دراسة: الصابئة أهوار جفّت وأنهار نضبت

حسين جلوب الساعدي

رئيس مؤسسة الهدى للدراسات

ذات النفع العام

 

هي إحدى الأقلّيات الدينيّة في العراق، وهي جماعة عرقيّة دينيّة تقطن على ضفاف دجلة والفرات جنوب العراق([1]).

وهي من أصول هندو أوربية.

وكلمة الصابئة إنّما هي مشتقّة من الجذر

(صبا)، والذي يعني باللغة المندائيّة: اصطبغ،

غطّ أو غطس في الماء، وهي من أهمّ شعائرهم

 الدينيّة، وبذلك يكون معنى الصابئة أي:

 المصطبغين بنور الحق والتوحيد والإيمان ([2]).

تدعو الديانة الصابئيّة للإيمان بالله ووحدانيّته مطلقاً لا شريك له، واحد أحـد، وله من الأسماء والصفات عندهم مطلقة، ومن جملة أسمائه الحسنى، والتي لا تُحصى ولا تـُعـَـد عندهم هي: (الحيّ العظيم، الحيّ الأزلي، المزكي، المهيمن، الرحيم، الغفور، حيث جاء في كتاب الصابئة المقدّس كنزا ربا: باسم الحي العظيم: * هو الحيّ العظيم، البصير القدير العليم، العزيز الحكيم* هو الأزلي القديم، الغريب عن أكوان النور، الغني عن أكوان النور* هو القول والسمع والبصر، الشفاء والظفر، والقوّة والثبات، مسرّة القلب، وغفران الخطايا).

يرجع الكثير من الصابئة المندائيين إلى شعب آرامي عراقي قديم، ولغته هي اللغة الآراميّة الشرقيّة المتأثّرة كثيراً بالأكاديّة. استوطنوا وسط العراق وبالأخصّ المنطقة الممتدّة من بغداد وسامراء من ناحية دجلة،

وإنّ آثار وجودهم منذ ألفي عام دست ميسان وفي مدينة الطيب في المحافظة المذكورة ([3]).

موطن الصابئة هو العراق أو الأصحّ (بلاد ما بين النهرين)، ويسمّيهم العراقيون بالعاميّة «الصبّة»، ويعيشون على ضفاف الأنهار وخاصّة دجلة وبين التجمّعات السكّانيّة في الأهوار، وهم جزء من سكّان العراق الأوائل عبر تاريخه الحضاري. ويشكّلون أقليّة دينيّة ما زالت تمارس طقوسها وديانتها إلى الآن.

 لقد ذكر في كتب المؤرّخين العرب القدماء بأنّ الصابئة كانوا يسكنون بطائح العراق، وهم عموماً يسكنون على ضفاف الأنهار؛ لما للماء والطهارة من أهمّية في حياتهم الدينيّة والروحيّة ([4]).

وعند إقامة الدولة الإسلاميّة كان يوجد أعداد كبيرة من الصابئة في بطائح العراق (الأهوار)، في المناطق السفلى لنهري دجلة والفرات بالذات، وفي بطائح عربستان من إيران (الأهواز). أمّا الآن فمركز الطائفة هو مدينة بغداد بعد هجرتهم الواسعة في أربعينيات القرن العشرين في العمارة والناصريّة، إضافة إلى تواجدهم في أغلبيّة المحافظات العراقيّة مثل: العمارة التي تعتبر موطنهم التاريخي في القريب والبعيد، والبصرة والناصريّة والكوت وديالى والديوانيّة، إضافة إلى تواجدهم في مدن الأهواز والمحمرة والخفاجيّة في إيران.

اشتهر الصابئة المندائيون منذ القِدم بالنتاجات الأدبيّة والعلميّة الرائعة، وإلى الآن تجد بينهم الطبيب والمهندس والمعلّم والمهني والشاعر والأديب الكثيرين.. فقديماً برع منهم: أبو إسحاق الصابي وزير الطائع والمطيع، وثابت بن قرة وولديه سنان وإبراهيم اللذان برعا في الطب والرياضة والفلك والترجمة، وأيضاً إبراهيم بن هلال الأديب الذائع الصيت، الذي تولّى ديوان الرسائل والمظالم سنة 960م([5]).

