دراسة : الشبك خصوصيّة في أمواج

حسين جلوب الساعدي

رئيس مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية

(ذات النفع العام)

 

ظاهرةٌ سكّانيّة متميّزة بتميّز عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ولباسهم.

ويتوزّع الشبك في منطقة سهل الموصل في جغرافيا على شكل مثلّث منقلب القاعدة، تشكّل قراهم (حوالي السبعين قرية) هلالاً يسمّيه البعض بمنطقة (سهل نينوى) في الشمال الشرقي لمدينة الموصل (وهي منطقة تقع بين الحدود الإداريّة لإقليم كردستان ومدينة الموصل)، تمتدّ من الضفّة الغربيّة لنهر الزاب الكبير من ناحية تلكيف وإلى ناحية بعشيقة وناحية برطلة وقضاء الحمدانيّة (قراقوش) وقضاء النمرود، ممتدّاً على طوال (70) قرية، إضافة إلى سكن أعداد كبيرة منهم في مركز مدينة الموصل في عدّة أحياء، ويعيشون جنباً إلى جنب مع أخوتهم المسيحيين والإيزيديين والتركمان والعرب والأكراد ([1]).

كما يتواجدون في أطراف محافظة الموصل في عدّة نواحي وقرى يصل عددها إلى ستّين منطقة بين ناحية وقرية حسب الترتيب الإداري لها، فضلاً عن تواجد عددٍ كبير منهم في مدن عراقيّة أخرى كأربيل وبغداد. بالإضافة إلى ذلك فقد هاجر عددٌ آخر منهم إلى دول عربيّة وأوربيّة.

الشبك حالياً بغالبيّتهم من الشيعة الاثني عشريّة مع قسم من السنّة، وهم فئة تضمّ في صفوفها مختلف الأقوام العراقيّة من عرب وتركمان وأكراد، ويقطنون في الجانب الشرقي من الموصل، وأهمّ مناطق انتشارهم هي: دراويش، قره تبّه، باجربوغ، بازواية، طوبرق زيارة، خزنة تيه، منارة شبك، طيراوه، علي رش، طوبراوه، كورغريبان، كبرلي، باشبيثه، تيس خراب، ينكيجه، خرابة سلطان، بدنة، باسخره، شيخ أمير وبعويزه.

 ويسكن الشبك مع قوم يسمّون بالــ(باجوان)، قيل: إنّ أصل اسمهم (باج الان)، وهؤلاء شيعة وسنّة، يُظهر الشيعة منهم حبّاً زائداً للإمام علي والأئمة D، ولسان الباجوان قريب جدّاً من لسان الشبك ولكنّه يختلف عنه قليلاً، وهذه أسماء القرى التي يسكنها الباجلان في الديار الموصليّة والشبك، وهي: بئر حلان، جريوخان اورته خراب، عمر كان، اللك، قره شور، ترجله، تل عامود، بلوات، كهريز، جديدةؤ، بطلي (البساطليه)، تل عاكوب. 

كما ينتشر الشبك في قرى أخرى من الموصل مثل: كوكجلي، اريه جي، عمر قايجي، زهرة خاتون، جنيجي، القاضية، الخضر. والقرى التي يسكنها التركمان والعرب هي: قره قوينلي العليا، بشري خان، بابنيت، يارمجه، قز فخرا، الشمسيات والسلاميّة. أمّا قرى بايبوخ وخرساباد والعباسيّة، وباريمة، والفاضليّة، وتلياده، فيسكنها الباجلان فقط.

أمّا لغتهم فيقول الباحث رشيد الخيون: إنّ الشبك يتكلّمون لهجةً كرديّة تحتفظ بالكثير من الألفاظ القديمة، إضافة إلى تأثير المحيط الدولي المتمثّل بوجود ألفاظ فارسيّة أو تركيّة أو عربيّة. وتذكر المصادر أنّ لهجة الشبك هي اللهجة الكرديّة الباجلانيّة، وهي إحدى فروع اللهجة الكورانيّة ([2]).

