دراسة : الديارات والكنائس تراثٌ زاخر

حسين جلوب الساعدي

رئيس مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية

 

المسيحيّة: هي الديانة الثانية في العراق من حيث عدد الأتباع بعد الإسلام، وهي ديانةٌ معترف بها حسب الدستور العراقي الذي نصّ على أربع عشرة طائفة مسيحيّة في العراق يُسمح التعبّد بها.

يتوزّع أبناؤها على عدّة طوائف، ويتكلّم المسيحيون في العراق اللغة العربيّة والكرديّة، لكنّ لغتهم الأساسيّة هي الآراميّة (قرى سهل الموصل) والتي هي لغة السيّد المسيح، والتي لا تزال تستعمل في طقوس الكنيسة، وهناك اللغة السريانيّة التي يتحدّث بها الكثيرون من العراقيين المسيح من كلدان وسريان وآشوريين وأرمن، كما يفتخرون بعراقيّتهم المتأصّلة في عمق التاريخ: سومر، آكد، بابل، آشور، الدولة الكلدانيّة...

 ويزداد فخرهم كون العراق يُعتبر مهداً لولادة المسيحيّة، وذلك على يد رسل السيّد المسيح في مدن العراق: (بابل ـ ساليق ـ كشكر ـ ميشان ـ حدياب ـ نصيبين ـ داسن ـ زوزان ـ كرخ ـ سلوخ ـ المدائن...).

وحسب التوزّع الجغرافي يتواجد المسيحيون في كافّة محافظات العراق تقريباً، وتعتبر منطقة سهل نينوى شمال العراق منطقة تمركز الوجود المسيحي في العراق، وهي منطقة جغرافيّة تابعة لمحافظة نينوى من شمال العراق إلى شمال وغرب مدينة الموصل.

 وتتألّف من ثلاثة أقضية هي: الحمدانيّة، والشيخان، وتلكيف. ويعتبر السهل المَوطن التاريخي لمسيحيي العراق وما يزال بها تواجد مسيحي مكثّف، إلى جانب تواجد اليزيديينوالتركمانوالشبكوالعرب.

 يتركّز متحدّثو اللغة السريانيّة في العراق في هذه المنطقة بشكلٍ خاص، كما أنّ هناك تواجداً للكنائس العراقيّة الرئيسيّة فيها وهي: الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة، الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة، كنيسة المشرق القديمة، وكنيسة المشرق الآشوريّة.

 وبناءً على هذا فقد سمحت الحكومة العراقيّة باستخدام اللغة السريانيّة في هذه المنطقة في مجالات التعليم وغيرها كاللافتات العموميّة. كما يتواجد في المنطقة عددٌ من أبناء الديانات الأخرى مثل: اليزيديين، والشبك، والمسلمين.

 تحوّلت منطقة سهل نينوى إلى نقطة تجمّع مسيحيي العراق بعد فرارهم من المناطق الساخنة في بغداد وجنوب ووسط العراق؛ وذلك لأنّها المنطقة الوحيدة في العراق ذات الغالبيّة المسيحيّة.

في حين أنّ التمركز العددي الأكبر لمسيحيي العراق هو في العاصمة بغداد، وتحديداً في منطقة الكرّادة والبتاوين والدورة وبغداد الجديدة والغدير والسيديّة والأعظميّة وشارع فلسطين وغيرها. في حين يتواجدون أيضاً في دهوكوأربيلوالبصرةوالعمارةوالحلّةوبعقوبةوالحبّانيّةوكركوك وغيرها، حيث تتواجد كنائس لهم فيها، ويعيش أكثر الآشوريين قرب الموصل. وقد جاءت أعداد كبيرة من المسيحيين الآشوريين إلى العراق من منطقة هكاري وما جاورها في تركيا بعد مجازر سيفو خلال الحرب العالميّة الأولى.

أمّا بالنسبة للأرمن في العراق فتواجدهم قديم، لكنّه ازداد بعد مذابح الأرمن في بدايات القرن العشرين، حيث يتمركز التواجد الأرمني في المدن الرئيسيّة مثل: بغدادوالبصرةوالموصل، وغيرها من المدن.

 

أمّا من حيث التوزّع الطائفي فيتوزّع مسيحيو العراق على عدّة كنائس تنتمي إلى عدّة طوائف تتّبع طقوساً مختلفة. وأغلب المسيحيين في العراق هم من أتباع الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة، حيث يتوزّع المسيحيون في العراق على الطوائف التالية:

1ـ أتباع الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة، وهم أكبر الطوائف المسيحيّة عدداً في العراق.