 وحديثاً برع منهم الكثير مثل: العلاّمة العراقي القدير المرحوم الدكتور عبد الجبار عبد الله صاحب الإنجازات العلميّة العالميّة في علم الفيزياء والأنواء الجويّة، وهو من القلائل الذي ساهم في شرح نظريّة اينشتاين النسبيّة، حيث أسند إليه منصب رئيس المجمع العلمي لعلوم الأنواء الجويّة في أمريكا. كما أنّه كان المؤسّس لجامعة بغداد ورئيساً لها في فترةٍ ما، وقد ساهم أيضاً في تأسيس جامعة البصرة([6])، ويعده البعض ألمع عالم في مجاله في القرن المنصرم.

 والكاتب العراقي المعروف عزيز سباهي، والفنّان التشكيلي يحيى الشيخ، والشاعرة لميعة عباس عمارة، والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، والدكتور تحسين عيسى، والدكتور عبد العظيم السبتي، والرسّامة والشاعرة سوسن سلمان سيف.. إضافة إلى الكثير من الأدباء والأطبّاء والمهندسين([7]).

ولكن في نفس الوقت هنالك مهنة يعشقونها وكأنّها سارية في عروقهم، وهي مهنة الصياغة التي توارثوها أب عن جد، وبرعوا فيها، ولا زالت أسواقهم ومحلاّتهم في شارع النهر وخان الشابندر في بغداد وفي جميع المحافظات العراقيّة، وبالأخص في مدينة العمارة التي تنحصر مهنة الصياغة وسوق الذهب بهم لا يشاركهم غيرها بهذه المهنة، وفي الأهواز في إيران..

والآن هم منتشرون بمحلاّتهم في أستراليا وأوروبا وأمريكا وكندا أيضاً.. ولا زالت أعمال صياغة الذهب والفضّة والنقش على الفضّة بمادّة «المينة» هي من إبداعاتهم.

ومن الذين برعوا في مجال فن صياغة الذهب والفضّة هم: زهرون بن ملا خضر، وحسني زهرون، وعنيسي الفياض، وناصر، وحاتم، ومنصور حاتم، وعبد سكوت، وبدن خضر، وكريم النشمي، وياسر صكر، وزامل، وضامن حويزاوي، وسعد رهيف، والمهندس حامد عبد الرزاق رويد وإخوته، ونصير لفتة شميل..

ولكونهم يعيشون في الغالب على ضفاف دجلة والفرات والأهوار جنوبي العراق، فقد برعوا بصناعة القوارب المعروف باسم (المشحوف) باللهجة العراقيّة، فضلاً عن آلات الحصاد والنقش على الفضّة والأدوات التي يستعملها الفلاّح والصيّاد في حياته اليوميّة: كالمنجل، والمسحاة، والمراوح، والفالة، والمجداف، والمردي وغيرها ([8]).

ومثلهم مثل باقي الديانات يحرص الصابئة المندائيون على إقامة أعيادهم الخاصّة والتي لها طقوس لا تشبه طقوس الأعياد في الديانات الأخرى، حيث إنّهم وبناءً على تعاليم ديانتهم وموروثهم الشعبي يعيشون طقوس عائليّة واجتماعيّة جميلة، ومن أبرز أعياد الصابئة: عيد (دهوا ربا) أو (العيد الكبير)، ويصادف هذا العيد في الأوّل من شباط المندائي.

 وفي هذا العيد يبقى المندائيون في بيوتهم ولا يخرجون منها لمدّة 36 ساعة ويسمّونها (الكرصة)، ويقول أحد الباحثين عن هذا العيد: الستّة والثلاثون ساعة التي (نكرص) فيها هي تمثّل الثلاثمائة والستون يوماً التي بقاها النبي يحيى ساكناً في ذلك الرحم المقدّس.

 أمّا العيد الآخر فهو (عيد شوشيان) أو (عيد الأيام الستة)، والعيد الآخر هو مناسبة (دك الفل)، ثمّ العيد الآخر وهو (دهوا هنينا)، وهناك عيدٌ آخر من أعياد المندائيين هو (تذكار أبو الهريس). ومن أهمّ أعياد الصابئة المندائيين عيد (البرونابي) أو (الأيام الخمسة البيضاء)، ويسمّى أيضاً (البنجة) ([9]).