إلاّ أنّ هناك مصادر عدّة تقول: إنّ لغة الشبك تنتمي إلى مجموعة اللغات الآريّة الهندو أوربيّة، وهي لغةٌ مستقلّة تتميّز بمفرداتها الخاصّة والمتميّزة ونغمتها وطريقة لفظها، وبالرغم من كثرة المفردات التي تشترك فيها مع اللغات الأخرى مثل: العربيّة والفارسيّة والتركيّة والهنديّة والكرديّة، فلا يمكن اعتبارها لغة خليطاً؛ فإنّ لهذا الاشتراك مبرّراته وأسبابه، وجميع هذه اللغات في الحقيقة تشترك في مفردات عديدة، والسبب إذا لم يكن أنّها من منبع واحد وأصول مشتركة، فالتأثّر المشترك بسبب سكنى منطقة واحدة واعتناق دين واحد، والاختلاط والمصاهرة لهما دورهما الفعّال في تسرّب هذه المفردات من لغةٍ إلى أخرى.

 فالإسلام وضع تعاليمه وأحكامه وعباداته وشعائره باللغة العربيّة، فكان على الشبك بعد دخولهم الإسلام تعلّم العربيّة لقراءة القرآن، وتعلّم الفقه الإسلامي، والجيرة والمصالح المشتركة حتّمت عليهم تعلّم اللغة الكرديّة، وأصولهم القديمة جلبت معها تأثيرات اللغة الفارسيّة والهنديّة.

وبالنسبة إلى عقيدة الشبك، فهي الأخرى لم تسلم من التشويه حتى في انتمائهم إلى الفِرق والمذاهب الإسلاميّة...! فقد ذهب البعض إلى اعتبارهم من فِرق الغلاة؛ لما يظهرونه من حبّ وتعظيم للإمام عليA، وتأثّرهم بالطريقة البكتاشيّة التي تقترب من حالة التعلّق بالأئمّةD، كما أكّد عليه وأبرزه صاحب كتاب (بقايا الفِرق الباطنيّة في الموصل الصادر عام 1950).

 والحقيقة أنّ الشبك جميعهم من المسلمين، والنسبة الغالبة منهم نحو (70%) ـ كما يذكرون هم أنفسهم ـ على المذهب الجعفري والباقون من السنّة. وقد تأثّر بعضهم بالطرق الصوفيّة المختلفة ومنها الطريقة (البكتاشيّة)، نسبة إلى الحاج بكتاش بن السيّد محمد والملقّب بإبراهيم الثاني، وهو من أحفاد السيّد إبراهيم المجاب بن الإمام موسى الكاظمA.

 وقد ولِد في خراسان وانتقل إلى الأناضول وأنشأ الطريقة البكتاشيّة التي كان لها دورٌ سياسي واجتماعي كبير بين القرنين (15 و 18م)، وقد أثّرت في المجتمع الشبكي تأثيراً كبيراً، وأكسبتهم خصوصيّة مجتمعهم القائم على التسامح والتعاون ونبذ الفرقة، واحترام الآخرين والتحلّي بالقيم والأخلاق الإسلاميّة الحميدة، فلم يكن من بينهم السارق أو الزاني أو قاطع الطريق، ولم تسرِ بينهم عادة نهب النساء أو الغزو، وهي عادات كانت تتباهى بها بعض عشائر المنطقة إلاّ ما ندر، وكان مرتكب هذه الأفعال من الشبك يُبقي عاراً على أهله وعشيرته ويُضرب به المثل، ويتذكّره الناس لمدّة طويلة؛ ليكون عبرةً لغيره بمنعه من تقليده.