2ـ الطائفة السريانيّة الأرثوذكسيّة.

3ـ الطائفة السريانيّة الكاثوليكيّة.

4ـ الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة.

5ـ الكنيسة الأرمنيّة الأرثوذكسيّة، وهم غالبيّة أرمن العراق.

6ـ كنيسة المشرق القديمة.

7ـ كنيسة المشرق الآشوريّة أو الكنيسة الآثوريّة.

8ـ الروم الكاثوليك.

9ـ الروم الأرثوذكس.

10ـ الطائفة البروتستانتيّة الإنجيليّة الوطنيّة.

11ـ الطائفة الإنجيليّة البروتستانتيّة الآثوريّة.

12ـ طائفة الأدفنتست السبتيين.

13ـ طائفة اللاتين الكاثوليك.

14ـ طائفة الأقباط الأرثوذكس (وهم من الجالية المصريّة في العراق)

تاريخ المسيحيين في العراق

دخلت المسيحيّة إلى العراق في أواسط القرن الأوّل للميلاد (عندما كان العراق خاضعاً للحكم الفارسي)، ويعتبر القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين المركز الحقيقي لكلّ المسيحيين في الشرق، حيث تنتشر فيها أعرق الكنائس والأديرة القديمة، وعلى الرغم من تضارب الروايات والآراء حول كيفيّة دخول الديانة المسيحيّة إلى العراق، إلاّ أنّ جميعها تؤكّد في النهاية على الدور الذي لعبه المبشّرون في انتشار الديانة المسيحيّة في مناطق العراق المختلفة؛ إذ إنّ هناك تقليداً قديماً وشاملاً، بحيث يكاد لا يخلو منه أيّ مصدرٍ تاريخي مسيحي، يتناول المسيحيّة في ديار المشرق، يُثبت أنّ المسيحيّة انتشرت في بلاد المشرق منذ القرن الأوّل للميلاد، بما في ذلك العراق والمناطق التركيّة الجنوبيّة ومناطق شماليّة وغربيّة من إيران ومناطق أخرى متاخمة، على يد المبشّرين: (توما الرسول، ومار ادي، ومار اجي، ومار ماري)، وغيرهم من رسل المسيح وتلاميذه، واعتماداً على ما أوصى به السيّد المسيح: (اذهبوا في الأرض كلّها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين)، وبذلك يكون أصل المسيحيّة في العراق رسولياً، واستمرّ التبشير بالديانة المسيحيّة بالانتشار في مناطق العراق المختلفة.

وقد دافع المسيحيون العراقيون الأوائل عن وجودهم ومعتقداتهم دفاعاً مستميتاً، وما زال الكثير من القصص والملاحم تتناقلها الألسن حول المسيحيّة، منها قصّة مار بهنام والذي يسمّى (الشهيد وأخته سارة).

 وتقوم الناس بزيارة دير مار بهنام الواقع قرب قرية النمرود التاريخيّة (30 كم جنوب شرق الموصل) ليتناولوا ذكر ملحمة الشهيدين، ناهيك عن الكثير من قصص وملاحم الرهبان المسيحيين الموصليين الأوائل: (مار ميخائيل، مار يعقوب، مار توما، مار متي، مار يوحنّا). وتعتبر كنيسة مار بهنام ـ شرق الموصل ـ ودير مار متي في شمالها، من الكنائس القديمة  في القرن الرابع الميلادي.

وظلّ المسيحيون لهم الوجود البارز في العراق بانتشار الأديرة في كلّ مكان. وبعد دخول الإسلام للعراق تعامل المسلمون مع المسيح باحترام عالٍ على أساس المشتركات: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأُطلِق عليهم مصطلح أهل الكتاب.

وكان للمسيحيين في العراق خاصّة السريانوالنساطرة دورٌ مهم في الترجمة والعلوموخاصّة أيام الدولة العبّاسيّة، وأدّت الترجمة مهمّة رئيسيّة في ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وقد أتقن العرب ـ والمسيحيون منهم خاصّة ـ الترجمة واستوعبوا محتويات الكتب المترجمة، بعدما عرّبوها وأعادوا صياغتها وطوّروا مضمونها وأجروا عمليات نقد عليها، وأعادوا إنتاج الثقافات السابقة لهم ووضعوها بين يدي العالم في ما بعد.