تاريخ الصابئة في العراق:

إنّ تاريخ الصابئة المندائيّة يلفّه الغموض من أغلبيّة جوانبه، وهذا باعتراف الكثير من الباحثين في المجال المندائي. ويرجع سبب ذلك إلى انزوائهم وانغلاقهم الديني الشديد ومنذ فترات طويلة، بسبب الاضطهاد الكبير الذي تعرّضوا له على فترات متعاقبة، فآثروا الانزواء والانغلاق للمحافظة على دينهم وتراثهم. كما أنّ ضياع وحرق الكثير من الكتب التي تتحدّث عن تاريخهم وتراثهم كان سبباً آخر.

فيدّعي البعض أنّهم يُرجعون دينهم إلى نبي الله آدم ويقولون: بأنّ صحفه لا زالت لديهم إلى الآن (وهي من ضمن كتابهم المقدّس كنزا ربا ـ الكنز العظيم)، وهذا الكلام يتّفق تقريباً مع ما ورد عند المؤرّخين والكتّاب العرب القدماء، والذين يُرجعون الصابئة إلى أصل قديم جدّاً..

 فمنهم مَن يُرجعهم إلى آدم أو إلى ابنه شيث أو شيتل كما يدّعي المندائيّة! فمثلاً يُرجع ابن الوردي تاريخهم إلى النبي شيت ابن آدم والنبي إدريس (هرمس). وفي كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني يقرّ المؤلّف بأنّ الصابئة يوحّدون الله ويؤمنون بتلقّي المعرفة العليا بواسطة الروحانيات ([10]).

وإنّ الباحثين في القرن الماضي انقسموا في أصل الصابئة المندائيين إلى قسمين: فمنهم مَن يرجّح الأصل الشرقي للمندائيين (أي من بلاد وادي الرافدين)، علماً أنّ الأصل الشرقي يرجع إلى الأصل الغربي بعد هجرة الصابئة من فلسطين ونهر الأردن إلى وادي الرافدين، بسبب اضطهاد اليهود وظهور نبوخذ نصّر الذي أسقط الدولة اليهوديّة وسجنهم([11]).

ومنهم مَن يرجّح الأصل الغربي (أي من فلسطين).. ويبقى الأصل الشرقي للمندائيّة هو الرأي الأكثر ميولاً له من قِبل الباحثين. ومتّفق عند الباحثين الآن بأنّ المندائيّة كانت منتشرة في بلاد وادي الرافدين، وأيضاً فلسطين قبل المسيحيّة، أي قبل أكثر من 2000 عام.

وللطائفة كتابٌ تاريخي يسمّى (حران كويثا ـ حران الداخليّة أو الجوانيّة)، وإنّ صابئة حران يختلفون عن صابئة البطائح، فالأوّل يُعدّون من عَبدة الكواكب. أمّا صابئة البطائح فيعدّون من الموحّدين وأهل الكتاب([12]).

كما كان الصابئة قد اعتُبروا من قبل الإسلام على أنّهم من أهل الكتاب؛ إذ إنّ تعبير (الصابئين) الذي ورد في القرآن الكريم في ثلاث آيات، كان يقصد تلك الجماعة العراقيّة التي آمنت بالتوحيد واتّخذت الصباغة شعاراً ورمزاً لها ([13]).

أمّا النص المندائي التاريخي الأهمّ هو الذي يبيّن بأنّه عندما جاء الإسلام وجعل يميّز بين الأديان ذات الكتب المنزلة والأديان التي لم تكن موجّهة من السماء، قدّم الريشما (آنوش بن دنقا) 639 ـ 640 ميلاديّة ـ الذي ترأس وفد الصابئة المندائيين ـ كتابهم المقدّس كنزا ربا (الكنز الكبير) للقائد العربي الإسلامي آنذاك، وربّما كان سعد بن أبي وقاص، وأطلعه على ديانتهم.

 كما يُذكر أنّه قبل منهم ربّما تكون أوّل شخصيّة تُذكر في تاريخ المندائيين هي امرأة اسمها (شلاما بنت قدرا)، وهذه المرأة ـ التي تسمّى باسم أمّها، أو معلّمتها في الكهانة ـ هي أقدم امرأة (مندائيّة) ورد اسمها على أنّها ناسخة النص المعروف بالكنزا شمالاً كتاب المندائيين المقدّس الذي يتألّف من قسمين (يمين شمال)، والجزء الأيسر بشكل نصوص شعريّة يتناول صعود النفس إلى عالم النور..

 و(الكنزا ربا) هو أقدم نص مندائي. وتعود شلاما هذه إلى سنة 200 بعد الميلاد، وهي بذلك تسبق بعدّة أجيال الناسخ المندائي الشهير زازاي بر گـويزطه سنة 270 بعد الميلاد والذي يعود إلى حقبة (ماني).