ومن ناحية عباداتهم، فهم من الشيعة الاثني عشريّة كما ذكرنا، وهم متمسّكون بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف على وفق المذهب الجعفري، ويؤدّون طقوس العشرة الحزينة من محرّم الحرام مستذكرين مأساة كربلاء ومقتل الإمام الحسينA وسبي عياله، وهم يدفعون الخمس من أموالهم ووارداتهم إلى سادتهم الذين يعترفون بصحّة انتسابهم إلى آل البيتD، ويؤدّون فريضة الحج إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، كما يزورون العتبات المقدّسة في كربلاء والنجف وسامراء وبغداد وكلّ أضرحة الأئمّة وأولياء آل البيتD على امتداد العراق، ويفعل الشيء نفسه السنّة منهم كلّ حسب مذهبه.

تأريخ الشبك في العراق:

عُرف الشبك ضمن أقدم الروايات التاريخيّة منذ أواخر العهد العبّاسي في العراق، وأشارت الوثائق العثمانيّة إليهم كجماعة مستقلّة منذ القرن السادس عشر الميلادي. وورد ذكرهم في دائرة المعارف البريطانيّة والإسلاميّة، وأشار الكاتب بيل في (تأريخ العراق القريب) الذي يبحث عن تأريخ العراق في عهد الاحتلال البريطاني بين سنة (1914 ـ 1920): (وتوجد كتلةٌ كبيرة من الشبك والصارلي الذين يقال: إنّهم ينتمون إلى طائفة باطنيّة سريّة أو إلى الشيعة الغلاة؛ إذ تربطهم بعض العلاقة بالعلي اللهيّة).

 وبالرغم من كثرة الكتابات التي تناولت أصل الشبك وقدّمت تبريرات عديدة لتأييد وجهات نظر كتّابها، إلاّ أنّها في الحقيقة لم تتّفق جميعاً على تحديد أصل (الشبك)، لكن يمكن أن نلمس ثلاثة اتّجاهات رئيسيّة وهي:

الاتّجاه الأوّل:

الذي يرى أنّ الشبك هم من العشائر الكرديّة التي استوطنت العراق منذ زمنٍ بعيد. وهذا الرأي ليس له سند علمي؛ لوجود عشائر ذات جذور تركمانيّة وأخرى عربيّة.

 الاتّجاه الثاني:

فهو الذي ذهب إلى أنّ الشبك هم من القبائل التركيّة التي نزحت إلى العراق في عهد السلطان طغرل بك السلجوقي. وهذا الاتّجاه مردودٌ أيضاً؛ لأنّ لغة الأتراك النازحين إلى العراق في ذلك الحين كانت هي اللغة الآذريّة التي يتكلّم بها اليوم تركمان العراق في كركوك وقصباتها وتلّعفر في الموصل، وهي تختلف اختلافاً واضحاً عن اللغة الشبكيّة.

 في حين يرى عددٌ من أنصار هذا الاتّجاه أنّ الشبك من بقايا عشائر القره قوينلو (حكمت دولة القره قوينلو العراق بين عامي 1410ـ 1468م، وحكمت دولة الاق قوينلو العراق بين عامي 1468ـ 1508م). وهذا مردودٌ للسبب السابق.

 ويرى آخرون أنّهم من الأتراك الذين جاء بهم السلطان مراد الرابع سنة (1047) وأسكنهم شمال العراق، وهذا الرأي مردودٌ أيضاً؛ لوجود الشبك قبل هذا التاريخ في المنطقة.

الاتّجاه الثالث:

فيرى أصحاب هذه الاتّجاه أنّ الشبك جاؤوا من إيران إبّان حكم الصفويين، ويقول الصراف: (جاء الشبك من جنوب إيران وأنّ لسانهم خليط بين الفارسيّة والكرديّة والعربيّة وقليل من التركيّة، وأنّ لهجتهم أقرب إلى لهجة البلوش).