 لقد ترجم المسيحيون من اليونانيّة والسريانيّة والفارسيّة،واشتهر من المترجمين: شمعون الراهب، وجورجيوس أسقف حوران، وجوارجيوس، وجبريل بن بختيشوع، الذين اشتهروا في الطب خصوصاً. وبقيت أسرة آل بختيشوع مسؤولة عن الطب في الدولة العبّاسيّة طوال ثلاثة قرون، وخَدمت كأطبّاء خاصّين للخلفاء العبّاسيين.

 وعيّن المأمون يوحنّا بن ماسويه الذي ترجم وألّف خمسين كتاباً رئيساً لبيت الحكمة، وكان أبوه أيضاً طبيباً،وحنين بن إسحاق كان أيضاً رئيساً لبيت الحكمة، ومن بعده ابن أخته حبيش بن الأعسم، وقد ترجم حنين بن إسحاق 95 كتاباً، كذلك سعيد بن البطريق له عدد من المصنّفات وقسطا بن لوقا.

 وقد أقام المأمون يوحنا بن البطريق الترجمان أميناً على ترجمة الكتب الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة، وتولّى كتب أرسطو وأبقراط.

 ومنهم أيضاً: إسحاق الدمشقي، ويحيى بن يونس، والحجّاج بن مطر، وعيسى بن يحيى، ويحيى بن عدي، وعبد المسيح الكندي، وقد ترجموا وألّفوا في الفلسفة والنواميس والتوحيد والطبيعيات والإلهيات والأخلاق والطبوالرياضياتوالنجوموالموسيقى وغيرها. ويشير عدد من الباحثين بنوعٍ خاص إلى تطوّر الفيزياء في اللغة السريانيّة.

وكان لترجمتهم كتب الفلسفة إلى العربيّة أثرٌ كبير في ظهور فِرق المعتزلة التي تجعل من العقل الحكم الوحيد في تفسير أحكام الشريعة الإسلاميّة. وأصبحت الفلسفة اليونانيّة المترجمة مدار البحث والاهتمام للفرقة الإسماعيليّة حتى تخرّج منها كبار الفلاسفة في التأريخ الإسلامي: كالفارابي، وابن سينا، وإخوان الصفا، وغيرهم.

 

تعدادهم:

كانت نسبة المسيحيين في العراق حسب إحصاء عام 1947م هو 3.1%، أي حوالي 149 ألف نسمة من أصل الأربعة ملايين ونصف سكّان العراق الإجمالي. كما قُدّر عددهم في العام (1975) بنصف مليون نسمة. غير أنّ تقرير الأمن العامّة أظهر عددهم وفقاً لإحصاء (1977) بما هو أقلّ من هذا بكثير من التصوّرات الحاليّة التي قدّرتهم بثلاثة أرباع المليون؛ إذ عدّهم التقرير المذكور بـ( 253.478) نسمة، وأوردَ عددهم الكلّي حسب الإحصاءات السابقة (1947، 1957، 1965) على التوالي (149.377) ، (204.226) ، (232.406) نسمة.

 في حين قُدّر عددهم في الثمانينات بين المليون والمليونا نسمة من مجموع سكّان العراق. وقد انخفضت هذه النسبة بسبب الهجرة خلال فترة التسعينات وما أعقب حرب الخليج الثانية من أوضاع اقتصاديّة وسياسيّة مترديّة.

 كما أنّ هذه الهجرة تسارعت وتيرتها بعد احتلال العراق عام 2003، وأعمال العنف الطائفي التي عصفت بالعراق وأدّت إلى تهجير عدد كبير من مسيحيي العاصمة بغداد وخصوصاً ضاحية الدورة، إضافة إلى مسيحيي المدن الأخرى، إلى خارج العراق أو إلى منطقة إقليم كردستان العراق الآمنة نسبياً، لذا يقدّر عددهم الحالي ما يقارب (500.000) شخص في عموم العراق، بعد أن كان عددهم (1.200.000) شخص، حسب إحصائيّة رؤساء الطوائف المسيحيّة والجهات المعنيّة.

الانتهاكات التي تعرّض لها المسيح:

منذ عام 1961ـ 1988 (لا بل قبلها في الحرب العالميّة الأولى وحرب الإبادة الجماعيّة في أحداث سميل سنة 1933)، تعرّض المسيحيون في العراق بسبب الحرب الدامية بين العرب والأكراد في شمال العراق (حيث كان المسيحيون يشكِّلون نسبة كبيرة في هذه المناطق) إلى قتل الكثيرين منهم ودُمّرت مئات القرى مع كنائسها، وفقد مسيحيّو المنطقة أرضهم ومقدّساتهم، وهاجر وتشرّد الآلاف إلى المدن الجنوبيّة.