لكنّ حملة الاضطهاد التي قادها الحبر الأعظم للزرادشت (كاردير) لم يستطع القضاء تماماً على المندائيّة، إلاّ أنّ التدوين توقّف تماماً لعدّة قرون، ولم نشاهد التأثيرات والكتابات المندائيّة إلاّ فيما يسمّى بأوعية (قحوف) الأحراز والأشرطة الرصاصيّة.

وفي العصر الساساني أصبح المندائيون الكتبة والنسّاخون الرئيسيون للوثائق الرسميّة بكلّ اللهجات السائدة، واهتمّوا باللغات، فأصبحوا همزة الوصل بين الأقوام العربيّة والآرامية وبين الفرس الساسانيين، ومن ثمّ الجيوش اليونانيّة التي غزت العراق في القرن الرابع قبل الميلاد، واتّخذت من بابل عاصمة لها تحت قيادة الإسكندر المقدوني، وقاموا بترجمة أساطير وعلوم بابل إلى لغة الأغريق.

وفي منتصف القرن السابع الميلادي عُرِفت هذه الطائفة لأوّل مرّة في أوساط الباحثين في أوروبا.

لقد برع الباحثون الألمان في مجال البحث أو الاهتمام بهذه الطائفة. وقد قام باحثٌ ألماني بترجمة الكتاب المقدّس لهذه الطائفة، ولا يُنكر جهود الباحثة والمستشرقة الإنكليزيّة الليدي دراور(E.S. DROWER) في إزاحة الكثير من الغموض عن معتقدات هذه الطائفة وتاريخها وتراثها الديني.

 وللعلم أنّ هذه الباحثة قد عاشت في جنوب العراق متنقّلة ما بين المندائيين لدراسة ديانتهم وتراثهم، حوالي ربع قرن، واستطاعت أن تُترجم أغلبيّة الكتب والمخطوطات المندائيّة إلى الإنكليزيّة ([14]).

تعدادهم:

إنّ أوّل مَن أشار لعدد الصابئة في جنوب العراق هو الرحّال الفرنسي نافرنييه عندما قام برحلة للعراق في القرن السابع عشر، حيث قال: (ونصارى القدّيس يوحنا كثيرون جدّاً في البصرة والقرى المجاورة لها...)، ويقول: (وأكّد لي غير واحدٍ من رؤساء دينهم أنّ هؤلاء النصارى يبلغون في كلّ المواطن المذكورة أعلاه نحو خمسة وعشرين ألف عائلة)([15]).

 وفي الملحق قال المترجم: إذا افترضنا أنّ العائلة تتألّف من أربعة أفراد كان نفوس الصابئة في أيام نافرنييه ـ أي قبل ثلاثمائة سنة ـ زهاء مئة ألف صابئي، ولكنّ هذا العدد أخذ يتناقص ويتضاءل بمرور الأعوام، وليس بأيدينا إحصاء دقيق بعدد نفوسهم اليوم، وإنّما ورد فيما يلي ما ذكره بعض المؤلّفين العراقيين بصدد عددهم ابتداء من الأقدم:

1.انستاس ماري الكرملي: الصابئة والمندائيّة ظهرا تباعاً في مجلّة (المشرق) البيروتيّة في السنوات 1900 ـ 1902، قال: وقد أحصيت بنفسي الصابئة في بلدة فوجدتهم لا يزيدون على 1800 فرد، وهم يسيرون إلى الانقراض حثيثاً.

2.هاشم السعدي: جغرافية العراق الحديثة (بغداد 1924) قال في (ص82): إنّ نفوسهم 8500  نسمة.

3.عبد الحميد عبادة: مندائي أو الصابئة الأقدمون (بغداد 1927): قال في (ص11): إنّ نفوسهم 5000 نسمة.

4.طه الهاشمي: مفصّل جغرافية العراق (بغداد 1930) قال في (ص110): إنّ نفوسهم 8000 نسمة.

السيّد عبد الرزّاق الحسني: الصابئة قديماً وحديثاً (القاهرة 1931) قال في (ص61): إنّ نفوسهم 5300 نسمة، ونقل رأي بعض الصابئة القائل أنّ عددهم يربو على 10.000 نسمة ([16]).