والحقيقة أنّ الشبك هم من الأقوام التي استوطنت الجانب الشرقي من مدينة الموصل في عهد الدولة الساسانيّة، والعهود التي تلتها واختلطت وتصاهرت مع بعض العشائر العربيّة والكرديّة والفارسيّة، وانصهروا جميعاً في بودقة الشبك، أي أنّ القوميّة الشبكيّة بالنسبة لهؤلاء هي في الحقيقة جاء عن طريق تفاعل قديم، ولعلّ من أقدم المصادر التي أشارت إلى استيطان الشبك منطقة الموصل هو كتاب (الكامل في التاريخ لابن الأثير)، حيث يقول: (عندما استولى الساسانيون على البلاد وأعادوا تعمير قلعة الموصل وأسكنوا فيها جنودهم، شيّدوا حولها القرى والدور).

 والملاحظ أنّ هذه القرى التي يشير إليها ابن الأثير، هي قرى الشبك نفسها في الوقت الحاضر بدلالة أماكنها وتسمياتها، ويؤيّد هذا الرأي الكاتب سليمان الصائغ في كتابه (تاريخ الموصل) ج1 ص53 حيث يقول: (إنّهم جاؤوا من الشرق واستوطنوا هذه المنطقة، مَثلهم مثل إخوانهم العرب والأكراد الذين سكنوا الموصل في فترات مختلفة).

 وهذا القول له أسانيد كثيرة في الواقع، فالشبك الذين دخلوا قرية (باشبيثه) المسيحيّة الأصل على سبيل المثال عام (557 هـ)، أدخلوا معهم فنّ البناء الساساني إلى هذه المناطق، حيث تميّزت دورهم بأشكالها المخروطيّة.

أمّا خصوصيّة الشبك كجماعة أثنيّة مستقلّة، فتؤكّدها إحدى المذكّرات الخاصّة بتفتيش منطقة الحمدانيّة ذات الأغلبيّة الشبكيّة التي اعتمدتها وأصدرتها الحكومة العراقيّة آنذاك (المذكّرة رقم 541 في عام 1952)، والتي تنصّ على أنّ منطقة الحمدانيّة تتكوّن من عدّة قوميّات أكثرها عدداً (القوميّة الشبكيّة)، تليها القوميّة العربيّة، فالكرديّة، فالتركمان، فالمسيحيون، وهذا اعترافٌ صريح من الحكومة الملكيّة العراقيّة باستقلاليّة الشبك.

تعدادهم:

مضى أكثر من نصف قرن على دخـول الشبك في السجلاّت الرسميّة للدولة العراقيّة في إحدى وثائق الدليل الإحصائي، الذي هو اعتراف بوجـود مكوّن له حقوق دستوريّة وسياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة، لكن جغرافيا واثنوغرافيا يؤكّد تواجد الشبك في هذه المنطقة قبل هذا التاريخ بكثير.

ويتوصّل رشيد الخيون من خلال دراسته حول الشبك في كتابه (الأديان والمذاهب بالعراق)، إلى أنّ عدد نفوس الشبك يتفاوت التقديرات والإحصاءات حول عدد نفوس الشبك، منها التقديرات الإنكليزيّة القديمة التي عَدّتهم بعشرة آلاف نسمة. وفي الإحصاء العراقي عام (1947) عدّوهم جميعاً مع الإيزيديين بثلاثة وثلاثين ألف نسمة.

 كما أنّ هناك بعض الإحصائيات التي كانت قد أجرتها الجهات الإداريّة لبعض المناطق، مثل الإحصائية المقدّمة إلى وزارة الداخليّة العراقيّة من قِبل السيّد عبد الرزّاق شكارة بالمذكّرة المرقّمة (547) بتاريخ (25/5/1952) بصدد النسب السكّانيّة في قضاء الحمدانيّة، ومجملها كالآتي: (الشبك والبيجوان 13398، المسيحيون 11999، العرب 2635، التركمان 2597، الصارلية 1284).