 وقام الأكراد والعرب بالاستيلاء على القرى المسيحيّة في حملة لتغيير الواقع الديموغرافي للمناطق التي كان يسكنها المسيحييون.

وجاءت الحرب الإيرانيّة العراقيّة عام (1981) لتزيد مأساة الشعب المسيحي الذي فقدَ خيرة شبابه في حربٍ فُرضت عليه واستمرّت ثماني سنوات.

ثمّ خاضَ نظام البعث ـ بقيادة صدام حسين ـ حرباً ضدّ الكويت (حرب الخليج الثانية عام 1991)، فدخل العراق في حصار اقتصادي دام أكثر من 12 سنة عاش فيها الشعب العراقي عامّة والشعب المسيحيّ خاصّة المعانات اقتصادياً ونفسياً وثقافياً، حيث أصبح العراق سجناً كبيراً ومنعزلاً عن العالم.

 وفي فترة حكم البعث كان حال المسيحيين كحال بقيّة المجتمع، حيث كان الظلم بالتساوي ولم يخلُ بيت عراقي من مآسي الحروب التي أشعلها هذا النظام، حيث كان في كلّ بيت إمّا قتيل أو مفقود أو سجين .كما لا ننسى محاولاته المستميتة في محو هويّتهم وتهميشهم دورهم في المجتمع العراقي.

1.هدم القرى المسيحيّة

في بداية الستينات قبل الصراع بين بغداد والبارزاني كان هنالك حوالي 5000 كلدانياً يعيشون على أطراف زاخو، فالمنطقة الإداريّة المسيحيّة كانت تشمل 38 قرية مسيحيّة مع كنائسها أو بيوت عباداتها، ومقسّمة إلى 19 بارواس لكلّ منها قس، كان المسيحيون يشكّلون 54% من سكّان مدينة زاخو، وهنالك عشر قرى غالبيّتها مسيحيّة، لم يكن هنالك نسطوريون في زاخو، ولكن سكنت في العماديّة 150 عائلة كلدانيّة وعدد مماثل من النسطوريين.

 وكان هنالك أيضاً عدّة عوائل نسطوريّة في دووري في منطقة برواري بالا، حيث يعيش الأسقف النسطوري وقرب عقرة في نهلة، واعتبر الكلدانيون هؤلاء النسطوريين جهلة؛ لأنّهم لا يتابعون الاجتماعات الدينيّة.

إنّ وصول البعث إلى السلطة لم يؤثّر على ازدهار المجتمع المسيحي في العراق، على الأقلّ في بغداد والبصرة والموصل في المناطق العربيّة للعراق، حيث يشعر المسيحيون بأنّهم محميّون من قِبل البعث الذي يدّعي العلمانيّة!.. ولكنّ الأمور سارت بسرعة بشكلٍ آخر في المناطق الكورديّة، فمسيحيو كوردستان دخلوا في الصراع الدائر بين بغداد والحركة الكورديّة رغماً عنهم، فالحياد كان صعباً عليهم، فالذين كانوا يعيشون في بغداد مجّدوا النظام، والذين كانوا يتواجدون في المناطق الكورديّة التحقوا بالمقاومة الكورديّة.

 امتزجت مع المقاومة الكورديّة حوالي 200 بيشمركة كلداني قاتلوا بجانب الكورد المسلمين، وقوّة خاصّة أخرى مكوّنة من 500 بيشمركة نسطوري، وبدأوا يسمّون أنفسهم (آشوريين)؛ نسبةً لقوّة هرمز تخليداً لذكرى هرمز ملك شيخو قائد بتاليون الآشوريين في الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي تمّ توقيفه وإعدامه في شهر كانون الأوّل من عام 1963، بعد محاولته تفجير المنشآت النفطيّة لمدينة كركوك ـ وقد تمّ كذلك تدمير بعض قراهم كما كان حال قرية كوماني ـ قرب العماديّة منذ عام 1962 من قِبل نظام الزعيم عبد الكريم قاسم.

ورغم الفترة الزمنيّة القصيرة التي تسلّم فيها البعث مقاليد السلطة في العراق عام 1963 والحرب التي قام بها ضدّ الكورد، فقد ترك مجيئهم أثراً دموياً عند مسيحيي كوردستان.

انهيار حركة الجنرال بارزاني في آذار 1975 وسنوات القمع التي تلت هذا الحدث، كانت كارثيّة بالنسبة لمسيحيي كوردستان، حيث لم يكن هؤلاء ضحايا البعث لكونهم مسيحيين، ولكن لأنّهم يسكنون في الشريط الحدودي المشهور الذي حدّده البعث بعمق عشرين كيلومتراً وكان ينوي جعله منطقة محرّمة وميّتة، تواجدت على هذا الشريط بالذات العديد من القرى المسيحيّة في المرتفعات يزرعون ويعتنون بأجمل بساتين كوردستان.