وفي دليل الخليج القسم الجغرافي لوريمر في التعداد الكلّي لقضاء العمارة أنّ الصابئة فيها 1000 نسمة ([17])، وفي سوق الشيوخ على نهر الفرات يبلغ عددهم 700 نسمة ([18]).

كما قُدّر عددهم في العراق عام 1927 بـ (10000) نسمة، وذكرهم الدليل العراقي الرسمي عام 1936 بحوالي أربعين ألف نسمة([19])، بينما ذكرهم عبد الرزاق الحسني في (العراق قديماً وحديثاً) اعتماداً على إحصاء 1947 بحوالي (6368) نسمة، وبلغوا عام 1957 حسب الإحصاء الرسمي (11825) نسمة، وبلغوا عام 1965 حسب الإحصاء الرسمي أيضاً (14572) نسمة، وعدّ نعيم بدوي الناشئ قومه بحوالي (15000) نسمة، وعدّتهم ناحية مراني في (مفاهيم صابئيّة مندائيّة) بـ(18000) نسمة.

وفي مجلّة (المجلّة) (تشرين الثاني/نوفمبر 1986) ورد عددهم بعشرين ألف نسمة، وقيل: إنّ عددهم حالياً بلغ مئة ألف نسمة: خمسون ألفاً منهم داخل العراق، والخمسون الآخرون بإيران وبقيّة العالم. وورد عددهم في تقرير مديريّة الأمن العامّة (داخل العراق فقط) في إحصاءات: (1947، 1957، 1965، 1977) على التوالي: (6597)، (11425)، (14،262)، (15937) ([20])، وأكثر نسبة لهم ببغداد ثمّ البصرة ثمّ العمارة ثمّ الناصريّة.

الانتهاكات التي تعرّضوا لها:

رغم ظروف الاضطهاد والقسوة والإجبار على تغيير الدين في العشرينات من القرن الماضي، لم يتوقّف المندائيون من أداء واجبهم في بناء وطنهم العراق، فتوجّهوا لممارسة المهن الحرّة التي تتناسب مع متطلّبات واحتياجات المنطقة كصناعة الأدوات الزراعيّة والقوارب وأدوات الصيد والصياغة وغيرها، وتوجّه أبناؤهم إلى المدارس والكلّيات المختلفة لمواصلة تعليمهم.

وبرز منهم الكثير من الأطبّاء والأساتذة والعلماء والمهندسين كان لهم الدور الكبير في عمليّة البناء اللاحقة في العراق، ودخل الكثير منهم في المعترك السياسي الوطني، ورغم كلّ هذا بقيت الطائفة بعيدةً عن ممارسة حقوقها وطقوسها الدينيّة والتحدّث بلغتها، ومارسوا حياتهم الاجتماعيّة بأمان بظل حماية القبائل العربيّة التي ينزلون بجوارهم، مع علاقات وثيقة جدّاً يسودها الاحترام والمصالح المتبادلة.

وبادروا ليكون جزءاً من كيان الدولة العراقيّة حتى تأسيس كما يتضح من رسالة رئيس الملّة الصابئة.

وبعد ثورة 14 تموز من عام 1958 كانت هناك بوادر من قِبل قيادة الثورة وخاصّة عبد الكريم قاسم لإنصافهم، ومن بينها اختيار الدكتور عبد الجبّار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد، وهو أعلى منصب حصل عليه مندائي، وكانت هناك بعض الوعود بإنصافهم واحترام حقوقهم وبناء معابد لهم، ولكنّ الأمر لم يستمرّ طويلاً، حيث حدثَ انقلاب 8/شباط/1963 ودخل المندائيون على أثرها من جديد في حمّامات القتل والاعتقال والتعذيب والسجون على يد سلطة البعث، بتهمة انتمائهم للحزب الشيوعي، ومن بين المعتقلين الدكتور عبد الجبّار عبد الله نفسه الذي تعرّض لأبشع أنواع التعذيب والإهانة، وتجاوز الذين تمّ تصفيتهم المائة شهيد إضافة لمئات المعتقلين.