وفي عام (1960) اعتبرت الحكومة العراقيّة عدد نفوس الشبك عشرة آلاف نسمة، في حين كان الانكليز في عام (1925) في إحصاءاتهم اعتبروا عدد نفوس الشبك عشرة آلاف نسمة. وبحسب الإحصاء السكّاني الحكومي الرسمي في العراق عام (1977) فإنّ عدد الشبك بلغ (80) ألف نسمة.

 فإذا نظرنا إلى الإحصائيات بين عامي (1925 و 1960) هل يعقل خلال (35) عاماً لم يتزايد الشبك ولو نفراً واحداً، وأمّا إذا نظرنا إلى الإحصائيات بين عامي (1960 و 1977) فنلاحظ ازدياد عدد نفوس الشبك إلى حوالي (70.000) نسمة، هذا كلّه أدلّة على عدم حياديّة الحكومات العراقيّة المتعاقبة في نظرتها إلى المكوّنات العرقيّة والطائفيّة في العراق.

 ومن الملفت للنظر أنّ الدليل العراقي لعام (1936) وإحصاءات أخرى لم تذكر الشبك بالاسم، على اعتبار أنّهم كرد مسلمون، فليس هناك تفاصيل خاصّة بالعشائر، عربيّة كانت أو كرديّة، لكن جميعهم في إحصاء عام (1947) مع الإيزيديين فيؤكّد الرأي الرسمي المعتمد على البحوث والدراسات المذكورة سلفاً على أنّهم منفصلون عن الأكراد، وفي إحصاء عام (1977) إشارة إلى أنّهم عرب، حسب الادّعاء الرسمي.

 كما أنّ البعض من مثقّفي الشبك يدّعون أنّ نسبتهم 4% تقريباً من نسبة سكّان العراق، أي حوالي مليون نسمة من أصل (25) مليوناً، ونفس المشكلة السكّانيّة موجودة عند كلّ المكوّنات المذهبيّة والعرقيّة في العراق، فلأجل إنهاء هذه المشكلة النسبيّة لكلّ مكوّن، فإنّ العراق بحاجة إلى إجراء إحصاء سكّاني كامل لإظهار حقيقة مجموع كلّ مكوّن بصورته الواقعيّة بصورة حياديّة تامّة.

ورغم ذلك ليست هناك أرقام رسميّة دقيقة تبيّن عدد الشبك في العراق بسبب قلّة الإحصاءات الحديثة بهذا الخصوص، وهذا العامل يرجع لسياسة خاصّة كانت تتّبعها الحكومات العراقيّة في تهميش القوميّات المكوّنة للشعب العراقي، والتركمان من ضمن مَن شملهم هذا القانون، إلاّ أنّ البعض يرجّح أن يتراوح عدد الشبك بين (100- 150) ألفاً يتوزّعون على أكثر من ستّين قرية متفرّقة.

الانتهاكات التي تعرّض لها الشبك:

بدأت معاناة الشبك منذ العهد الملكي إثر تعرّضهم للاضطهاد الطائفي بسبب انتماء أغلبيّتهم إلى المذهب الجعفري، فقد كانوا يتّهمون بالروافض، بسبب سكناهم في منطقة أغلبيتها سنّية، إلاّ أنّ التعصّب المذهبي أخذ يضمحل في منتصف القرن الماضي نتيجة التفاعل التجاري والاقتصادي، وبدأت الحكومات المتعاقبة تهتمّ بهذه المنطقة شيئاً فشيئاً، إلاّ أنّ هذا الاهتمام كان بقصد تنفيذ سياسات معيّنة تخدم أهدافها بالدرجة الأساس، حيث اعترفت الحكومة في حينها بأقلّيات منطقة الموصل، وأخذ الشبك يمارسون بعض شعائرهم دون إعاقة من مؤسّسات الحكومة، ولكنّها بقيت تنظر إلى الشبك بعين الريبة، إلاّ أنّها لم تصل إلى مرحلة يمكن القول فيها إنّها أعطت حقوق الأقلّيات في هذه المنطقة.