سكّان قرية بيشاور الذين كانوا قد عبروا دجلة والتجأوا إلى سوريا في عام 1974، ومن ثمّ عادوا في عام 1975 إلى قريتهم، اضطرّوا هجرها بعد أشهر قلائل والذهاب إلى زاخو للعيش هناك. وكذا الحال بالنسبة إلى قرية ديرابون الواقعة على أطراف بيشاور، فقد طردت السلطات العراقيّة منها سكّانها في عام 1975.

 قرية شرانش دُمّرت لأوّل مرّة في عام 1976، واضطرّت 85 عائلة من قاطنيها إخلائها في 15 آب 1976، وأمر الجيش سكّان سانات الواقعة بالقرب من الحدود التركيّة بإخلاء القرية، ودمّرها في اليوم التالي مع الكنيسة القديمة المبنيّة منذ القرون الوسطى.

تميّزت هذه الفترة بالنسبة لمسيحيي كوردستان، حيث اضطرّوا للقيام بثلاث هجرات من القرى نحو المدن الكورديّة، كزاخو ودهوك وأربيل ومنها إلى بغداد، ومن بغداد إلى أوربا والولايات المتحدة وكندا حتى الوصول إلى أستراليا.

 

2.عمليات النزوح

عندما انتعشت الأحوال في بغداد والمدن الكبرى بعيد الحرب العالميّة الثانية عام 1945م، وضاقت سبل العيش في القرى المسيحيّة في سهل نينوى وشمال العراق؛ لعدم توفّر فرص العمل الكافية فيها، حدثت هجرة معاكسة من هذه القرى إلى بغداد والبصرة وكركوك للعمل في دوائر الدولة والمعامل أو الأعمال الحرّة، حتى وصل عدد المسيحيين في بغداد وحدها في بدايات الثمانينات من القرن الماضي قرابة المليون نسمة من الكلدان والآشوريين والسريان، وكان الكلدان يشكّلون الغالبيّة فيها.

إلاّ أنّه بسبب الحرب العراقيّة الإيرانيّة (1980 - 1988 م) وحرب الكويت (1990 م)، والأوضاع الاقتصاديّة المترديّة نتيجة الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق، اضطرّ الكثير من أبناء العراق من المسلمين والمسيحيين مغادرة البلد، وقُدّر عدد المسيحيين الذين هاجروا خلال عقدين من الزمان (1980 ـ 2000 م ) بما يزيد على ربع مليون شخص.

 

كما أنّهم خلال فترة الحرب العراقيّة الإيرانيّة تعرّض أبناء الطوائف المسيحيّة لعدد من حالات النزوح؛ نتيجة تعرّض مناطق سكناهم في المناطق الحدوديّة والمتاخمة لساحات القتال للقصف والتدمير، ممّا دفعهم للهجرة بحثاً عن الأمان والاستقرار داخل وخارج العراق.

 وقد اتّسعت هذه الظاهرة في السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق بسبب فقدان الأمن؛ إذ تعرّض المسيحيون ـ حالهم حال أبناء الشعب العراقي ـ إلى الكثير من عمليّات القتل والخطف والابتزاز، فضلاً عن الاستهداف المباشر لدور عبادتهم ومساكنهم، حيث بلغ عدد الضحايا (439) شهيداً و(6231) عائلة مهجّرة، وآخرها ما تعرّضت له كنيسة سيّدة النجاة من استهداف أدّى إلى مقتل (52) شخصاً وجرح أكثر من (66) آخرين، الأمر الذي دفع الكثير من العوائل إلى الهجرة إلى مناطق إقليم كوردستان ومناطق آمنة من سهل نينوى وخارج العراق، فلم يكن هناك أيّ اضطهادٍ ضدّهم في العهد الملكي على أساسٍ عرقي أو ديني إلاّ حادثة واحدة عام 1933م، وهي المعروفة بـ(مجزرة سميل)، والتي اقترفها بكر صدقي والتي راح ضحيّتها أكثر من أربعة آلاف شخصاً من شعبنا الآشوري.

لكنّ البعث شدّد قمعه ضدّ المسيحيين بعد ظهور الحركة القوميّة الآشوريّة التي ساندتها الآشوريين المهاجرين إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهم يدعمون الانتماء إلى الآشوريين القدماء الذين عاشوا في نينوى وبابل قبل 3000 سنة، أو إلى نسطوريي بداية المسيحيّة، ومفكّري هذه الحركة يبغون إعادة الحياة إلى القوميّة الآشورية على قسمٍ كبير من أراضي كوردستان.