وبالرغم من صدور قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدّل الخاص بالأقلّيات الدينيّة من قِبل حكومة البعث لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي باحترامها لحقوق الإنسان. وبالرغم من توقيع العراق على عددٍ من المواثيق الدوليّة ومنها ميثاق الأمم المتّحدة لعام 1945، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، وكافّة المواثيق والمعاهدات الدوليّة الخاصّة بحماية حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة ومنع جريمة الإبادة، فلم يحول ذلك دون استمرار معاناة الصابئة المندائيين بعد انقلاب عام 1968، وكغيرهم من أبناء الشعب العراقي تعرّضوا للانتهاكات والمعاناة بسبب أماكن سكناهم في جنوب العراق وسياسات النظام التعسّفيّة وحروبه، فلاقوا من المعاناة والاضطهاد واستمرار التمييز بينهم وبين الآخرين، بل أُنكرت حقوقهم وبشكلٍ واضح، ولم تأخذ أيّ من الحكومات آنذاك أيّ إجراءات لحمايتهم... وقد اختلفت وتنوّعت أشكال الاضطهاد التي كان يعاني منها الصابئة المندائيّة على يد النظام السابق ومنها:

1.عمليات التصفية والقتل

في الثمانينات من القرن الماضي وخلال دخول العراق الحرب مع إيران، تعرّض الصابئة المندائيون في العراق إلى عمليات تصفية من نوع غير التقليدي الذي كان يألفه الشعب العراقي من قِبل النظام البائد.. حيث أُرسل غالبيّة شبابهم إلى الجيش ومن ثمّ إلى الخطوط الأماميّة للجبهة، رغم أنّ ديانتهم تُحرّم القتال، وعلى أثر ذلك  قُتلَ منهم ما يزيد عن 25% من مجموع شباب الطائفة في تلك الفترة والذي تجاوز عدّة مئات، إضافة لعشرات الذين أُعدِموا لأسباب سياسيّة بسبب انتمائهم إلى الحزب الشيوعي..

فمع بداية دخول الأحزاب الآيديولوجيّة ومنها الحزب الشيوعي عام 1934 وانتشاره بشكل واسع في العراق، دخل أبناء الطائفة المندائيّة إلى هذا الحزب بشكل فردي، وبسبب النشاط السياسي للكثير منهم تعرّضوا للاعتقال حالهم حال أعضاء الحزب.

2.ترك مناطق سكناهم

ما مرّ على الصابئة المندائيين خلال الحرب العراقيّة الإيرانيّة عام 1980 ـ 1988 لم يقتصر فقط على قتل عددٍ كبير جدّاً من شباب الصابئة، والذي يصل في بعض العوائل إلى أربعة من أبنائها فقدتهم في الحرب، إضافة إلى تضرّر العوائل الساكنة في المدن الجنوبيّة، والتي كانت في حالة تماس مع إيران، مثل: مدن البصرة وأقضيتها، والعمارة وأقضيتها، والتي يسكنها كثير من العوائل المندائيّة بعد أن استُهدفت هذه المدن بالقصف المدفعي واستحال العيش فيها، فاضطرّت هذه العوائل للهجرة الداخليّة إلى مدن الوسط مثل: بغداد، والرمادي، وديالى، والكوت، والديوانيّة، وكركوك؛ لاستحالة الهجرة إلى خارج العراق، ومنع السفر المفروض آنذاك بسبب الحرب العراقيّة الإيرانيّة.

3.حرمانهم من حريّة التعبير عن الديانة والمعتقد

 تعرّض الصابئة المندائيّة إلى حملةٍ شرسة من قِبل النظام لطمس هويّتهم ومنعهم من حريّة التعبير عن ديانتهم؛ بدليل عدم وجود أماكن عبادة بالقدر الذي يتلاءم مع عددهم ... بل وصل الأمر بالنظام إلى حدّ الانعدام لهذه الأقلّية.

 وفي رغبةٍ للتخفيف عن هذه المعاناة تمّ عرض الأمر على المرجع الشيعي في العراق آنذاك آية الله السيد أبو القاسم الخوئي؛ لتعريفه بالديانة المندائيّة، ووضع بين يديه ما يملكون من كتب وحجج تبيّن أنّهم من الديانات الموحّدة. وبعد دراسةٍ مطوّلة لكتبهم وتاريخهم أكّد فيهم: (إنّ الأقوى والأظهر بحسب الأدلة أنّ الصابئيين يعدّون من أهل الكتاب). إلاّ أنّ هذه الفتوى لم تُفعّل بسبب الحضر الذي كان يتعرّض له المراجع أنفسهم من قِبل النظام ليبقى المندائيون بنفس معاناتهم.

