11.

([27]) الجوهري، إسماعيل بن حماّد، الصحاح: ج3 ص1216، تحقيق د. إميل بديع يعقوب.

([28]) ابن فارس،  جعفر بن احمد  ، مجمع المقاييس في اللغة: ج2، ص490، مادة (رجع).

([29]) الراغب الأصفهاني،  الحسين بن محمد  ، معجم  مفردات ألفاظ القرآن : ص118، مادة (رجع).

([30]) راجع: الحكيم، محمد باقر، المرجعية الدينية: ص22.

([31]) الحكيم، محمد باقر، المرجعية الدينية: ص60.

([32]) الحكيم، محمد باقر، موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية: ج2 ص23.

([33]) حسن عبد الرازق منصور (2013)، بناء الإنسان (الطبعة الثانية )، عمان- الأدرن: أمواج للنشر والتوزيع، صفحة 187. بتصرّف.

([34])"تعريف و معنى مجتمع في معجم المعاني الجامع"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2018-3-5. بتصرّف.

([35]) د. محمد بن علي اليولو الجزولي، "إصلاح المجتمع"، www.alquatan.org، اطّلع عليه بتاريخ 2018-3-5. بتصرّف.

([36]) د. محمد الجوهري، المدخل إلى علم الاجتماع، صفحة 32-33. بتصرّف.

([37]) الطوسي، محمد بن الحسن، الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد: ص297.

([38]) اُنظر: الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص357ـ358.

([39]) اُنظر: الظالمي، صالح، المرجعية والمواقف الصريحة السيد السيستاني أُنموذجاً، بحث منشور في مجلة آفاق نجفية، العدد الثاني، 2006م: ص78.

([40]) اُنظر: الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص76.

([41]) اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، فكرة الديمقراطية عند المرجعية الدينية في النجف الأشرف، بحث منشور في كتاب إشكاليات التحوّل الديمقراطي في العراق: ص97.

([42]) اُنظر: عبد الرزاق، صلاح، المرجعية الدينية في العراق والانتخابات البرلمانية وتعزيز الوحدة الوطنية: ص75.

([43]) اُنظر: الحائري، كاظم، المرجعية والقيادة: ص31.

([44]) اُنظر: النبراوي، خديجة، حقوق الإنسان في الإسلام: ص298.

([45])اُنظر: الظالمي، صـالح، المرجعية والمواقف الصريحة، السـيد السـيستاني أُنموذجاً، بحث منشور في مجلة آفاق نجفية، العدد الثاني، 2006م: ص14.

([46]) الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص44.

([47])اُنظر: مقابلة مع السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع علي السيستاني، جريدة الحياة: العدد (14634)، 18/4/2003م.        

  ([48]) اُنظر: الظالمي، صـالح، المرجعية والمواقف الصريحة، السـيد السـيستاني أُنموذجاً، بحث منشور في مجلة آفاق نجفية، العدد الثاني، 2006م: ص13ـ14.

  ([49]) اُنظر: الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص325.

 ([50]) اُنظر: الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص225.

 ([51]) اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً: ص44.

([52]) اُنظر: البغدادي، عمار، مبادئ الدولة والقيادة لدى مراجع الحوزة العلمية مقاربة في رؤى الخميني ـ النائيني ـ الصدر ـ السيستاني: ص97ـ113.