وبعد استلام النظام السابق للحكم عام (1968) تعرّض الشبك إلى اضطهاد لم يسبق له نظير، خاصّة خلال الحرب العراقيّة الإيرانية، واتُّهم عدد كبير منهم بولائهم لإيران زوراً و بهتاناً، وأُعدم آخرون؛ لانتمائهم لحزب الدعوة، ومُنع الكثيرون من أبناء الشبك من إكمال دراساتهم، أو تعيينهم في المناصب المهمّة، أو حتى الصغيرة في دوائر الدولة، فقد كانوا دائماً محلّ شكّ واتّهام بعدم الولاء للحكومة والحزب، بل حتى البعثيين منهم لم يُعطوا ما يستحقّونه من مناصب في الدولة؛ للتشكيك الدائم بولائهم للحزب.

 ولم تكتفِ الحكومة السابقة بهذه الإجراءات، بل تمادت في إجراءاتها بطمس هويّتهم من خلال سياسة تعريب المنطقة وفرض الهويّة العربيّة عليهم قسراً، وعلى هذا الأساس قامت الحكومة بترحيل أكثر من ثلاثة آلاف عائلة شبكيّة إلى مناطق الحكم الذاتي ممّن سجّلوا قوميّة أخرى غير العربيّة، وهدّمت دورهم وقراهم، وصادرت عقاراتهم لأسبابٍ لا شكّ أنّها معروفة... ويمكن عرض أهمّ الانتهاكات التي تعرّض لها الشبك بما يلي:

1.سياسة الإجبار على تغيير العقيدة والمذهب

كانت إحدى أبرز أعمال السياسات الظالمة لحكم حزب البعث في العراق هي: تطبيق سياسة تهجير العوائل الشبكيّة من مناطقهم الأصليّة التي كانوا يقطنون فيها إلى أحياء داخل مدينة الموصل، فاختلط الكثير من هذه العوائل بالعوائل الموصليّة بالصهر الاجتماعي، وفقد الكثير منهم قيمهم المذهبيّة والقوميّة، وتعتبر نتيجة حتميّة لتلك السياسات الهادفة من قِبل النظام البعثي، والتي كانت ترمي إلى إحداث التغييرات القوميّة والمذهبيّة، إضافة إلى ضغوطات قيم المجتمع الموصلي ذات الانتماء العربي السنّي، فتنكّرت بعض هذه العوائل بأصولها الشبكيّة القوميّة والمذهبيّة؛ خوفاً من توجيه الاتّهامات العقائديّة المشهورة بإطلاق كلمة (الرافضة)، ومَن ثبتت عليه هذه التهمة حينها فكان حكمه إمّا الإعدام أو القتل، ما لم يقم المتّهم بتغيير عقيدته ومذهبه إلى مذهب السلطة، وحتى أُطلق عليهم بأنّهم من الأصول الفارسيّة، بل إنّهم خمينيون خلال الحرب العراقيّة الإيرانيّة.

كما ظهرت في أوساط الشبك عادات وتقاليد خاصّة كالدروشة وما شابهها، حيث أخذوها من مذاهب شتّى؛ نتيجة معاناتهم للظلم والسياسات التي استُعملت في العراق ضدّ الشيعة عموماً من ناحية، ومن ناحية أخرى بُعدهم عن الوجود الشيعي وفواصل اللغة والمكان حالَ دون معرفة الشبك للمذهب الشيعي بشكل تام. إضافة إلى تعرّض الشيعة في العراق إلى اضطهاد ومحاصرة ثقافيّة من الناحية المذهبيّة في عقائده وأحكامه، بعد تعرّض علماء الدين الشيعة للإعدام والتصفية، وما قام به النظام من غلق المدارس الدينيّة في النجف وكربلاء والكاظميّة وسامراء، ومصادر الجمعيات الخيريّة والثقافيّة ومنع الشعائر الحسينيّة، ومنع تداول وانتشار الكتاب الديني، وتعطيل المكتبات العامّة.