 وقد أفتى المرجع الديني السيّد علي الخامنئي بطهارة الصابئة وعدّهم من أهل الكتاب، وحضوا بالرعايّة والاهتمام في إيران، حيث زاره وفدٌ من شيوخ صابئة الأهواز. وتشير بعض الإحصائيات زيادة عددهم في إيران ليصل ما يوازي عددهم في العراق، وانتقل الثقل الديني إلى إيران لوجود عالم بدرجة كنز ربا، وهي أعلى درجة دينيّة لديهم.

 كما أنّ تبنّي النظام السابق للحملة الإيمانيّة والتي روّجت وبشكل مسيس وانفلات التطرّف الديني، هذا كلّه خلقَ حالة ضغطٍ كبير ويأس وتردّي على حياة الصابئة المندائيين ودخولهم بنفق مظلم لا ضوء بآخره.

4.تدنّي المستوى المعيشي والاقتصادي

وبعد غزو الكويت عام 1990 من قِبل النظام السابق والحرب التي حصلت لتحرير الكويت، وانكسار الجيش العراقي والانتفاضة الشعبيّة التي حصلت عقب الحرب، وفرض الحصار على العراق، والتضخّم الاقتصادي السريع الذي بدأ يأكل أموال العراقيين، وانتشار حالة البطالة، وكساد العمل، وبقاء الرواتب على حالها، وتدنّي الوضع الصحّي والاجتماعي، ممّا أدّى إلى استشراء الجريمة والفلتان الأمني، ممّا أثّر مباشرة على مهنة الصابئة المندائيين الرئيسيّة وهي (صياغة الذهب والمجوهرات)، كلّ ذلك أدّى إلى تدنّي العمل في هذه المهنة، بسبب اغتيال العشرات من الصابئة المندائيين، بعد أن تعرّضوا إلى حالات نهب وسلب وقتل على محلاّتهم التجاريّة (محلاّت صياغة الذهب)، إضافة إلى تدنّي الحالة المعاشيّة لشريحة الموظّفين من الصابئة المندائيين، وبسبب التضخّم الكبير وصل راتب الموظّف إلى دولار أمريكي شهرياً!! ممّا أضعف الوضع المادّي والاجتماعي لهم.

 

5.تدمير البيئة التي عاش فيها الصابئة

عاش الصابئة منذ آلاف السنين على ضفاف الأنهار وفي بطائح (أهوار) العراق؛ وذلك لأنّ عبادتهم وطقوسهم الدينيّة والحياتيّة تعتمد على التعميد في الماء، وكلّ أعمالهم لها علاقة بالماء، لذا كان الصابئي يختار المكان اللائق والجميل في الأهوار وعلى ضفاف الأنهار ليتّخذها محلاً لسكناه ومكاناً لعبادته.

 وفي نفس الوقت هناك أعمال ومهن برعَ فيها الصابئة، منها: صناعة المشاحيف (الزوارق)، والأدوات الزراعيّة بعد المحنة التي تعرّض لها سكّان الأهوار إثر عمليات التجفيف والتصفية وتحويل الأهوار إلى صحاري وبراري، اختفت عنها كلّ ملامح الحياة التي اعتاد أن يعيشها سكّانها ومنهم الصابئة، حيث اضطرّوا للهجرة الواسعة بعد تدمير بيئة الأهوار إلى طريقة العيش في المدن، وكان من بينهم الصابئة الذين كادت أن تختفي عندهم صنعة المشاحيف والأدوات الزراعيّة، ممّا تسبّب برحيل جماعي للصابئة من الأهوار إلى المدن.

ولو تمّ استقراء ظاهرة الهجرة لتبيّن حجم المعاناة والاضطهاد الذي تعرّض له الصابئة جرّاء التجفيف، فمثلاً كان في مدينة (المشرح) وحدها أكثر من ثلاثمائة بيت للصابئة، ولكن بعد عمليّة التجفيف واختفاء الحياة البيئيّة للعيش فيها، أصبح العدد ستّ عوائل فقط! وهذا دليلٌ واضح على حجم الاضطهاد.

6.الهجرة إلى خارج العراق

 نتيجة للظروف التي مرّ بها الصابئة المندائيّة فقد نشطت في بداية العقد الأخير في القرن الماضي عمليّة هجرة منفلتة كان ضحيّتها الصابئة المندائيين، حيث إنّ أكثر من 80 ٪ من الطائفة المندائيّة قد هاجروا إلى خارج العراق، وقد انخفض عددهم من 60 ألف فرد في أوائل سنة  1990 إلى 4 آلاف فرد اليوم.