 

3.هدم الكنائس المسيحيّة

هدم البعث أيضاً عدّة كنائس قديمة في منطقة العماديّة، فكنيسة مار أوديشو (عبد المسيح) ومار كردك (قدّيسٌ استشهد في القرن الرابع)، مسحها البعث عن خريطة الأرض في نيسان 1987.. بُنيت هذه الكنائس بين القرن الرابع والقرن السادس والسابع ميلادي وهدّموها في عام 1987. وكذا الحال بالنسبة لكنيسة سانت ماري في التلّة قرب أتروش، وكنيسة الداووديّة جنب بامراني، فقد هدّموهما أيضاً في عام 1987 بالآلات الميكانيكيّة أو بالديناميت.

ومن الصعب جدّاً ترتيب قائمة عن الكنائس المفجّرة خلال هذه السنوات، ولكن تمّ تهديم ما لا يقلّ عن ثلاثين قرية كلددانيّة، ومسح أكثر من أربعين كنيسة في بهدينان منذ عام 1962 وشرانش، وعلانش، وياردا، وباجوا، وبحير، واوسطانلاني، وبانونا، ودشتي تر، وازنار، وامرار، ومحمديّة، واشكفتي مارا، وتل كعبة، وناف كاندالا، وليفو، ومركسورا، وبيراخا، وبيدار، وديرابون، وكاراويلا، وطيشكابور، وبا جيدة، وبارالوجة، واشكاف دالي، وصوريا، وأفزروك (قريتين، كاثوليكيّة وأرمنيّة) وإشكاف دال، وشيوز، ومار يعقوب.

كانت بعض هذه الكنائس تحفةً في الفنّ المعماري المسيحي وخسارتها لا تعوّض مطلقاً.

لم يكتفِ البعث بتهديم الكنائس في المناطق الجبليّة لبهدينان فقط، وإنّما طالت يده أيضاً إلى مناطق أخرى، فهدم في عام 1988 كنيسة مار بنا المبنيّة في عام 1403 في كويسنجق.

كانت نتيجة سنوات حكم صدام في  العراق رهيبةً بالنسبة للمسيحيين، فحامي مسيحيي بغداد والبصرة المفترض دمّر مجتمع مسيحيي كوردستان، فعشرات الكنائس القديمة التي كانت تشكّل شهادات نادرة على أصول المسيحيّة قد هُدّمت، والعشرات من قراهم مُسحت عن وجه الأرض وهجّروا أهاليها.

كيفما كان مستقبل كوردستان ورغم بعض محاولات الترميم، فهنالك معالم قد زالت إلى الأبد، فليس هنالك قوّة قادرة على إعادة عشرات الآلاف من المسيحيين الذين هاجروا إلى الغرب واستقرّوا اليوم في أوربا أو في العالم الجديد..

4.حملة التعريب

مع بداية اندلاع الحركة الكرديّة في كردستان العراق عام 1961، تمّ تهديد القرى المحاذية للجبل والمجاورة لـ(عين سفني) من قِبل النظام الحاكم، لذا ترك أهلها قراهم وتمّ إسكانهم في عين سفني منهم الأكراد المسلمون والمسيحيون، لذا تمّ بناء كنيسة للكلدانيين فيها وبناء جامع بأمرٍ من الرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف أثناء زيارته عين سفني في منتصف الستينات، فعاش كلّ من الكرد المسلمين أو الكرد الإيزديين والأخوة الآشوريين بمحبّة وسلام.

وبعد انهيار الحركة الكرديّة في كردستان العراق عام 1975، قامت السلطات ثانية بتكملة مراحل التعريب في مدينة عين سفني والقرى التابعة لها، وتشويه وتغيير طابعها التاريخي والقومي. وصدر قرار من مجلس قيادة الثورة للاستيلاء على جميع أملاكها وعقاراتها، وترحيل المواطنين من أبنائها إلى القرى والمجمّعات القسريّة في (باعذرة) و(مهد)، والقسم الآخر إلى جنوب العراق.

وتمّ توطين مرتزقة النظام في المنطقة الحيويّة من عين سفني في منطقة (سه ري كانيي) أي (رأس العين)، وسمّيت القرية بقرية (رأس العين) المستعربة، حيث حُرِم أهلها الأصليون بالتمتّع بأراضيهم ومياههم، وتمّ توزيعها للموالين للنظام وجُرّد أهلها من جميع الحقوق المدنيّة وجُعلوا مشرّدين في داخل وطنهم.