 هذا كلّه جعل الشيعة والشبك عرضة للتجهيل في الكثير من مناطق العراق ولا سيّما في وسط الشيعة القاطنين في شماله، ولغاية في نفوسهم بخس الكثير من الكتّاب حقّ الشبك في انتمائهم الديني والمذهبي والقومي، فوصفوهم تارة بالبكتاشيّة، وأخرى بالقزلباشيّة، وثالثة بالصوفيّة، وأخرى بالغلاة، والبعض أخرجهم من الإسلام، وظهرت أخيراً محاولات إخراجهم من أصولهم التركمانيّة بدعوى أنّهم أكراد وهلمّ جرّا.

2.التهميش والإهمال وفقدان الهويّة

 رغم أنّ الشبك لهم خصوصيّتهم اللغويّة والمذهبيّة التي كانت ملحوظة في بداية تأسيس الدولة العراقيّة، وقد كانت لهم مدرسة تدرّس بلغتهم عام (1920)، كما جاء في كتاب (تاريخ العراق القريب) ([3])، لكنّهم عانوا من الظلم والتهميش منذ أمدٍ بعيد، فمنذ تواجدهم في المنطقة بعد سقوط دولهم كانت الولاة والحكومات المتعاقبة في العراق تمارس ضدّهم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد؛ لانتمائهم المذهبي والقومي، واستمرّ ذلك الظلم طيلة الفترات اللاحقة، خاصّة في عهد النظام البعثي الذي رفض الاعتراف بهم، وإجبارهم

 


بطريقةٍ أو أخرى على تغيير قوميّتهم لإحدى القوميّتين العربيّة أو الكرديّة في التعداد السكّاني للسنوات (1977م) وسنة (1987م)، فمَن اختار منهم القوميّة الكرديّة كان نصيبه هدم مسكنه والترحيل إلى مناطق كردستان، ومَن اختار منهم العربيّة كان نصيبه العيش في مناطق التهميش والإهمال مع الاتّهام أحياناً بالأصول الأعجميّة.

وبأوامر حكوميّة خاصّة بتوقيع صدام حسين في عام (1977)، تمّ قسرياً تغيير قوميّة الشبك وتسجيلهم عرباً بصورة رسميّة في سجلاّت الدولة العراقيّة، ومع هذا التغيير الديموغرافي المبرمج والكامل، ففي عهد صدام حسين تمّ في عامَي (1988- 1989م) تهجير قرى بكاملها إلى مجمّعات قسريّة في سهل حرير بمحافظة أربيل، وكذلك إلى منطقة بازيان ومنطقة جم جمال؛ لغرض تغيير واقعهم القومي إلى قوميّة أخرى، وليس بالاكتفاء على تعريبهم في السجلاّت الرسميّة.

ومن الجدير بالتوضيح بصورة أكثر دقّة هو: أنّ عدداً كبيراً من الشبك بسبب الضغوط السياسيّة والسياسة القمعيّة القاضية بتغيير القوميّة والظروف الاجتماعيّة خلال السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم من قِبل حكومة حزب البعث، بدؤوا يبحثون عن الجذور العربيّة للتخلّص من الاضطهاد القومي، فلتوفير الحماية لهم ولعوائلهم من الملاحقة السياسيّة بدأ بعض أبناء الشبك يضعون لأنفسهم ألقاباً لعشائر عربيّة كالجبور والطي والجحيش، وهكذا.

 وبعد السقوط والتحرّر من النظام السابق لا زال هناك الكثير من أولئك الشبك بقي متمسّكاً بهذه العشائر العربيّة.. وكانت هناك عدّة عوائل شبكيّة أصيلة ومرموقة كعوائل العزير فى قرية اليارمجة، وعوائل البو سلمان من قرية بارزكتان، هذه العوائل وغيرها ربطت نفسها بعشيرة الجبور..