هؤلاء المندائيون المتبقّون والذين لا يستطيعون مغادرة العراق حالياً يتنقّلون إلى المدن المختلفة داخل البلد، حيث إنّ وضع المندائيين يختلف عن الأقلّيات الأخرى في العراق؛ لكونهم لا يملكون أيّ منطقةٍ جغرافيّة حُدّدت لهم كملاذٍ آمن.

 ولهذا السبب نشطت في بداية العقد الأخير في القرن الماضي هجرة واسعة كان ضحيّتها الصابئة المندائيين، حيث أصبحوا فريسةً إلى عصابات التهريب التي كانت تنهب جميع ما يملكوه، بعد أن باع الصابئة المهاجرون بيوتهم وأثاثهم وسياراتهم وكلّ ما يملكون بثمنٍ بخس جدّاً كانت لا تكفي أحياناً لتهجير قسم من العائلة المندائيّة، وفي بعض الأحيان كانوا يقعون ضحيّة الاحتيال والنصب من النظام فيعودون أدراجهم إلى العراق لا يملكون أبسط مقوّمات الحياة.

 وإذا حالفَ بعضهم الحظّ فإنّهم يصلون إلى الدول التي تستقبل المهاجرين في أوربا وأستراليا وأميركا، وهم لا يملكون أيّ شيء ليبدؤوا من الصفر في دول المهجر، بعد أن تمزّقت وتفرّقت العوائل وأصبحت في أكثر من دولة ممّا انعكس سلباً على وضع عوائلهم.

أمّا بعد الاحتلال عام 2003 وفي أجواء فقدان الأمن وانتشار الفوضى، فقد تعرّض المندائيون إلى الكثير من الانتهاكات لحقوقهم، وتعرّضوا كغيرهم للعمليات الإرهابيّة والاعتداءات، وظلّ الكثير منهم في الجنوب معزّزاً ومحترماً من قِبل الأهالي لروابط الصداقة والجوار.

وإنّ المندائيين الذين قُتلوا لم يكن أحدٌ منهم شرطياً أو رجل أمن أو عضواً بمجلس النوّاب أو وزيراً، أو غيرها من المناصب التي اعتُبرت سبباً للقتل والتهجير، بل إنّ جميع الضحايا من الأبرياء المسالمين وأصحاب الشهادات والكفاءات العلميّة، وليس بينهم مَن يستحقّ ذلك.

 فالمندائيون هم أكثر الناس طيبة وبساطة وخلقاً، مُسالمون بكلّ معنى الكلمة، وكلّ مَن عايشهم وتعاملَ معهم يدرك مدى المحبّة والهدوء والصفاء والتسامح الذي يحملوه في أنفسهم.

ك خصوصيّة في أمواج

 

 



([1])  موسوعة الأحزاب العراقيّة: 436.

([2])  الصابئة غرس التوحيد الأوّل: 32 و38.

([3])  أصول الصابئة ومعتقداتهم الدينيّة: 55.

([4])  الثنية والإشراف: 37.

([5])  الأديان والمذاهب بالعراق: 58.

([6])  موسوعة أعلام وعلماء العراق: 1/464.

([7])  موسوعة أعلام وعلماء العراق: 1/672.

([8])  إنّ أرياف وأهوار العراق في الجنوب تعتمد بشكل أساسي على صناعة الصابئة في توفير حاجاتهم الضروريّة، حتى ارتبطت تلك الصناعات والصياغة بهم وخصوصاً في محافظة ميسان وذي قار.

([9])  المندائيون الصابئة: 207.

([10])  الملل والنحل: 70.

([11])  الميثولوجيا المندائيّة: 31.

([12])  الصابئة ماضيهم وحاضرهم.

([13])  سورة البقرة:62، وسورة المائدة: 69، والحج:17.

([14])  العراق قديماً وحديثاً.

([15])  العراق في القرن السابع عشر كما رآه الرحّالة الفرنسي نافرنييه: 100 ـ 102.

([16])  العراق في القرن السابع عشر كما رآه الرحّالة الفرنسي نافرنييه: 185 الملحق رقم (24).

([17])  دليل الخليج القسم الجغرافي: 1/89 .

([18])  نفس المصدر: 6/2064.

([19])  دليل المملكة الدليل الرسمي للعراق سنة 1936: 739.

([20])  التوزيع الديني للسكّان العراقيين: 26.