5.محو الهويّة ومشكلة الجنسيّة

تعاملت الحكومة العراقيّة مع المسيحيين كعرب وليس ككورد، حيث لم يستفيدوا من الامتيازات الممنوحة للكورد خلال حرب إيران ـ العراق عام (1980ـ 1988)، الذين تمكّنوا من الخلاص من الجندية في الجيش النظامي والذهاب إلى الجبهة عبر تطوّعهم في الوحدات (الخفيفة ) والبقاء في كوردستان.

ولكن إن كانو عرباً فلماذا دمّروا القرى المسيحيّة؟!...

كما تعرّض شعبنا الكلدو آشوري إلى حملةٍ غير مباشرة لاحتوائهم وتعريبهم، حيث كانت سياسة حزب البعث قوميّة (أمّة عربيّة واحدة)، وهذا يعني محاولة فرض اللغة العربيّة والقوميّة العربيّة على الأقلّيات ومنهم شعبنا الكلدو آشوري، حيث حاول هذا النظام أن يمحو هويّة هذا الشعب العريق، بفرض الهويّة العربيّة عليه وفرض سياسة التعريب على الشعوب الغير العربيّة...

 وفي زمن نظام البعث بدأت أمواج الهجرة المسيحيّة بسبب بطش هذا النظام وحروبه المستمرّة وغياب القانون، حيث كان أحياناً يتمّ تنفيذ قوانين عشائريّة وقبليّة، وهذا يعني أنّ القويّ يأكل الضعيف (قانون الغابة). ومن ناحيةٍ ثانية كان (وما زال) أخوتنا الأكراد ـ وللأسف ـ يمارسون نفس دور نظام البعث بخصوص تكريد الأقلّيات ومنهم الكلدو آشور في إقليم كردستان، ويحاولون تغيير المعالم الحضاريّة والأثريّة للحضارة الآشوريّة، وتغيير أسماء المدن والقرى الكلدو آشوريّة والاستيلاء أو التجاوز على عشرات القرى للكلدو آشوريّة.

ولا ننسى التكالب والتنافس القائم بين حكومة المركز وإقليم كردستان للسيطرة على سهل نينوى الذي كان قبل مئة سنة ذو الغالبيّة المسيحيّة. بينما اليوم لا يتجاوز نسبة المسيحيين 30%، بسبب الحرب الناعمة التي شنّتها الحكومات السابقة واللاحقة في هذه المنطقة.

 وبسبب هذا التكالب بين الحكومة المركزيّة وإقليم كردستان، عانى شعبنا المسيحي بكافّة فئاته مختلف المعاناة، بسبب هذا الصراع وإهمال هذه المنطقة في كلّ مجالات الحياة الاقتصاديّة والأعماريّة والسياسيّة... وفقدان فرص التعليم والعمل، ممّا دفع الكثير من أبناء شعبنا المسيحي لترك أرضهم وقراهم ومدنهم، وهاجر الكثيرون منهم خارج العراق .

كما أنّ قضيّة الجنسيّة لم تقتصر على الكورد الفيليين فقط، بل امتدّت لتشمل كلّ من الأرمن وقسماً من العرب، حيث إنّ الحكومة استيقظت من سباتٍ عميق لتتذكّر أنّها في عام 1972 أصدرت عفواً عامّاً عن القائمين بالحركة الآثوريّة في عام 1933، وتعيد لهم الجنسيّة العراقيّة لمن أُسقطت عنه من المشاركين بتلك الحركة بموجب القرار رقم  (972) في 25/11/1972.

 وفي هذا الصدد أصدرت في عام 1997 تعليمات جديدة لمنح الجنسيّة العراقيّة للآثوريين، إلاّ أنّها كانت مجرّد حبرٍ على ورق وللاستهلاك الإعلامي فقط.

6.تعرّضهم لعمليات الأنفال

كانت حملة الأنفال عام (1988) دمويّة جدّاً بالنسبة لمسيحيي كوردستان، ففي منطقة زاخو دُمّرت شرانش كلّياً ونهائياً وطُرد سكّانها، وتعيش اليوم 90 عائلة من شرانش في أستراليا، وبعضاً آخر في كندا، وعشرون عائلة في زاخو، وآخرون في بغداد، والباقي في أوربا وقرية ليفو التي تألّفت يوماً ما من 150 مسكناً دمّرتها القوّات العراقيّة أيضاً في عام 1988، حيث قصفوها في البداية بالطائرات ومن ثمّ فجّروها بالديناميت.