وتعتبر تطبيق سياسة التغيير الديموغرافي إحدى سيئات حزب البعث العربي الاشتراكي إبّان حكمه العراق، وهي تطبيق بارز لإهانة أبسط حق من حقوق الإنسان، وهي تضييع أصله وقوميّته وإجباره على تغييرها إلى قوميّةٍ لا ينتمي إليها الإنسان لا من قريب ولا من بعيد.

 

الترحيل القسري وهدم القرى

بدأ تهجير قسم من العائلات الشبكيّة سنة (1975)، ثمّ تهجير قرى بكاملها إلى مجمّعات قسريّة للغرض نفسه في عام (1988 - 1989)، وقبل ذلك كانت السلطة قد سجّلتهم خلال تعداد عام (1977) عرباً، بل وتمادت في إجراءاتها بطمس هويّتهم من خلال سياسة تعريب المنطقة وفرض الهويّة العربيّة عليهم قسراً، ومن قبل كانت الإحصاءات تجمعهم مع الإيزيديين.

وعلى هذا الأساس استمرّت الحكومة بترحيل وتهجير الشبك كما حدث في 10/نيسان/1990 وفق الوثيقة رقم (1741)، المعنيّة بترحيل أكثر من ثلاثة آلاف عائلة شبكيّة إلى محافظتي أربيل والسليمانيّة، بعد أن تمّ تدمير البيوت أمام ساكنيها، ما أدّى ذلك إلى تدمير 30 قرية من قرى الشبك ومصادرة عقاراتهم.

أحكام الإعدام واتّهامهم بالتبعيّة لإيران

تعرّض الشبك إلى اضطهادٍ واضح خاصّة خلال حرب الخليج الأولى واتّهام عدد كبير منهم بولائهم لإيران، وهذا ما تؤكّده الوثائق الصادرة عن جهاز الأمن الخاص وجهاز المخابرات الموجود بين أيدينا، علماً أنّ الشبك قدّموا الكثير من القتلى والمفقودين والأسرى والمعوّقين في الحرب العراقــيّة الإيرانيّة...

وطيلة العقود الماضية مُنع الكثيرون من أبناء الشبك من إكمال دراساتهم أو تعيينهم في المناصب المهمّة في الدولـــة؛ بسبب التشكيك بولائهم للحزب، وصدر أوّل مرسوم جمهوري (المرقّم 718 لسنة 1984) الخاص بإعدام عدد من أبناء القوميّة الشبكيّة بتهم سياسيّة، حيث تمّ إعدام العشرات من أبناء القوميّة الشبكيّة بحجّة انتمائهم لحزب الدعوة.

 وفي عام (1991) وبعد وساطات عديدة, تمّ إعادتهم إلى مناطق سكناهم، ولكن لم يتمّ تعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم.

ولم يقتصر اضطهاد الشبك من قِبل النظام السابق، بل تعرّضوا أيضاً إلى عمليات قتلٍ وإبادة منظّمة على يد الجماعات الإرهابيّة والتكفيريّة في الساحل الأيسر من مدينة الموصل، بعد استهداف مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في شباط 2006.

 ولقد تمّ قطع رؤوس العشرات وقتل أكثر من (1200) شخص منهم وبطرق وحشيّة، حيث تمّ التمثيل بجثثهم وحرق منازلهم وتهجير الآلاف من عوائلهم, وتجاوز عدد المهجّرين المسجّلين منهم فقط في وزارة الهجرة والمهجّرين أكثر من (3500) عائلة....!([4]).


 

 

            

 

 

الفصل السادس: الإيزديّة الماضي والحاضر المترنّح

   

 



([1]) الأقلّيات في العراق، الذاكرة ـ الهويّة ـ التحدّيات: 207.

([2]) الأديان والمذاهب في العراق: 513.

([3]) تاريخ العراق القريب: 314.

([4]) تقرير وزارة حقوق الإنسان، قسم ضحايا الإرهاب.