كما أنّ خلال المرحلة الأخيرة من حملة الأنفال في بهدينان، تعاملت السلطات العراقيّة مع المسيحيين بقساوة أشدّ من تعاملهم مع الكورد المسلمين، حيث إنّ المسيحيين الذين أرادوا الاستفادة من عفو 6 أيلول 1988 وعادوا من تركيا التي التجأوا إليها، أوقفهم النظام في نقطة إبراهيم الخليل الحدوديّة واقتادوهم نحو جهة مجهولة، حيث تمّ بلا شكّ إعدامهم، وهكذا اختفى عدّة مئات من المسيحيين وبضمنهم الأطفال والنساء.

أفرغت حملة الأنفال الريف وتضخّم عدد المسيحيين في المدن، فعلى سبيل المثال كنيسة زاخو كانت تستقبل 600 شخصاً في عام 1985، وارتفع العدد إلى 1500 شخصاً في عام 1987، ليعود إلى 1176 شخصاً في عام 1990.

7.حصار بعد الانتفاضة

في عام 1991 وبعد انهيار الانتفاضة هرب مسيحيو بعض قرى بهدينان خاص مع الجماهير الكورديّة إلى تركيا، وفعل ذلك أيضاً مسيحيو أربيل وعنكاوا، ولا نعلم كم هو عدد الذين ماتوا في الاضطرابات الرهيبة أثناء النزوح.

كانت سنوات 1991ـ 1995 فضيعةً بالنسبة لمسيحيي كوردستان؛ نتيجة للحصار المزدوج عليهم من قِبل الأمم المتّحدة على العراق ومن قِبل نظام صدام حسين عليهم.

وقد تغيّرت الأحوال كلّياً بعد تطبيق قرار الأمم المتّحدة في المناطق الكورديّة. وفي نهاية سنوات التسعينات شهدنا حركة عودة من بغداد إلى كوردستان للمسيحيين الذين هاجروا إلى بغداد في أعوام 1975 ـ 1977، وقد عادوا هرباً من الوضع الاقتصادي المأساوي في العاصمة، وبسبب سيادة الأمن والاستقرار في كوردستان.

وتعيش اليوم 675 عائلة كلدانيّة في زاخو، حيث تمّ إعادة بناء أربع قرى من بين الأربعين قرية مسيحيّة المدمّرة في منطقة زاخوا ليفو (20 عائلة)، بيركوفا (20 عائلة)، وثلاث أو أربع عوائل في قريتين أخريين.

كما توجد في زاخو أيضاً كنيسة للكاثوليك السوريين مع القس و50 عائلة، وكنيسة أرثودوكسيّة للأرمن مع قس و130 عائلة، وكذلك يتواجد في دهوك تجمّع مسيحي مهمّ مع 400 عائلة كلدانيّة.

وتعتبر شقلاوة المبنيّة ـ حسب الأسطورة ـ من قِبل سليمان الحكيم واحدة من أكبر مراكز تجمّع المسيحيين في كوردستان، ففي القرن التاسع عشر حينما كان مجموع  سكّان شقلاوة 1500 فرد كان هنالك 1050 مسلم و400 مسيحي و50 يهودياً. واليوم من بين 450 عائلة كلدانيّة حصل 200 إلى 300 عائلة منهم على عملٍ في أربيل واستقرّوا مؤقّتاً بشكلٍ أو بآخر فيها، المرحلة الأولى قبل الهجرة النهائيّة، وستبقى عنكاوا مركزاً مسيحيّاً ضخماً تسكنها 2000 عائلة كاثوليكيّة وثلاثة قسس ومطران.

بعد الانتفاضة قدّر البعض بأنّ المسيحيين الذين بقوا في كوردستان هم بين 100.000 و200.000، يشكّل النسطوريون 10% منهم، ولكن وفقاً لتقديرات أخرى كان من المفترض أن يكون الرقم أقلّ بكثير من ذلك، فالمتوقّع لم يبقَ منهم غير 30.000 مسيحي في كلّ كوردستان في بداية التسعينات، فلا يمكن معرفة عددهم اليوم، ولكن من غير المعقول أن يعوّض المسيحيون العائدون من بغداد استنزاف الهجرة إلى الخارج.

فقد تعرّض المسيحيون لأنواع الاضطهاد من قِبل الأنظمة من هدم القرى والترحيل وحملات التعريب وما تركه الحصار، حتى تراجع عدد المسيحيين في العراق من (1.200.00) إلى أقلّ من ذلك بكثير بنحو ( 500.000).